المقاومة الفلسطينية ليست خياراً.. إنها معركة بقاء ضد الإبادة الجماعية

بقلم إميل ألكلاي

ترجمة وتحرير مريم الحمد

في خطاب ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر عام 2023، عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خريطة لم يكن فيها تمييز للأراضي الفلسطينية المحتلة عن إسرائيل، كان يهدد إيران بها وهو يروج لأمجاد الذكاء الاصطناعي المستقبلية والعالم الذي ستقود فيه إسرائيل المنطقة إلى مستقبل مشرق بلا حدود.

بعد أقل من شهر، عززت التقنيات الإسرائيلية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي مثل لافندر وغوسبل و”أين أبي”، والتي تم تطويرها بالشراكة مع شركات أمريكية عملاقة مثل مايكروسوفت وجوجل وأمازون، من بنك أهدافها بشكل كبير وذلك بقتل عشرات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين والقضاء على عائلات بأكملها في ضربة واحدة.

في السابق، كانت هناك سردية “إزالة النازية”، ثم جاءت سردية “اجتثاث البعث”، فماذا عن “نزع الصهيونية”؟ هل يمكننا تصور فلسطين ديمقراطية من النهر إلى البحر؟ أم أن هذه الإبادة الجماعية هي محاولة أخرى لإحباط هذه الحتمية من خلال ترك صدمات وندبات لا تعافي منها في الأجساد والعقول؟!

في العام التالي، وفي الجمعية العامة التي انعقدت في 27 سبتمبر عام 2024، أكد نتنياهو على ادعاءاته السابقة بل زاد من تضخيم تقسيمه للعالم قائلاً: “في الوقت الذي تدافع فيه إسرائيل عن نفسها ضد إيران في هذه الحرب ذات الجبهات السبع، فإن الخطوط الفاصلة بين “الخير “و”الشر” لم تكن في يوم أكثر وضوحاً مما هي عليه اليوم”.

في اللحظة التي تكلم فيها نتنياهو بذلك، كان هناك ما لا يقل عن 41 ألف فلسطيني قد قُتلوا بالفعل في غزة بسبب الهجمات الجوية والبحرية والمدفعية والبرية الإسرائيلية، وهذا كله ضد شعب بدون قوة جوية أو دفاعات جوية أو بحرية أو وحدات ميكانيكية، ناهيك عن الملاجئ أو الكهرباء في معظم الأحيان!

أعتقد أن ما أصبح واضحاً أخيراً لعدد متزايد من الناس هو أن المقاومة الفلسطينية ضد إسرائيل مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفكرة الحفاظ على وجودهم، وتمتد هذه المقاومة إلى جميع الأنشطة البشرية من التنفس والنوم والأكل والمشي والزراعة والولادة، فعلياً إلى كل ما قد يفعله الإنسان في الحياة، وهكذا فإن كل فلسطيني، بحكم وجوده، يعتبر هدفاً “مشروعاً”.

توسع سرطاني

منذ بداية الصهيونية، بذل الاستعمار في فلسطين كل جهد ممكن لمحو واغتصاب وتفتيت الأرض وسكانها الأصليين إلى مناطق ومجتمعات أصغر حجماً وأقل تواصلاً، حتى وصلنا الآن إلى نقطة، مع الدمار الشامل في غزة، بأن أصبح هناك بلدات ومدن في الأراضي المحتلة يتعين على السكان الفلسطينيين فيها المرور عبر نقاط التفتيش لمجرد الخروج من منازلهم.

ويتكرر هذا التقسيم المكاني داخل نظام السجون الإسرائيلي الضخم، من عمليات الاختطاف الجماعي والتعذيب الأخيرة للرهائن الفلسطينيين من غزة في المقام الأول ولكن أيضاً من الضفة الغربية.

يعد عرض نتنياهو الوقح في الأمم المتحدة في عام 2023، والذي يهدف إلى توسيع اتفاقيات أبراهام على حساب أي إمكانية لتقرير المصير الفلسطيني والتفتيت المستمر للأرض والمجتمع الفلسطيني والسجن الجماعي دون تهمة أو محاكمة أو أمل في إطلاق سراحهم، كلها أسباب أدت إلى انفجار الأوضاع والوصول إلى عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر عام 2023.

لقد الهدف المعلن للعملية توحيد السكان الفلسطينيين المنقسمين بشدة تحت راية المقاومة مع أسر أسرى حرب ورهائن لمبادلتهم بالفلسطينيين المحتجزين كرهائن في سجون الاحتلال.

من جانب آخر، فإن المشاعر التي عبر عنها الأسرى الفلسطينيون في عمليات التبادلات الأولى بين إسرائيل وحماس بعيدة كل البعد عن المفاهيم الغربية للشخصية الفردية حتى أنها تبدو غير مفهومة تقريباً، فقد عبر الأسير المحرر محمد العارضة بالقول مثلاً: “إذا جمعت كل القصائد والمرثيات والأمثال والأقوال عن الأرض فلن تنصف غزة”، فيما قال آخر: “حريتنا دفعت بدماء شهداء غزة ونحن مدينون لهم بدين لا يمكن تسديده أبداً”.

تضييق الإطار

تعمل دعاية ما يسمى بالديمقراطيات الليبرالية على تضييق آفاق الفكر لتحد من قدرتنا على فهم ما يحدث بالفعل، فعندما أوصت لجنة 11 سبتمبر الرسمية بالحاجة إلى “إضفاء البيروقراطية على الخيال”، كانت تصف العالم الذي كنا نعيش فيه بالفعل.

مع كل المصطلحات المستخدمة في مناقشة قضية إسرائيل وفلسطين من الإبادة الجماعية والفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني ومعاداة الصهيونية وغير ذلك، فإن الكلمات الرئيسية المفقودة تظل “الإمبريالية” و”التحرير الوطني”.

لا يمكننا، على سبيل المثال، حتى التحدث عن المقاومة المسلحة الفلسطينية، لا استراتيجياتها السياسية أو العسكرية ولا نجاحاتها أو إخفاقاتها، دون تقديم تنازل من نوع ما.

من المفارقة المثيرة للسخرية هنا، أنه وبموجب المعايير التي وضعتها إدارته للمدنيين العاديين، فإن فريق الرئيس دونالد ترامب نفسه يجب أن يُتهم بالتواطؤ مع “إرهابيين”، وذلك بعد تفاوضهم على إطلاق سراح المواطن الأمريكي الإسرائيلي المزدوج إيدان ألكسندر!

تكثر السخافات وتتضاعف، ومعها يكثر الإفلات من العقاب، فبعد ساعات قليلة من إطلاق سراح ألكسندر، اغتال الإسرائيليون الصحفي حسن اصليح، محولين المستشفى الذي كان يعالج فيه إلى أنقاض بعد محاولة اغتيال سابقة، كما أعدموا الطفل محمد البردويل البالغ من العمر 12 عاماً، وهو الشاهد الوحيد الباقي على تصرفات الرائد نيكولاي أشوروف والدبابات الإسرائيلية أثناء إعدام مشرف الأمن الميداني التابع للأمم المتحدة كمال شطوط، خلال المذبحة التي راح ضحيتها 15 مسعفاً فلسطينياً ومدنيين آخرين في 23 مارس عام 2025.

علاوة على ذلك، ومنذ إطلاق سراح ألكسندر، استمرت سلسلة اختبارات الأسلحة الجديدة وعمليات الإعدام والتهجير القسري إلى مناطق قتل جديدة والتدمير المنهجي للمستشفيات واستخدام التجويع كأداة للإبادة الجماعية على قدم وساق!

فك التعويذة

ربما حان الوقت الآن لفتح أبواب الخيال مع تحول “حل الدولتين” إلى خيال في أذهان الزعماء الغربيين لمجرد وسيلة لكسب الوقت حتى تتمكن إسرائيل من سرقة المزيد من الأراضي الفلسطينية وتدمير المزيد من المنازل وتشريد وقتل المزيد من الناس.

في حرب الولايات المتحدة على فيتنام، يُنسب الفضل الأساسي لوقف الحرب آنذاك إلى الحركات الطلابية، ولكن كان هناك أيضاً سبب آخر لا يتم الاعتراف به رغم أنه الأكثر حسماً، وهو عصيان جنود الولايات المتحدة وسحب الحرس الوطني بعيداً عن الانتشار في الخارج خوفاً من الاحتجاجات.

لا يجب اليوم فقط محاولة فهم المقاومة الفلسطينية بشكل أكبر فحسب، بل يجب احتضانها من قبل أي شخص يأمل في الاحتفاظ بالقيمة الأرضية والروحية مع رفض اليأس والعدمية المنتشرة عبر الطيف السياسي والثقافي

لقد كان معروفاً في خلال حرب فيتنام بأن وحدات بأكملها كانت ترفض الأوامر وتقوم بعمليات التخريب وترفض المشاركة في القتال، ولم يقتصر الأمر على حالات قليلة معزولة، حيث يوثق كتاب واحد فقط بعنوان “التقطيع: لماذا اعتدى الجنود الأمريكيون على ضباطهم في فيتنام”، 500 حادثة من هذا القبيل.

ومنذ الحرب على غزة، اعتدنا على منشورات وسائل التواصل الاجتماعي التي يدين فيها الجنود الإسرائيليون أنفسهم وهم يهتفون لهدم المنازل والمساجد والمستشفيات والمدارس والجامعات، ويتجولون بملابس النساء في المنازل المخربة والمدمرة، ولكن هل يمكننا حتى تخيل أن هؤلاء الجنود أنفسهم يرفضون الأوامر، ناهيك عن حمل السلاح ضد قادتهم أو القيام بالتمرد؟

السؤال هنا، كم عدد الحروب “الوجودية” التي يتوقع أن يخوضوها بعد؟ وكم عدد الأجيال التي سيتم استعبادها لحراسة الجبهة الإمبراطورية للمصالح الأمريكية والتمسك بالأيديولوجية الاستعمارية الشمولية التي تهيمن على كل جانب من جوانب حياتهم تقريباً وكل جانب من جوانب الحياة الفلسطينية؟!

في السابق، كانت هناك سردية “إزالة النازية”، ثم جاءت سردية “اجتثاث البعث”، فماذا عن “نزع الصهيونية”؟ هل يمكننا تصور فلسطين ديمقراطية من النهر إلى البحر؟ أم أن هذه الإبادة الجماعية هي محاولة أخرى لإحباط هذه الحتمية من خلال ترك صدمات وندبات لا تعافي منها في الأجساد والعقول؟!

من وعد بلفور حتى اليوم

وعلى طريق سايكس-بيكو، يتفاوض النظام السوري الجديد مع إسرائيل ولبنان على الطريق إلى التحول إلى محمية، حيث نشهد ذروة العمليات التي بدأت منذ إعلان بلفور في عام 1917.

لقد تم تصور هذه العمليات بشكل واضح في كتاب عبد الرحمن منيف “مدن الملح”، وتم تحليلها بشكل مقنع في كتاب غسان كنفاني “ثورة 1936-1939 في فلسطين”، الذي كتب في ظل النكسة و”نكسة” عام 1967 وما أصبح يعرف باسم أيلول الأسود.

إن نص كنفاني، كما أشار المحرر والمعلم الفلسطيني حازم جمجوم، “له علاقة كاملة بالانتصار الإمبريالي على حركات التحرر العربية والأممية في حرب 1970-1971 في الأردن”، وكأنه مكتوب اليوم، حيث يقول كنفاني في مقدمته: “في الأعوام 1936-1939، تلقت الحركة الثورية الفلسطينية ضربة مدمرة من قبل التشكيلات الثلاثة التي تطورت منذ ذلك الحين لتصبح القوى الرئيسية العاملة ضد شعب فلسطين: القادة الفلسطينيون الرجعيون والأنظمة العربية المحيطة بفلسطين والتحالف بين الصهيونية والإمبريالية”.

في الوقت الذي تعمل فيه الولايات المتحدة على حشد الدعم في أوساط نفط الخليج والأنظمة العربية الأخرى، تعمل على إسكات المعارضة ضد السياسات الإمبريالية فيما يتعلق بالإبادة الجماعية والمجاعة في غزة، وفي ذات الوقت تقوم قوات محمود عباس بقمع الانتفاضات في الضفة الغربية، فما الذي تغير فعلياً؟

نحن على مفترق طرق، فلا تزال القوى المحتشدة سواء ضد العدالة في فلسطين أو من أجلها كما هي إلى حد كبير، رغم توسع قوتها النارية ومدى انتشارها التكنولوجي بشكل كبير، كما يتضح من حاشية الرؤساء التنفيذيين المرافقين لترامب إلى السعودية ومن بينهم أليكس كارب من شركة بلانتير الذي ارتكب الإبادة الجماعية بشكل علني.

وعلى الجانب الآخر، لا يجب اليوم فقط محاولة فهم المقاومة الفلسطينية بشكل أكبر فحسب، بل يجب احتضانها من قبل أي شخص يأمل في الاحتفاظ بالقيمة الأرضية والروحية مع رفض اليأس والعدمية المنتشرة عبر الطيف السياسي والثقافي.

لقد أوضحت إسرائيل وحلفاؤها الغربيون خيارهم بوضوح لا لبس فيه، وهو الدمار الشامل والنقل الجماعي للسكان والإبادة الجماعية والامتثال الكامل لأجندتهم، كما اختارت معظم الأنظمة العربية إغداق ترامب بالهدايا في وقت لم تقد فيه رغيف خبز واحد لغزة.

ويبقى السؤال: من سينضم إلى النضال من أجل العدالة في الفترة القادمة، وما هو الشكل الذي سيتخذه للتعبير عن ذلك النضال؟

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة