خطاب “التعاون الصحي” مع الاحتلال: محاولة تطبيع ناعم تُجمّل وجه الإبادة

بقلم كارلين زوارنشتاين

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

في خطوة أثارت الكثير من الجدل، دعت مقالة حديثة نُشرت في المجلة الأمريكية للصحة العامة (AJPH) إلى “تجديد التعاون” بين المؤسسات الصحية الفلسطينية وتلك التابعة لدولة الاحتلال.

وقد جاءت الدعوة من باحثين من الجامعة العبرية في القدس ومؤسسات أخرى متجاهلة تمامًا ما تمارسه دولة الاحتلال من تدمير منهجي للصحة العامة الفلسطينية، بل ومشاركة مؤسسات الاحتلال الطبية في هذا الانهيار.

لكن، كيف يمكن الحديث عن تعاون صحي في ظل مجزرة متواصلة؟ فغزة، ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، تعيش تحت حصار خانق وضربات جوية مدمرة، أسقطت خلالها أكثر من 100 ألف طن من المتفجرات على بنيتها التحتية، لم تسلم المخابز، ولا محطات التحلية، ولا المستشفيات، ولا حتى مخزون الأدوية.

وقد أفادت منظمة الصحة العالمية بأن جيش الاحتلال نفذ 760 هجوماً على منشآت وعاملين في القطاع الصحي في انتهاك صارخ للقانون الدولي. 

في تلك الهجمات استشهد ما لا يقل عن 1400 من الكوادر الطبية، ولم يُسمح سوى لـ 7057 حالة إجلاء طبي، رغم تسجيل أكثر من 100 ألف إصابة.

ولم يأتِ المقال على ذكر تقرير لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة، التي خلصت في سبتمبر/أيلول الماضي إلى أن دولة الاحتلال تنتهج سياسة متعمدة لتدمير النظام الصحي في غزة.

بل إن شهادات جمعتها منظمة “أطباء من أجل حقوق الإنسان في إسرائيل” كشفت ممارسات صادمة بحق المحتجزين من العاملين الفلسطينيين في القطاع الصحي بينها إهمال طبي وتعذيب شارك فيه بعض الكوادر الصحية في دولة الاحتلال. 

وفي شهادة من داخل أحد مراكز الاعتقال، وصف جراح من مستشفى ناصر كيف تنتشر الالتهابات والأمراض الجلدية بين المعتقلين دون تلقيهم أي رعاية تذكر.

وأمام هذا المشهد من الذي يمكن أن يُنتظر منه “تجديد التعاون”؟ هل هم المسعفون الذين استشهدوا تحت نيران الاحتلال؟ أم الطبيبة آلاء النجار التي فقدت زوجها وتسعة من أطفالها في غارة جوية؟ أم الطبيب عدنان البرش، الذي قضى تحت التعذيب في معتقلات الاحتلال، في ظروف وثقتها منظمات حقوقية دولية؟

وحتى داخل دولة الاحتلال، حيث يشكل الفلسطينيون ربع عدد الأطباء ونصف الكوادر الطبية الجديدة، يعاني العاملون الفلسطينيون من إسكات ممنهج، تمامًا كما يحصل مع المدافعين عن حقوق الفلسطينيين في الجامعات الغربية، الذين يُستهدفون في أرزاقهم ويواجهون بيئة ترهيب مهنية.

وفي تجاهل فجٍ للواقع، تصوّر المقالة الافتتاحية الوضع كما لو أنه “نزاع متبادل” بين طرفين متكافئين، متناسية أن المقارنة الحقيقية هي بين أسماك محاصرة تُطلق عليها النار داخل برميل مغلق وما الأسماك في  هذه الحالة إلا أطفال غزة، والبرميل هو حصار خانق، والبندقية هي قنابل أمريكية تزن طناً تقريباً وتبيد العائلات والمنشآت الصحية.

وفي محاولتها لتبرير الدعوة إلى “تجديد التعاون”، تعتمد مقالة AJPH على سردية رومانسية عن “التعاون الصحي السابق” بين المؤسسات الصحية الفلسطينية وتلك التابعة لدولة الاحتلال، مشيرة إلى حملات تطعيم مشتركة كأمثلة ناجحة. 

