بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
على الأرجح فإن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالسماح لدولة الاحتلال بشنّ هجوم على إيران يمثل أسوأ خطأ في التقدير يرتكبه رئيس أمريكي منذ غزو جورج بوش الابن للعراق عام 2003.
في ذلك الوقت، أدى قرار بوش إلى ثماني سنوات من الحرب في العراق، أودت بحياة ما لا يقل عن 655 ألف شخص وفقًا لمجلة “ذا لانسيت”، وأسفرت عن ولادة تنظيم الدولة الإسلامية، وأدّت إلى تفكك بلد لا يزال يعاني من تبعات الغزو بعد مرور أكثر من عقد ونصف، ومع ذلك فإن قرار ترامب هذا قد يكون أكثر تدميراً من غزو العراق.
ذلك أن سماح ترامب لرئيس وزراء دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، بمهاجمة إيران بينما كان الدبلوماسيون الأمريكيون يفاوضون طهران، يضع الرئاسة الأمريكية في مصاف زعماء العصابات، على غرار آل كابوني أو خواكين “إل تشابو” غوزمان.
فهكذا تتصرف إذا كنت تدير عصابة مخدرات، لا إذا كنت تمثل قوة عظمى عالمية، فمن ذا الذي سيثق بكلمة أمريكا بعد الآن؟ عاجلًا أم آجلًا، ستدرك الولايات المتحدة، وهي في حالة تراجع، أنها بحاجة إلى مصداقية الآخرين وثقتهم
استهزاء بالدبلوماسية
وكما هو متوقع، فإن ترامب وطاقمه لا يدركون فداحة ما اقترفوه، بل إنهم يتباهون بما يصفونه بـ”الانتصار”، ويضحكون على نجاحهم في خداع الدبلوماسيين الإيرانيين، بينما يسارعون في الوقت ذاته إلى إرسال صواريخ “هيلفاير” ومعلومات استخباراتية فورية لجيش الاحتلال.
لقد تعقبت طائرات الاحتلال المسيّرة أهدافها من الإيرانيين في منازلهم، أو استدرجتهم إلى أماكن عملهم، ثم تم اغتيالهم، وفي تل أبيب وواشنطن، يعد هذا إنجازاً عظيماً، فوزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو صرح أن واشنطن زودت دولة الاحتلال بـ”معلومات استخباراتية دقيقة”.
وبعد هذا العمل الاستخباراتي العسكري، توجه ترامب إلى الإيرانيين بلغة التهديد قائلاً: “يجب على إيران أن تعقد اتفاقاً، قبل أن لا يبقى شيء، وأن تنقذ ما كان يُعرف يومًا بالإمبراطورية الإيرانية، لا مزيد من الموت، لا مزيد من الدمار، افعلوا ذلك فحسب، قبل أن يفوت الأوان، بارك الله فيكم جميعًا”.
هذا الكلام هو دون مبالغة، من أغبى ما يمكن أن يقوله رئيس أمريكي لدولة يبلغ عدد سكانها أكثر من 90 مليون نسمة وتملك إرثًا حضاريًا يمتد لآلاف السنين.
من صدام إلى نتنياهو
ويزداد هذا النهج حماقة عند وضعه في سياق التجربة الإيرانية المأساوية خلال الحرب مع العراق، إذ لا تزال طهران تحمل ندوب تلك الحرب التي شنها صدام حسين وبدعم غربي على إيران الثورية الوليدة، وهي حرب استمرت لثماني سنوات دامية.
لقد كانت هذه التجربة إضافة إلى أيديولوجية الجمهورية الإسلامية حاسمة في تشكيل عقيدة إيران الدفاعية، حيث صقلت الحرب برنامج إيران النووي وأرغمتها على تطوير صواريخها البالستية، كما دفعتها لتأسيس شبكة من الحلفاء الإقليميين كأذرع ردع ودفاع.
ومثلما فعل نتنياهو اليوم، كان صدام قد شن حربه عندما اعتقد أن جارته أضعف من أن ترد، ففي سبتمبر/أيلول 1980، كانت إيران لا تزال تتخبط في أعقاب الثورة، وكان جيشها مفكك، ولم يكن الحرس الثوري قد اختبر بعد وكان الجنود الإيرانيون يتناوبون على استخدام البنادق لقلة السلاح.
صحيح أن جيش صدام نجح في تحقيق بعض التقدم في البداية، لكنه سرعان ما تراجع بعد تكبده خسائر فادحة، وكما هو الحال مع نتنياهو، فقد كان صدام يحصل على دعم أمريكي وأوروبي، بما في ذلك أسلحة كيميائية من شركات ألمانية.
استمر هذا الدعم الغربي حتى بعد ارتكاب مجزرة حلبجة بالغاز السام، حتى أن الصحفي الراحل ريتشارد بيستون من صحيفة “ذا تايمز” البريطانية روى كيف حاول دبلوماسيان بريطانيان إقناعه بأن “شيئاً لم يحدث هناك”.
وبعد ثلاث سنوات من انتهاء الحرب العراقية ضد إيران، أرسل الرئيس الأمريكي رونالد ريغان مبعوثه الشاب آنذاك، دونالد رامسفيلد، إلى بغداد لمصافحة صدام حسين.
وبحسب وثيقة توجيهية للأمن القومي صادرة في نوفمبر/تشرين الثاني 1983 فقد كانت الولايات المتحدة تسعى لحماية جنودها وإمدادات النفط في الخليج، ولم تكن أسلحة صدام الكيميائية تهمها إطلاقًا.
ولكن جيلاً كاملاً من الإيرانيين لن ينسى أبدًا الغازات السامة التي لا تزال آثارها واضحة حتى اليوم على أجساد المحاربين القدامى.
استراتيجية “الدفاع العميق”
تلك الحرب كانت هي ما دفع إيران لاحقًا إلى تبني استراتيجية “الدفاع العميق”، عبر بناء شبكة حلفاء ومجموعات مسلحة تمتد من البحر المتوسط إلى حدودها الشرقية، لضمان عدم تكرار التجربة.
ورغم أن محور المقاومة بقيادة إيران يبدو اليوم أضعف مما كان عليه قبل سنوات، إلا أن هذا الضعف الظاهري قد يكون في نظر طهران تكتيكاً محسوباً، لا دليلاً على تراجع استراتيجي.
فما بعد 7 أكتوبر كشف الكثير، خاصة في سوريا ولبنان، حيث نجحت أجهزة استخبارات الاحتلال في اختراق بعض الشبكات، وتم استهداف قادة بارزين، غير أن هذا لم يكن كل شيء، فما يزال لدى إيران أوراقها.
جرّ الولايات المتحدة إلى الحرب
أما داخل دولة الاحتلال، فلم تدم نشوة اغتيال القيادات النووية والعسكرية الإيرانية طويلًا، إذ سرعان ما ردّت طهران بإلحاق دمار في مناطق من وسط دولة الاحتلال، يُقارب ما أنزلته طائرات الاحتلال بغزة ولبنان.
ولليلة الثانية على التوالي، يعيش المحتلون ذات الرعب الذي ألحقوه بجيرانهم لسنوات، وقد بدأوا بفهم معنى فقدان “الحصانة” التي طالما اعتبروها حقاً مكتسباً.
وحتى في حال توقّف هذه الحرب قريبًا، فإن ثمن “السلام” واستقرار برنامج إيران لتخصيب اليورانيوم قد ارتفع بشكل هائل.
وإذا استمرت الصواريخ الإيرانية في الانهمار على دولة الاحتلال ليلةً بعد ليلة، فإن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو سيزداد حرصًا على دفع الولايات المتحدة نحو التدخل العسكري المباشر.
قد تكون إحدى السيناريوهات المحتملة التي يدرسها نتنياهو بالفعل هي تنفيذ هجوم بطائرات دون طيار تحت “علمٍ مزيّف” على قاعدة أمريكية في العراق، لتوفير الذريعة التي تسمح لواشنطن بالانخراط في الحرب، سيما وأن دونالد ترامب ما زال يبدو ككرة من الطين سهل التشكيل بين يديه.
القنبلة كخيار استراتيجي
أما فيما يتعلق بمستقبل تخصيب اليورانيوم في إيران، فإن الهجوم أحادي الجانب الذي شنّه نتنياهو وترامب سيكون في حال نجاحه الدافع الأكبر لإيران كي تطوّر قنبلة نووية قابلة للاستخدام بأسرع وقت ممكن.
وسيؤدي الضعف النسبي للأسلحة التقليدية الإيرانية، وعجزها أمام طائرات “إف-35” المتطورة، إلى نفس النتائج التي توصل إليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مراحل معينة من حربه في أوكرانيا، حين شعر أن شبه جزيرة القرم باتت على وشك السقوط. حينها، هدد بوتين باستخدام صاروخ نووي تكتيكي، وهو تهديد تعامل معه فريق الرئيس الأميركي جو بايدن بجدية تامة.
وإذا كان ترامب ونتنياهو يظنان أن تفكيك وسائل الدفاع التقليدية الإيرانية سيثني طهران عن امتلاك السلاح النووي، فإنهما على خطأ جسيم.
فكل استراتيجي نووي قام بمحاكاة هذه السيناريوهات سيخبرك أن ضعف القوات التقليدية يدفع الدول للاعتماد على السلاح النووي كوسيلة للردع، بل واستخدامه كخيار أولي في الحرب.
وحتى الآن، لا توجد إشارات واضحة تفيد بأن المرشد الأعلى الإيراني أو القيادة الإيرانية اتخذوا قرارًا بالسعي لتصنيع قنبلة نووية، لكن، في استطلاعات رأي سبقت هجوم الاحتلال الأخير، أظهرت النتائج توجّهًا شعبيًا متزايدًا في الداخل الإيراني يؤيد السعي لامتلاك سلاح نووي.
قال ترامب ذات مرة إن الولايات المتحدة لن تقبل بكوريا شمالية أخرى في الخليج، لكن السماح لدولة الاحتلال بقصف إيران قد يحقق هذا السيناريو تماماً.
ومهما كانت نهاية هذه الحرب، فإن ما كان يُسمى يومًا بـ”الاتفاق النووي الإيراني” قد أصبح من الماضي، وقد تكون لحظة امتلاك القنبلة أقرب من أي وقت مضى.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)