بقلم هشام صفي الدين
ترجمة وتحرير مريم الحمد
وسط ضجة كبيرة، تولى رئيس الوزراء اللبناني نواف سلام منصبه في يناير الماضي، وذلك بعد أن تمت الإشادة بالقاضي الرئيسي السابق في محكمة العدل الدولية والذي ترأس حكم المحكمة بأن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية في غزة.
أما كرئيس لوزراء لبنان، فقد تعهد سلام بـ”إنقاذ وإصلاح وإعادة بناء” لبنان، والآن بعد مرور أكثر من 4 أشهر في منصبه، فشل سلام في تنفيذ الإصلاحات الداخلية منشغلاً بالدعوة إلى بناء أجندة صديقة للولايات المتحدة تتماشى مع مصالح إسرائيل!
لقد كرر سلام، في سلسلة من الخطب التي حظيت بتغطية إعلامية كبيرة والمقابلات الإعلامية، الكليشيهات البالية حول إنعاش الاقتصاد اللبناني، في حين رفض المقاومة المسلحة الفلسطينية واللبنانية على حد سواء، ودعا إلى “السلام” الذي يليه التطبيع مع إسرائيل، حتى وصلت مواقفه إلى حد إثارة غضب مشجعي كرة القدم الذين هتفوا “صهيوني، صهيوني” لدى حضوره مباراة الأسبوع الماضي.
إذا ما استمر سلام وغيره من الزعماء الإقليميين في تقريب لبنان نحو الفلك الأمريكي، مقابل تضييق الخناق على المجتمعات اللبنانية التي تضامنت مع الفلسطينيين في غزة وقاومت الاحتلال الإسرائيلي، فإن مستقبل المقاومة النشطة خارج فلسطين سوف يصبح في خطر
على الصعيد الاقتصادي، لم يبادر سلام إلى إطلاق مشروع تنموي واحد ذي قيمة، كما لم ينفذ سياسات نقدية أو مالية تهدف إلى معالجة السبب الجذري للانهيار المالي في لبنان أو التخفيف من معدلات التضخم والبطالة المرتفعة، فخطة سلام للإصلاح المصرفي من المفترض أن تأتي على دفعات، أولها رفع القانون الأول من نوعه عن السرية المصرفية والتي غالباً كانت السبب في ترسيخ الفساد بين النخبة السياسية التي تخفي ثرواتها ومعاملاتها المشبوهة عن التدقيق العام.
يعتبر رفع السرية من حيث المبدأ خطوة إيجابية، إلا أن منح المنظمات الدولية حق الوصول الشامل إلى الحسابات المصرفية بحجة مكافحة غسيل الأموال والإرهاب يثير الشكوك حول استحضار القانون للدولة أو القوى الأجنبية فقط بهدف استهداف الجاليات المغتربة المرتبطة بحزب الله.
إضافة إلى ذلك، فقد كانت السرية تاريخياً الحافز الرئيسي لجذب رأس المال الأجنبي إلى بلد يعتمد بشكل كبير على قطاع الخدمات، وفي غياب خطة اقتصادية جادة، فإن نهاية قانون السرية يعني نهاية تدفقات رأس المال والتحويلات العائلية.
رؤية متوسطة المدى
لا يوجد ما يشير إلى وجود مثل هذه الخطة الجادة، فرؤية سلام هي تكرار متواضع للدعوة القديمة للمغتربين اللبنانيين ورؤوس أموال الخليج العربي إلى التوسع من خلال السياحة الصيفية، بالإضافة إلى الآمال في أن يلعب رأس المال اللبناني دوراً وسيطاً في إعادة بناء سوريا.
في المقابل، توقفت عملية إعادة البناء في لبنان في أعقاب الحرب المدمرة التي شنتها إسرائيل، فقد تحدث سلام عن إعادة الإعمار بعد الحرب، والتي تقدر تكلفتها بـ 11 مليار دولار، ولكن من الناحية العملية، لم يعقد مؤتمراً واحداً للمانحين ولم يستجلب المساعدات من البلدان الراغبة في تقديمها دون شروط.
الأسوأ من ذلك أن اقتران عملية إعادة البناء بنزع سلاح حزب الله من دون الحصول على ضمانات ضد الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة للسيادة اللبنانية، وقبل وضع خطوات ملموسة لتعزيز القوات المسلحة اللبنانية من أجل استعادة الردع، يرقى إلى مستوى ابتزاز المجتمعات اللبنانية التي مزقتها الحرب.
وفي سعي لصب الزيت على النار، فإن السلطات اللبنانية تتبنى اليوم تدابير أمنية تعزز المنطق الطائفي الذي تتبناه إسرائيل، فخلال الحرب، استهدفت إسرائيل السكان الشيعة عمداً للإشارة إلى أن هذه حرب على الشيعة فقط وليس على الشعب اللبناني بشكل عام.
بعد الحرب، قامت الحكومة اللبنانية بإيقاف وتفتيش الشيعة اللبنانيين العاديين العائدين من العراق أو إيران في المطار للاشتباه في استيراد أموال لحزب الله، وذلك في محاولة واضحة من التنميط الطائفي.