غير أن المقالة تتغافل عن السياق الأساسي لتلك المبادرات حيث كان تنفيذها يجري دائمًا تحت هيمنة كاملة من طرف الاحتلال، وسط رقابة خانقة على حركة الأفراد والمعدات وحتى السعرات الحرارية التي تدخل غزة، وهو ما وصفه مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية عام 2015 بأنه “تنمية معكوسة وإفقار ممنهج”.

ويبدو التناقض جليًّا حين تتباهى المقالة الافتتاحية بحملة تطعيم نُفذت في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 استجابة لتفشي شلل الأطفال، متناسية أن تفشي المرض سببه الأساسي كان التهجير القسري وتدمير الاحتلال للبنية التحتية للصرف الصحي ونظم النفايات.

 بل إن قوات الاحتلال نفسها ألقت قنبلة صوتية على عيادة للتطعيم خلال ما سمّته “هدنة إنسانية”، في مثال فاضح على استهتارها بصحة الأطفال.

أما فيما يخص “التعاون في إيصال المساعدات”، فتغفل المقالة الافتتاحية هجمات الاحتلال التي استهدفت عمداً شحنات طبية ملحّة، والمستشفيات خلال عمليات إجلاء طبي منسقة.

حتى أن المقالة تتناسى موضوع سيارة الإسعاف التي كانت تنقل الطفلة هند رجب ذات الست سنوات، والتي أُطلقت عليها 335 رصاصة بعد مناشدات متكررة للنجدة، لتنضم هند إلى عائلتها التي قُتلت أمامها، ومسعفيها الذين سقطوا وهم يحاولون إنقاذها.

كيف يمكن التحدث عن “تعاون صحي” بينما تُهاجم ركائز العمل الصحي الفلسطيني في كل لحظة؟

المقال لا يذكر شيئًا عن تدمير الاحتلال المتواصل لمرافق المياه، أو شحّ الصابون والمطهّرات، الذي أدى لانتشار اليرقات في جروح المصابين. 

كما أن المؤلفين الأربعة للمقالة هم إسرائيليون، إلى جانب مستشار أمريكي سابق لوزارة الصحة الإسرائيلية وليس بينهم أي فلسطيني، في تغييب واضح لأصحاب الأرض وللضحايا الحقيقيين.

الفضيحة تتعمق مع التقارير التي كشفت مؤخرًا عن نية الاحتلال تعليق تنسيق الإجلاء الطبي للأطفال الفلسطينيين فوق سن 12 عامًا، في وقت ينتظر فيه أكثر من 10 آلاف مريض بينهم أكثر من 4000 طفل فرصة للنجاة عبر إجلاء طبي عاجل.

لكن خلف هذه الدعوة “الصحية” أهداف سياسية واقتصادية بحتة، فالبيان الصحفي الصادر عن الجامعة العبرية أوضح أن المقال يُشكّل “ردًا قويًا على حملات المقاطعة الأكاديمية والعلمية الإسرائيلية”، ويدين الجهود الرامية إلى عزل المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية.

بمعنى آخر، ليس الهدف من هذا الخطاب إنقاذ الأرواح أو تعزيز الصحة العامة، بل إنقاذ سمعة المؤسسات الإسرائيلية من المقاطعة المتنامية، في وقت تزداد فيه الأدلة على تواطؤ هذه المؤسسات في جريمة الإبادة الجماعية الجارية في غزة.

لا تدعو المقالة للتعاون الحقيقي، بل للتطبيع مع الاحتلال، وصرف الأنظار عن مسؤوليته الواضحة. 

وبينما تواصل الولايات المتحدة تمويل الحرب وتوفير الغطاء السياسي والعسكري، تصمت مؤسسات الصحة العامة في الغرب بل وتشارك في تبرير الجريمة.

والسؤال الذي يفرض نفسه أمام هذا الكم من التناقض والنفاق هو هل يُمكن لمسعف فلسطيني أن “يتعاون” مع من يدفنه حيًا تحت أنقاض سيارة إسعافه؟

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة