بقلم أمير مخول
منذ سيطرة حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، تشهد إسرائيل صراعاً داخلياً عنيفا لم تشهده منذ تسعينيات القرن العشرين، بين النخب السياسية والاجتماعية، انقسام يقود إسرائيل بسرعة نحو الهاوية.
وتواجه إسرائيل أجواءً من التحريض على العنف السياسي، مثل دعوات السياسي ألمو كوهين والعميد السابق زفيكا فوغل من حزب “القوة اليهودية” إلى اعتقال وزير الجيش السابق بيني غانتس ورئيس الوزراء يائير لابيد وغيرهما بتهمة “الخيانة”، ومحاولة سائق مؤيد للحكومة الحالية من سكان مستوطنة إلعاد مؤخراً، إغراق عشرات الطلاب في بئر السبع احتجاجاً على قرار الحكومة بالحد من السلطات القضائية، ومنح البرلمان سلطة إلغاء قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية بأغلبية بسيطة، بالإضافة إلى الحق في تعيين القضاة.
يعد التهديد الأكبر هو تحول الحقائب الوزارية التي يرأسها وزراء الأحزاب الدينية إلى كيانات ذات سيادة كاملة
لعب وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، وحزبه أيضاً دوراً في العنف من خلال إنشاء شبكة ميليشيات شبه رسمية ومدعومة من الشرطة الإسرائيلية، من أجل مهاجمة فلسطينيي النقب والمدن الساحلية، في الوقت الذي صرح فيه كوهين عن تفاخره بالدعس على فلسطيني من النقب وابنه عندما كان ضابط “شغب” في شرطة الحدود.
صراع الشرعية
الخطر الأكبر في هذه الحكومة هو غياب سلطة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو الحقيقية، وتركز السلطة في وزراء الحكومة الذين ينتمون لأحزاب دينية صهيونية، ولا يخضعون لأي أوامر أو توجيهات، الأمر الذي صار رسمياً منذ ديسمبر الماضي بعد إعلان نتنياهو وحزب الليكود عن اتفاق على تشكيل ائتلاف حكومي بما في ذلك السياسات التفصيلية والتعديلات، فأصبحت تلك الاتفاقات بمثابة قانون!
وكنتيجة لذلك، تحول الصراع على الشرعية بين المعارضين السياسيين إلى أهم علامة على أزمة وشيكة، وليس مجرد خلاف سياسي بسيط، لأنه قد يؤدي إلى نشر ثقافة الكراهية والعنف وسط أنصار الأحزاب الدينية واتهام قادتهم للمعارضين بالخيانة بل ورفض شرعية وجود المعارضة، وربما إلا ما هو أبعد، حمام دم داخلي!
خارجياً، تظهر أحزاب الوسط واليمين بأنها قبلت نتائج الانتخابات، لكنها في الحقيقة تعتبره انقلاباً على النظام الإسرائيلي وترفض الاعتراف به وتعتبر أن المؤسسة الأمنية قد تم اجتياحها من قبل استبداد الأغلبية الحالية في الكنيست، لكن الأزمة الإسرائيلية الحالية لا تدور حول تحدي سياسات قمعية وإنما تركيبة النظام الحاكم ككل.
في إسرائيل، من يسيطر على جهاز الدولة فهو صاحب السلطة الحقيقية، حتى وإن لم يكن صاحب أغلبية انتخابية، ولذلك يتم تغيير جهاز الدولة لمنفعة صاحب السلطة خلال فترة حكمه وليس العكس، حتى وإن كان ذلك يعني انتهاء ذلك التغيير بانتهاء حكم صاحب السلطة، مثل إبداء الشرطة مثلاً استجابة صريحة وسريعة لأوامر بن غفير، الأمر الذي يدلل على وجود توازن قوى داخل إسرائيل.
من جانب آخر، يتسم الانقسام السياسي في إسرائيل بوجود كتلتين متنافستين على السلطة، اليميني الديني ويمين الوسط، فيما تخلو الساحة السياسية من يسار حقيقي قادر على مواجهة سياسية، خاصة فيما يتعلق بالاحتلال والعنصرية، أما أحزاب يمين الوسط فتحاول تجنب المواجهة العدوانية مع اليمين المتطرف، بل تركز على الحفاظ على ما تسميه “أدوات اللعبة الديمقراطية” خاصة في النظام القضائي وفصل السلطات، وتراهن بذلك على الرأي العام اليهودي.
على صعيد آخر، لا يظهر اليمين الوسط اهتماماً بالتحالف مع أي كتلة عربية فلسطينية، يتعاطف مع مشاكل الفلسطينيين في إسرائيل بصمت دون الجهر بذلك أو تبنيه علناً أو السعي لشراكة مع العرب من أي نوع، سياسة أشبه بأجندة الوسط الإسرائيلي الذي لا يتطرق حتى إلى قضايا العنصرية تجاه المواطنين العرب.
رغم ذلك، يتكشف الصراع الداخلي يوماً بعد يوم وبشكل أعنف لم تشهده إسرائيل منذ التسعينيات، بسبب اليمين الصهيوني الديني الحاكم الذي يخطط لإعادة تشكيل مؤسسات الدولة وفرض سياسته الفاشية.
أما رئيس الوزراء نتنياهو، فإنه يلعب دور المدافع عن النهج الفاشي ويستهدف المعارضة بوصفه الضحية، متناسياً ربما أنه جزء من النظام الحاكم، ليس ذلك فحسب، بل رئيس الحكومة الأطول خدمة أيضاً، لذلك يسعى للإسراع في “الانقلاب” قبل أن تتهاوى حكومته بخلافات داخلية، وعلى الأرض يأمر بن غفير بمنع الفوضى قاصداً احتجاجات المعارضة.
التحول إلى “دولة فاشية”
رغم الوضع الحالي الذي يؤدي إلى إضعاف إسرائيل كدولة من منظور صهيوني، إلا أن هناك أكثر من سيناريو للخروج من المأزق، يمكن لنتنياهو التعجيل بعمل عسكري غير مخطط له لحماية موقعه، إلا أن ذلك يبقى احتمالاً ضعيفاً على المدى القصير على الأقل، في وقت يسارع فيه قادة الائتلاف المتطرف بإحداث تغييرات جوهرية في مؤسسات الدولة وخلق شرخ عميق في المجتمع الإسرائيلي.
يعد تحول “الديمقراطية” الإسرائيلية إلى الدكتاتورية وإلى دولة فاشية أساس الأزمة مع يهود الولايات المتحدة وإدارة بايدن
رغم أن تحول “الديمقراطية” الإسرائيلية إلى الدكتاتورية وإلى دولة فاشية يعد أساس الأزمة مع يهود الولايات المتحدة وإدارة بايدن، إلا أن نتنياهو يحاول الحفاظ على واجهة ديمقراطية لحكومته لكسب الشرعية الدولية، وهو أمر قد يستبعد السيناريو الآخر، والذي يبدو غير محتمل، في ضوء ميزان القوى الحالي في إسرائيل، وهو الإطاحة بنتنياهو.
وينعكس عدم الاستقرار هذا على عدة نواحٍ داخل المجتمع الإسرائيلي، حيث يدفع أعداداً كبيرة من السكان إلى مغادرة إسرائيل، كما يؤدي إلى تدهور الاقتصاد الإسرائيلي وتصنيفه الائتماني ومستوى الاستثمار فيه، الأمر الذي يشير إلى أزمة شاملة.
على الجانب الآخر، ورغم بوادر الأزمة، فإن أنصار الأحزاب الحاكمة، والذين ينتمون أو يديرون مجموعات إرهابية وميليشيات من المستوطنين، مستعدون لاقتحام الكنيست والمحكمة العليا إذا وجدوا في ذلك ضرورة من طرفهم، فليس صدفة إذن أن تحرص تلك الأحزاب الدينية على تسلم الوزارات التي تتعامل مع قضايا الفلسطينيين في كل فلسطين التاريخية على جانبي “الخط الأخضر” بعنف أكبر فقط على أية حال، ففي قضايا الفلسطينيين مثل العنصرية والتطهير العرقي و تهويد النقب، تجد أن أحزاب المعارضة أيضاً تحاول إضفاء الشرعية عليها أو تجاهلها على أقل تقدير!
عنصرية بنيوية مستمرة
على أرض الواقع، تعمل أحزاب المعارضة على تأجيج نيران العنصرية ضد الفلسطينيين عندما تحاول اكتساب شرعية في الشارع الإسرائيلي، مثل معارضتها لنشطاء يرفعون العلم الفلسطيني في التظاهرات المناهضة للحكومة، وهو أمر يحتم على الفلسطينيين التنبه من خلاله إلى أهمية إعادة تنظيم حركتهم السياسية والشعبية من أجل حماية شعبهم وقضيتهم، والانفصال عن المعارضة الإسرائيلية إلى حركة مستقلة بأجندة خاصة بهم.
لا يوجد سبيل لمقاومة الحكومة الفاشية إذن إلا بتبني استراتيجية ذات مسارين، أحدهما للمعارضة الإسرائيلية، والآخر لجموع الفلسطينيين العرب
لم يكتمل الانتقال الفاشي بعد، إلا أن لديه من المؤشرات ما يؤكد انجرافه بقوة تتزايد بعدما سيطرت الأحزاب الدينية اليمينية على الحكومة وأجهزة الدولة، فمن المؤكد أن إسرائيل في خضم تحول سياسي سيكون له تداعيات بعيدة المدى على المستويات الدولية والاقتصادية والمالية.
لا شك أن سياسات حكومة نتنياهو أيقظت المعارضة وحركتها لتقف وتتحدى شرعيتها، إلا أن المحتجين يحرصون على تأكيد هويتهم كإسرائيليين صهاينة، دون اعتبار لقضية فلسطين أو التحديات التي يواجهها فلسطينيو 48، بما في ذلك الحصول على حقوق متساوية.
ولا يوجد سبيل لمقاومة الحكومة الفاشية إذن إلا بتبني استراتيجية ذات مسارين، أحدهما للمعارضة الإسرائيلية، والآخر لجموع الفلسطينيين العرب، مواطني إسرائيل، الذين يتعرضون للتمييز العنصري والاضطهاد والاستهداف والتجريم، أو نبذ الأجواء السياسية بالكامل، لكن تظل الضغوط الفلسطينية والعربية والدولية لنزع الشرعية عن الائتلاف الحاكم ضرورية لتغيير التوازن الداخلي.