من ناحية أخرى، فإن توقف إعادة الإعمار يخدم مخططات إسرائيل التوسعية لإخلاء القرى الحدودية من سكانها، على أمل ضمها عندما تسمح الظروف بذلك أو تحويلها إلى منطقة “عازلة” ميتة.
يبدو أن القاضي الذي احتُفي به لإدانته الإبادة الجماعية في غزة، سوف يُذكر باعتباره رئيس الوزراء الذي سعى إلى التطبيع مع مرتكبيها!
إن تجاهل سلام لانتهاك الحدود الجنوبية للبلاد وإهماله المتعمد لسكانها النازحين، يتناقض بشكل صارخ مع حماسه العلني لتشديد السيطرة على طول الحدود مع سوريا والإسراع في ترسيم هذه الحدود، فخلال زيارته الأخيرة للمعبر الرئيسي بين البلدين، أعلن سلام أن “المعابر هي مرآة السيادة اللبنانية”.
ويتناسب هذا التطبيق الانتقائي للسيادة مع المنطق الاستعماري التاريخي المتمثل في تأمين الحدود بين الدول العربية، مقابل التقليل من أهمية انتهاكات السلامة الإقليمية على الحدود مع الدولة الصهيونية!
على خطى عباس
وتعد سياسة سلام الرجعية أكثر وضوحاً في معالجته للمقاومة الفلسطينية المسلحة وطريق تحرير فلسطين، فهو لم يكتفِ بالدعوة إلى نزع سلاح حزب الله، بل رفض فعالية الكفاح المسلح الفلسطيني باعتباره أثراً مضى، كما أيد جهود رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لنزع سلاح المخيمات الفلسطينية في لبنان.
وفي لفتة ذات دلالة، سلم سلام جائزة فخرية لعباس خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها الأخير إلى لبنان، حيث أشاد بنظيره الفلسطيني ووصفه بأنه “محارب من أجل السلام” و”مهندس أوسلو” الذي كان يتمتع ببصيرة واضحة للانتقال من “طريق الثورة إلى مفهوم الدولة” لتجنب إهدار المكاسب السياسية للنضال الفلسطيني على حد وصفه.
إن التنافر بين تقييم سلام لـ “المكاسب السياسية” التي حققتها “عملية السلام” والعواقب الكارثية لأوسلو يسلط الضوء على منطقه المحفوف بالمخاطر والمتمثل في السيادة الأدائية والخطاب الفارغ عن بناء الدولة.
يبدو أن سلام يدعو إلى مسار مماثل لعباس في لبنان، فصريحاته القديمة حول نهاية عصر “تصدير الثورة الإيرانية” هي بمثابة ضربة واضحة للمقاومة المسلحة المدعومة من قبل إيران ضد إسرائيل، والمهم أنه قام بإتباع تلك التصريحات بأخرى للترحيب بالتطبيع مع إسرائيل بما يتماشى مع مبادرة السلام العربية لعام 2002.
إن تكرار الدعوة إلى تنفيذ المبادرة العربية بعد ربع قرن من التعنت الإسرائيلي، وقبل إنهاء الإبادة الجماعية في غزة وتأمين الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية المحتلة حديثاً، يضع حصان السلام أمام عربة العدالة، كما أنه يتعارض مع المبدأ الأساسي للعلاقات الدولية الذي يربط الدبلوماسية الفعالة بالاعتماد على القوة أو التهديد باستخدام القوة.
من الواضح حتى الآن فشل سلام في ترجمة أقواله إلى أفعال، فهو رغم انحداره من عائلة سياسية بارزة، إلا أنه على عكس أسلافه، لا يملك القاعدة الاجتماعية أو النفوذ السياسي في لبنان لفرض مثل هذا المسار خاصة أن ولايته بعد عام 2026 مرهونة بنتيجة الانتخابات النيابية.
وبغض النظر عن خطابه التحريضي، إلا أن السياسات الانهزامية التي ينتهجها رئيس الوزراء واصطفافه الجيوسياسي مع القوى الموالية للولايات المتحدة تتزامن مع سياسات الرئيس جوزيف عون الأكثر اعتدالاً، فمن المرجح أن تؤدي المبادرات المؤيدة لإسرائيل التي قدمها الحاكم الجديد لسوريا أحمد الشرع، إلى زيادة جرأة سلام ومعسكره.
وإذا ما استمر سلام وغيره من الزعماء الإقليميين في تقريب لبنان نحو الفلك الأمريكي، مقابل تضييق الخناق على المجتمعات اللبنانية التي تضامنت مع الفلسطينيين في غزة وقاومت الاحتلال الإسرائيلي، فإن مستقبل المقاومة النشطة خارج فلسطين سوف يصبح في خطر.
لم تعد المسألة تتعلق بحزب الله أو حماس، بل بمصير الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإسرائيلي والاستعمار الاستيطاني، فوسط هذه الرمال المتحركة، يبدو أن القاضي الذي احتُفي به لإدانته الإبادة الجماعية في غزة، سوف يُذكر باعتباره رئيس الوزراء الذي سعى إلى التطبيع مع مرتكبيها!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)