العدوان وحد إيران… والرد بدأ من الشعب لا الدولة

بقلم حميد دباشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر

بلغ النفاق السياسي للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ذروته هذا الأسبوع، في أعقاب تحريض لا مبرر له من الاحتلال على إشعال فتيل الحرب مع إيران، مما أدى إلى هجوم واسع النطاق ضدها.

أسفر العدوان على البنية التحتية الصناعية الإيرانية واستهداف قيادات إيران العسكرية والعلمية عن مقتل المئات من المدنيين، في نهج بات سمة مميزة لجيش الاحتلال، على غرار جرائمه المستمرة في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن.

وفي ليلة السبت، دخلت الولايات المتحدة بشكل مباشر في الصراع عبر تنفيذ عملية سرية استهدفت مواقع نووية إيرانية في فوردو ونطنز وأصفهان، ما يمثل ذروة التحريض الممنهج على الحرب.

غير أن عزيمة الشعب الإيراني في الدفاع عن وطنه لم تكن لتلين، إذ يمكن أن تواجه الدول العربية التي تستضيف قواعد عسكرية أمريكية نشطة وتشارك بصمت أو علانية في هذا العدوان عواقب وخيمة جراء الانتهاك الفاضح لسيادة دولة أخرى في المنطقة.

ولم تكن خدعة ترامب المبتذلة القائمة على التظاهر بالسعي إلى التفاوض قبل شن الغارات سوى غطاء هزيل لعدوان مدروس، فدولة الاحتلال، في جوهرها، ليست كيانًا ذا سيادة، بل قاعدة عسكرية محصنة، وُجدت لخدمة مصالح داعميها ومانحيها في واشنطن والعواصم الغربية.

لقد قضت دولة الاحتلال عقودًا في شيطنة إيران، بترويج مزاعم مكررة عن سعي طهران الحثيث لصنع قنبلة نووية تهدد بها العالم، والواقع أن هذه الأكذوبة، التي يتداولها الإعلام الغربي ويستخدمها صانعو القرار كذريعة دائمة، تصدر عن كيان استيطاني يستحوذ على مخزون ضخم من الأسلحة النووية، ويواصل ارتكاب مذابح جماعية ضد الفلسطينيين، وتدمير المجتمعات في غزة والضفة وسوريا ولبنان واليمن.

إن أي إنسان عاقل يُقرّ بأن لا دولة، لا إيران ولا دولة الاحتلال، ولا غيرهما من الدول يجب أن تمتلك السلاح النووي، لكن هل يحق لكيان استيطاني يرتكب الإبادة الجماعية يوميًا أن يتصدر الخطاب الدولي حول “من يحق له امتلاك السلاح ومن لا يحق له”؟ هل الولايات المتحدة، التي لا تزال الدولة الوحيدة في العالم التي استخدمت السلاح النووي ضد المدنيين في هيروشيما وناغازاكي، في موضع يسمح لها بإلقاء الدروس الأخلاقية؟ وهل أوروبا، بثقلها التاريخي من الاستعمار والفاشية، يمكنها أن تتحدث عن القانون الدولي والشرعية؟ بالطبع لا.

إيران كـ”مسرح تشتيت”

الهجوم على إيران، في جوهره، ليس إلا محاولة فاضحة لتشتيت الانتباه عن الجرائم المستمرة في فلسطين، فما دامت دولة الاحتلال عاجزة عن إخفاء جرائمها اليومية، فإنها تلجأ إلى خلق “عدو خارجي” هو في هذه الحالة إيران بغية تحويل أنظار العالم عن الإبادة الجماعية في غزة والضفة.

وفي حين أخبار إيران العناوين حالياً، تواصل قوات الاحتلال قتل الفلسطينيين بلا هوادة وسرقة مزيد من أراضيهم، وما إيران في هذه الرواية سوى وسيلة لصرف الأنظار بهدف إخفاء الحقيقة.

ومن السهل تخيّل أن دولة الاحتلال، في ظل غطرستها، قد تستهدف مستقبلاً تركيا أو اليمن أو حتى دولًا أبعد جغرافيًا، طالما أن ذلك يساعدها على تشتيت الانتباه عن فلسطين.

والرد الحقيقي على هذا “التشتت بالدم” لا يكون بالرد على مسرحيات الاحتلال، بل بالثبات على القضية الجوهرية وهي قضية فلسطين، فحيثما يُمارَس القتل وتُرتكب المجازر، هناك يجب أن تبقى البوصلة.

أما الشعب الإيراني، فهو لا يسعى للانتقام من دولة الاحتلال بالقنابل أو الصواريخ، بل يُراكم في ذاكرته، جيلاً بعد جيل، حجم الازدراء والاحتقار للآلة العسكرية القاتلة التي ترعى هذا العدوان.

ومن بين أكثر الحيل دعائية ومثاراً للسخرية، ما قام به رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو من إرسال “رسائل مصورة” إلى “الشعب الإيراني العظيم”، في محاولة يائسة لخلق شرخ داخلي في المجتمع الإيراني.

غير أن مثل هذه المسرحيات لا تمر على شعوب عريقة كالشعب الإيراني، الذي يدرك جيدًا أن المعارضة الحقيقية تأتي من الداخل، من نبض الشارع وليس من متحدثي الاستخبارات عبر شاشات الدعاية.

ورغم التعدد الكبير في مواقف الإيرانيين السياسية، إلا أن هناك إجماعًا عميقًا على أمر واحد هو الدفاع عن الوطن، فإيران ليست مجرد دولة، بل حضارة تمتد آلاف السنين، وكل فرد فيها يُعدّ مكوناً حيًا في خزان تاريخها وثقافتها وهويتها.

قد يختلف الإيرانيون مع حكومتهم بل ويعارضونها بحدة، لكن ذلك لا يعني أنهم يسمحون لغزاة من الخارج بتدمير بلادهم، وما نشهده اليوم هو لحظة نادرة يتوحد فيها شعب بأكمله حول وطنه، لا حول حكامه، نعم فالتاريخ يعلمنا أن السيادة لا يملكها الحُكّام بل الشعوب.

كما أن المواقع النووية التي استُهدفت بالقصف الأمريكي والإسرائيلي ليست ملكاً للحكومة الإيرانية، بل هي جزء من سيادة الأمة الإيرانية نفسها، بناها علماؤها وأبناؤها، وعليها تراكمت تضحيات شعبها، ولا يمكن للصهاينة، الذين بنوا كيانهم الاستيطاني على أنقاض أرض الآخرين، أن يفهموا هذه الطبيعة من الانتماء العميق.

إن هذه المعركة التي ستخسرها دولة الاحتلال عاجلًا أم آجلًا، لن تكون مجرد فشل ضربة عسكرية تشنها، بل ستكون بداية لتحول سياسي عميق في الإقليم، وستمتد آثارها لتلهب قلوب الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين، ولتزج بالمزيد من الشعوب في خندق الدفاع عن أرضهم، بعدما تيقّنوا أن المقاومة لم تعد خيارًا بل قدرًا.
أجل، الخسارة القادمة لدولة الاحتلال لن تهزّ أمنها فقط، بل ستُضعف أكثر الأنظمة العربية الجبانة التي وقّعت على ما يُعرف باتفاقيات أبراهام، تلك التي قدّمت أوراق اعتمادها للعدو مقابل وعود كاذبة بالأمان والاستقرار.

تحوّل في التيار العالمي

ربما لم تُدرك حكومة الاحتلال بعد أن العالم يتغير من حولها، هذا النظام الذي طالما بالغ في تقدير قوته، يواجه اليوم موجة متصاعدة من المعارضة من حيث لم يكن يتوقّع، من قلب الجامعات الغربية، من ساحات نيويورك إلى كامبوس كاليفورنيا، من أصوات الطلاب الذين يفترشون الأرض احتجاجًا على الإبادة في غزة، إلى تيار جديد من الأميركيين الرافضين لاستغلالهم في حروب لا تخدمهم.

لقد بدأ تيار معادٍ للصهيونية يتشكل في الولايات المتحدة، ليس من اليسار فقط، بل حتى من أطياف كانت محسوبة على اليمين المتطرف، كالمعلق تاكر كارلسون، والخبير الاستراتيجي ستيف بانون، وعضوة الكونغرس مارجوري تايلور غرين، وهؤلاء، رغم تباين توجهاتهم، يتفقون على أمر واحد مفاده أنهم سئموا من دفع ثمن سياسات صهيونية دمرت سمعة أمريكا وأثقلت شعبها بالحروب.

الهجوم العسكري على إيران، وما سبقه من تحريض إسرائيلي، لم يولّد إلا المزيد من العداء الشعبي العميق والثابت تجاه دولة الاحتلال، وتجاه داعميها في واشنطن، هذا العداء لا ينبع من دعاية، بل من الدماء المسفوكة، من القنابل التي سقطت على أصفهان، ومن أجساد الأطفال تحت أنقاض غزة.

إيران ليست مجرد دولة مستهدفة، بل وطن الشاعر حافظ وفردوسي وجلال الدين الرومي ونيما يوشيج وفروغ فرّوخزاد، إنها وطن ينهل من قرون من الفلسفة واللغة والشعر،والتاريخ، هذا الوطن لا يُقهر بالقنابل، بل يزداد عنفوانًا كلما ضُرب.

أما دولة الاحتلال، فتقوم على إرث من أسماء مثل ثيودور هرتزل، ودافيد بن غوريون، وباروخ غولدشتاين، رموز زرعت الكراهية، وأنتجت آلة قتل لا تعرف سوى الاستيطان والإبادة.

مفارقة الرد

لم تدمّر دولة الاحتلال برنامج إيران النووي، بل على العكس، عجّلت بسعي طهران نحو امتلاك قوة ردع نووية كاملة.
فبعد أن كانت إيران تتبنى موقفاً مبدئياً بعدم تصنيع سلاح نووي، أصبح الخيار مطروحاً بقوة في ضوء هذا العدوان المتكرر، ولم يعد من حق أحد الآن أن يلوم إيران إن قررت أن تمتلك قنابل نووية، دفاعاً عن نفسها في وجه هذا الوحش المنفلت.

الشعب الإيراني، الذي اختبر الغزو والحصار والإرهاب لن يغفر ولن ينسى، ولن يُطلق الصواريخ عشوائيًا، بل سيطلق شرارات الذاكرة، ويُغذّي إرادة الصمود، ويبني وجدانًا جماعيًا لن يُمحى.

وسيبقى هذا الشعب يلاحق أيضًا كل من خانوه من عائلة بهلوي التي سلّمت البلاد للاحتلال، إلى المخبرين المحليين الجدد الذين انتقلوا إلى الولايات المتحدة ليشتموا وطنهم، ويُروّجوا لسرديات الاحتلال أمام الشاشات.

الخيانة تُدوَّن في الذاكرة

تروي الأساطير أن الفارسي أريوبارزانيس قاتل حتى الرمق الأخير حين غزا الإسكندر الأكبر بلاد فارس، لكن راعياً خائناً دلّ الغزاة على طريق للالتفاف على الجيش الفارسي، هذا المشهد يشبه ما فعله إفيالتيس اليوناني في معركة “ثيرموبيلاي” حين خان قومه.

لا يتذكر أحد اليوم اسم ذلك الراعي، لكن الشعب الإيراني اليوم يعرف أسماء الخونة جيداً، أولئك الذين يتحدثون باسم “الديمقراطية” وهم يمهّدون الطريق للصواريخ فوق وطنهم، سيسجّلهم التاريخ لا كمنقذين، بل كخونة، وستُحاسبهم الذاكرة الإيرانية عاجلاً أم آجلاً.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة