“شبح الإخوان”.. فزاعة انتخابية لإقصاء الصوت المسلم من الانتخابات الفرنسية

بقلم أمل بوبكير

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

أعاد تقرير حكومي فرنسي جديد، قدمه وزير الداخلية برونو ريتايو، إلى الواجهة شبح “جماعة الإخوان المسلمين” باعتبارها تهديداً إسلامياً سرياً يتربّص بالمؤسسات الفرنسية، في محاولة مزعومة للتسلل إليها والسيطرة عليها. 

غير أن استراتيجية سياسية أكثر عمقاً تقف خلف هذه الصورة المثيرة للقلق وتتمثل في تقويض شرعية المشاركة السياسية للمسلمين غير الملتزمين بالرواية الرسمية، تمهيداً للانتخابات الرئاسية والتشريعية المرتقبة عامي 2026 و2027، بالإضافة إلى تعزيز مكانة الأحزاب اليمينية المتطرفة باعتبارها “الحارس الأمين” للجمهورية أمام عدوٍ مفترض.

في 21 مايو/أيار، أعد موظفان مدنيان تقريراً صنّف بدايةً على أنه “سري للدفاع” قبل تسريبه إلى صحيفة *Le Figaro ثم عرضه على مجلس الأمن القومي الفرنسي، حيث حذّر التقرير من “استراتيجية تسلل” مزعومة يقودها فاعلون مرتبطون بجماعة الإخوان المسلمين، بغرض التأثير على مؤسسات الدولة من الداخل وتحويلها تدريجياً، بما في ذلك المدارس والمجالس البلدية والجمعيات الرياضية.

ورغم أن التقرير لم يتضمّن أي أسماء أو أدلة ملموسة، إلا أن شخصيات حكومية وإعلامية محافظة سارعت إلى تداوله بوصفه “دليلاً دامغاً” على ما وصفه وزير الداخلية بـ”التغلغل الإسلامي”. 

وسرعان ما دعا رئيس الوزراء السابق غابرييل أتال إلى إصدار تشريعات جديدة لمكافحة ما يُسمّى بـ”الانفصال”، بما يشمل منع ارتداء الحجاب للفتيات تحت سن 15 عاماً، وهذا الخطاب ليس بجديد ولا هو بمفاجئ في توقيته.

تواطؤ سياسي بين الحكومة واليمين

وفي الوقت الذي تكتسب فيه الأحزاب اليمينية المتطرفة زخماً انتخابياً، فيما تظهر بوادر عودة لليسار داخل بعض الدوائر الحضرية، يبدو أن حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون باتت تتقارب مع اليمين التقليدي على أرضية أمنية مشتركة. 

ويتمثل هذا التواطؤ في الدور المزدوج الذي يلعبه وزير الداخلية ريتايو، الذي يجمع بين الترويج للخطر الإسلامي المزعوم وتقديم الحلول الأمنية المزعومة له.

ولا يقتصر الهدف من هذه الديناميكية على محاربة النفوذ الإسلامي بقدر ما هو محاولة للتحكم في مخرجات الانتخابات المقبلة، إذ أظهرت الانتخابات السابقة في يوليو/تموز 2024 إمكانية حدوث تغيير مفاجئ.

فقد ساهمت الكثافة التصويتية العالية في المناطق ذات الأغلبية المسلمة والعمالية واليسارية في الحد من صعود حزب “التجمّع الوطني” اليميني المتطرف بقيادة لوبان، وهو السيناريو الذي تخشى السلطة التنفيذية تكراره.

الخوف الاستراتيجي.. لا الأيديولوجي

وليس هذا الخوف أيديولوجياً بقدر ما هو استراتيجي، فقد أثارت إبادة دولة الاحتلال في غزة غضباً واسعاً بين المسلمين الفرنسيين، خصوصاً من فئة الشباب، وبات كثيرون لا يرون في الدولة الفرنسية مجرد كيان غير مبالٍ بمأساة غزة بل متواطئاً في ما تتعرض له.

وفي هذا السياق، تحوّلت احتمالية إعادة التعبئة الانتخابية للمسلمين إلى “تهديد” للنظام الجمهوري الفرنسي، ليس لما تمثّله من تعبير ديمقراطي مشروع، بل لأنها تهدد معادلة السلطة التقليدية القائمة: صراع دائم بين اليمين واليمين المتطرف على السيطرة على الخطاب العام، وتحشيد الناخبين المحافظين، واحتكار تمثيل “الجمهورية”.

ولكن، ما الذي نعرفه فعلاً عن الوجود السياسي الحقيقي لجماعة الإخوان المسلمين داخل فرنسا؟

أسطورة بلا جذور واقعية

استناداً إلى عشرين عاماً من البحث الميداني حول النشاط الإسلامي في فرنسا، وإلى نتائج تقريري الأخير عن التصويت الإسلامي والتمثيل السياسي، لا يوجد ما يشير إلى وجود مشروع انتخابي منسق تقوده جماعة الإخوان أو أي من شبكاتها. 

بل على العكس، تظهر البيانات أن سردية “المشروع الإسلامي السياسي” هي من نتاج فاعلين سياسيين خصوصاً من اليمين واليمين المتطرف يستخدمون هذه المزاعم أداةً لتبرير استبعاد المرشحين المسلمين أو المتضامنين مع القضايا الإسلامية من الساحة الانتخابية.

والواقع يشير إلى وجود مشهد سياسي متفرق، غالباً ما يكون محلياً، قائم على مبادرات مدنية نابعة من شعور بالظلم المناطقي والتهميش السياسي، أكثر مما هو مدفوع بأيديولوجيا دينية واضحة.

وفي حال تداخل الدين مع القرار الانتخابي لدى بعض الناخبين، فإن ذلك يتم في إطار مركّب يشمل الوضع الطبقي، ومدى الثقة بالمؤسسات، وتفسيرات مختلفة لمفهوم المشاركة الديمقراطية.

ووفقاً لمقابلات ميدانية، فإن الدوافع الأساسية للمشاركة الانتخابية لدى الناخبين المسلمين تدور حول قضايا حياتية ملموسة مثل المطالبة بأمان أكثر في أحيائهم السكنية ومدارس عامة ذات جودة وسكن كريم، وهذه المشاركة غالباً ما تتخذ شكل الدفاع عن الكرامة في وجه نظام لا يزال ينظر إلى المسلم الناشط سياسياً بوصفه عنصراً مشبوهاً.

التصويت كآلية للهروب لا للمطالبة

تشير أبحاثي إلى أن حتى أبسط أشكال المشاركة المدنية، مثل التصويت، كثيراً ما تكون مدفوعة برغبة في تجنّب التمييز المناطقي والاجتماعي، لا بدافع دعم أجندة دينية، حيث أن أسطورة “التصويت الجماعي للمسلمين” لا تجد سنداً في الواقع الاجتماعي، بل تُبنى غالباً على خيال سياسي تتغذى عليه سرديات اليمين المتطرف المعادية للمسلمين، ويشارك فيها أحياناً اليسار بشكل انتهازي.

بل إن كثيراً من المسلمين المحافظين اجتماعياً يعزفون عن التصويت أصلاً، نتيجة لانعدام الثقة والافتقار إلى تمثيل حقيقي، في وقت يُطلب منهم فيه التعبئة فقط لمنع اليمين المتطرف، من دون أن يُقدَّم لهم شيء يُذكر.

وتُظهر نتائج بحثي أن هذه التوقعات الزائفة حول وحدة التصويت الإسلامي تحجب تنوّع الآراء السياسية داخل هذا المكوّن المجتمعي، والذي يشمل الممتنعين عن التصويت، وأولئك الذين يصوّتون لليسار أو الوسط أو حتى لأحزاب محافظة، وذلك بحسب السياق والمرشحين والظروف.

وحتى عندما يُنتخب مرشحون من خلفيات إسلامية، فإنهم نادراً ما يتبنّون خطاباً طائفياً، بل يعكس وجودهم نوعاً من التطبيع الاجتماعي مع واقع التنوّع الفرنسي، حيث لم يعد يُنظر إلى العمداء أو النواب المسلمين كاستثناءات.

أما الدعوات التي يوجّهها بعض الأئمة للتصويت، فهي غالباً تكون استجابةً لطلب المرشحين الذين يحشدون جميع ناخبيهم قبيل الانتخابات، لا نابعة من مبادرة دينية تماماً كما يحدث في الكنائس أو المعابد اليهودية.

كبش فداء سياسي

ورغم تراجع تأثير القيادات الممتدة من جماعة الإخوان المسلمين، وانفصال الأجيال الشابة عن ذلك الإرث، إلا أن مصطلح “الإخوان” لا يزال يُستخدم في الخطاب الرسمي لا لأن ذلك يعكس مشروعاً سياسياً حقيقياً، بل لأنه يقدّم إطاراً مناسباً لتوجيه الاتهامات وصناعة “عدو داخلي”.

في الواقع، تبقى مشاركة الناخبين المسلمين في فرنسا أقل مشابهة بكثير مما هي عليه في دول أوروبية أخرى، حيث أصبح تمثيل المسلمين في المؤسسات الديمقراطية أمراً طبيعياً. 

أما في فرنسا، فإن الغموض في التقرير الحكومي ليس خللاً، بل يبدو أنه متعمّد، فبواسطة عدو غير مرئي، تكتسب الدولة قدرة خطابية على تبرير المراقبة، وتقييد حرية التعبير، وقمع المعارضة، تحت ذريعة “الحزم”.

وحتى الأحزاب التي تتبنّى خطاباً إسلامياً واضحاً، مثل “اتحاد الديمقراطيين المسلمين في فرنسا” (UDMF) أو “حزب المساواة والعدالة” (PEJ)، لم تنجح في حشد تأييد يُذكر أو تحقيق اختراقات انتخابية، الأمر الذي يشير إلى أن “التصويت الإسلامي” لا يُمثّل قوة منظّمة، بل يعكس قلقاً سياسياً ومجتمعياً لم يجد من يمثّله.

الانفصال الحقيقي هو الانفصال عن الديمقراطية

ومنذ عام 2017، وضمن أجندة أمنية ترفع شعار “مكافحة الانفصال”، أغلقت الحكومة الفرنسية مساجد، وحلّت منظمات غير حكومية، وقيدت حرية التعبير السياسي، خاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. 

غير أن هذه السياسات لا تعالج العنف بل تراقب ظهوره، ومن هنا يُصوَّر المواطنون المسلمون كخط دفاع “احتياطي” للديمقراطية، حيث يتم استدعاؤهم فقط لمنع فوز اليمين المتطرف، ولا يُسمح لهم أبداً بالتصويت لمصالحهم الذاتية.

وهنا فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في إنكار وجود بعض مظاهر الانفصال أو التشدّد الديني بين الشباب، بل في كيفية مواجهتها، إذ يمكن معالجة المشكلات الحقيقية مثل السخط على السياسات والتمييز والتهميش من خلال سياسات شاملة، وآليات ديمقراطية تمثيلية، وليس عبر المراقبة أو الإقصاء.

وحين يشعر المواطنون أن أصواتهم مسموعة عبر صناديق الاقتراع والمؤسسات، يقلّ استعدادهم للبحث عن بدائل خارج الإطار الديمقراطي.

لكن المؤشرات الحالية لا تبعث على التفاؤل، إذ أن الإرهاق يتزايد، وثقة كثير من المسلمين في العملية السياسية تتآكل. 

ومع تصاعد الدعم الرسمي لدولة الاحتلال خلال إبادة غزة، ورفض الدولة الفرنسية الاعتراف بحجم المأساة الإنسانية هناك، وقمع التظاهرات والتعبير المؤيد لفلسطين داخل البلاد، لم يعد شعور المسلمين هو تعرضهم لــ “الخيانة” فحسب، بل شعور باستلاب الحقوق.

ليس التطرف بل صناديق الاقتراع

إن ما يثير قلق المؤسسة السياسية الفرنسية اليوم ليس “التطرّف الإسلامي”، بل احتمالية أن تُستخدم صناديق الاقتراع للتعبير عن رفض تلك السياسات، ولا يُستشهد بجماعة الإخوان لأن لها نفوذاً حقيقياً، بل لأنها تمثّل “إطاراً جاهزاً” لتشويه فئة سياسية متزايدة، لم تعد تقبل بالأدوار المحددة لها مسبقاً.

أما الناخبون المسلمون، وهم جزء من الإرث ما بعد الاستعماري لفرنسا، فقد باتوا أكثر وعياً وأقل استعداداً للتصويت كما يُطلب منهم، وما لم تتغير هذه النظرة البنيوية إليهم، فإن فرنسا تخاطر بفقدان جيلٍ بأكمله من منظومتها الديمقراطية.

وعليه فإن البدائل قد تكون خطيرة ويمكن أن تتمثل في عزوف جماعي عن التصويت، أو انكفاء نحو الهامش، أو تشكيل تحالفات احتجاجية هشّة، ولا يمكن لأي من هذه السيناريوهات أن يُواجَه بالقمع أو بتجريم السلوك الانتخابي.

السؤال الحقيقي لا يكمن إذًا فيما إذا كانت جماعة الإخوان المسلمين تستغل الصوت المسلم في فرنسا؟ بل: لماذا لا تزال الدولة الفرنسية تستخدم هذا الإطار لتوجيه وضبط السلوك الانتخابي للمسلمين؟ سؤال يكشف عن سوء فهم عميق لطبيعة الانخراط السياسي لدى الأجيال الشابة، ولتنوعهم الكامل.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة