بقلم مها الحسيني
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
على نار مشتعلة بأخشاب جُمعت من ركام البيوت المدمرة، يواصل بلال أبو عاصي جهوده اليومية في تسخين برميل معدني ضخم مليء ببقايا النفايات البلاستيكية المقطعة، في مشهد بات رمزًا لصمود الفلسطينيين في قطاع غزة، المحاصر من قبل دولة الاحتلال منذ أكثر من 17 عامًا.
في ظل الحصار الخانق والعدوان المستمر، ومع غياب الوقود التقليدي وشلل شبه كامل في سلاسل الإمداد، لجأ سكان القطاع إلى وسيلة بديلة ابتكروها بأنفسهم: تحويل البلاستيك إلى وقود يشغل المولدات والمركبات وأحيانًا مواقد الطهي.
يقول أبو عاصي لموقع ميدل إيست آي :”نجمع المواد البلاستيكية من البراميل والأطباق وحتى الألعاب المنزلية، بعضها نلتقطه من النفايات أو الشوارع، وأحيانًا من منازل قُصفت، فنجد براميل مياه محطّمة وشظايا بلاستيكية متناثرة”.
ويضيف: “نشتري أحيانًا البلاستيك من السكان بأسعار رمزية، لأنه بات سلعة ثمينة في ظل انعدام البدائل”.
تكرير بدائي… لكنه منقذ للحياة
تمر العملية بمراحل متعددة، تبدأ بفرز المواد البلاستيكية حسب نوعها، إذ لا تصلح جميع الأنواع للتكرير، ثم تُقطع الأجزاء القابلة للاستخدام يدويًا إلى قطع صغيرة – بسبب انعدام الكهرباء والمعدات اللازمة – وتوضع في براميل حديدية خاصة.
ويتابع أبو عاصي شرحه لآلية التكرير: “نقوم بتسخين البراميل إلى درجات حرارة عالية لتحويل البلاستيك إلى بخار، ثم نكثّفه ليعود في هيئة سائلة، بعدها نقوم بتقطيره وفصله إلى ديزل، وبنزين، وشحوم، ومن ثم نخضعه للتنقية”.
ويستغرق إنتاج بضع مئات من لترات الوقود ما يقارب 12 ساعة، ويُستخدم هذا الوقود لتشغيل التوك توك، والدراجات النارية، ومضخات المياه، وحتى بعض الشاحنات.
من التردد إلى الاعتماد
في البداية، قوبل الوقود الجديد بتردد واضح من السكان، لكن اختفاء البنزين كليًا من الأسواق، وارتفاع أسعار الديزل – الذي يباع اليوم بـ70 إلى 90 شيكلًا (20-26 دولارًا) للتر الواحد – غيّر المعادلة.
ويقول أبو عاصي: “اليوم، أصبح وقود البلاستيك ضرورة، وسائقو سيارات الأجرة تحديدًا يعتمدون عليه كليًا لمواصلة عملهم وسط الانهيار الاقتصادي”.
وقود بديل للطهي… بعد أن اختفى الغاز
ومع غياب غاز الطهي منذ إغلاق دولة الاحتلال للحدود في 2 مارس/آذار، اضطرت الأسر الفلسطينية للعودة إلى استخدام الحطب، في مشهد يعيد غزة إلى عصور ما قبل الكهرباء.
لكن مع توافر وقود البلاستيك في الأسواق، بدأ السكان يستخدمونه لتشغيل مواقد الكيروسين المحمولة.
وتقول أم سعيد إرهيم، وهي فلسطينية تقيم في شمال غزة: “لم نغادر منطقتنا رغم القصف، ونزحنا مرات كثيرة داخل الشمال، وكان الطهي بالحطب يشكل عبئًا كبيرًا، حيث تسبب الدخان بمشاكل في التنفس والعينين، خاصة للأطفال”.
وتضيف: “اشترينا موقد كيروسين وبدأنا نستخدم وقود البلاستيك، قد لا يكون مثل غاز الطهي، لكنه بديل يمكننا الاعتماد عليه، ولا يخضع لابتزاز الحصار”.
وتابعت بابتسامة حزينة: “كما يقولون، الإبادة الجماعية هي أم الاختراع”.
الوقود لا يصل المستشفيات… والكارثة مستمرة
رغم استخدام الوقود البديل في المنازل والمركبات، لا تزال المستشفيات والجهات الإنسانية عاجزة عن تشغيل المولدات بسبب انقطاع الوقود بشكل شبه تام.
وتفاقمت الأزمة أكثر بعدما منعت سلطات الاحتلال وكالات الأمم المتحدة من استعادة الوقود من المناطق التي أصدرت فيها أوامر إخلاء قسري.
ووفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، فقد تم منع الوصول إلى شمال غزة 14 مرة بين 15 مايو/آيار و9 يونيو/ حزيران، مما تسبب في نهب نحو 260 ألف لتر من الوقود.
وأصدرت الأمم المتحدة تحذيرات عاجلة، مؤكدة أن استمرار انقطاع الوقود سيؤدي إلى توقف خدمات الاتصالات وانهيار ما تبقى من البنية التحتية، مما يُغرق غزة في ظلام دامس.
حصار مزمن ومآسٍ متكررة
ومنذ بداية الحصار عام 2007، عانى سكان غزة من أزمات وقود متكررة حيث أجبر الحصار محطة الكهرباء الوحيدة على التوقف مرارا عن العمل، وتسبب في وفاة أطفال مرضى في الحضانات، وحرمان آلاف المرضى من العلاج.
ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، توفي ما لا يقل عن 20 مريضاً بينهم 6 رُضّع في مستشفى الشفاء بسبب انقطاع الكهرباء، وفي فبراير/شباط 2024، توفي 5 جرحى في مستشفى ناصر بعد انقطاع الأكسجين.
وفي مستشفى كمال عدوان، قضى 4 أطفال في الشهر نفسه بسبب عجز المستشفى عن توليد الكهرباء.
وتقول أم سعيد ارحيم بمرارة: “قطع الوقود ليس جديدًا علينا، فنحن ومنذ نحو عقدين، نحاول أن نجد حلولًا نفشل أحياناً وأحيانًا ننجح، لكن في النهاية، نتمسك بالحياة بكل وسيلة ممكنة”.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)