حرب بلا نصر وهدنة بلا شروط: هل قلبت إيران الطاولة في 12 يومًا؟

بقلم معين رباني

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

فيما يصفه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بـ”حرب الإثني عشر يومًا” بين دولة الاحتلال وإيران، يبدو أن وقفًا هشًا لإطلاق النار قد تحقق فعلاً، لكن السؤال الأعمق يظل: ما الذي دفع الأطراف إلى القبول بهذه التهدئة المفاجئة؟

بالنسبة للولايات المتحدة، كانت الحسابات واضحة نسبيًا، فقد اعتبرت واشنطن العدوان العسكري الذي شنّته دولة الاحتلال أداة ضغط لتعزيز موقفها التفاوضي مع طهران، فإذا نجحت ضربات الاحتلال فإن ذلك سيدفع إيران لتفكيك برنامجها النووي بالكامل، والتنازل عن حقها المشروع بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية (NPT) في تخصيب اليورانيوم على أراضيها.

كما كان من شأن نجاح ضربات الاحتلال أن ينهي برنامج إيران الصاروخي ويقطع علاقاتها مع حركات المقاومة في المنطقة، وكل ذلك ضمن اتفاق تفرضه واشنطن لاحقًا.

تجلّت هذه النوايا الأمريكية بشكل أكثر وضوحًا في القصف الذي استهدف ثلاث منشآت نووية إيرانية نهاية الأسبوع، وترافق مع تهديدات بشن حملة عسكرية أوسع إذا ما ردت طهران. 

ولطالما لمح ترامب إلى رغبته في “تغيير النظام” في إيران إلا أنه لم يُصدر أي تعليمات رسمية للبنتاغون بالمضي قدماً في هذا الاتجاه.

وكالعادة، سارع ترامب إلى إعلان “النصر الكامل”، متفاخرًا بأن المواقع النووية الثلاثة دُمّرت كليّةً، وأن البرنامج النووي الإيراني انتهى إلى غير رجعة، غير أن ذلك لم يكن إعلان نصرٍ بقدر ما كان محاولة لحفظ ماء الوجه والانسحاب السريع.

وعلى الرغم من ذلك، لم تتأخر الانتقادات الموجهة إلى ترامب، فقد سخر عدد من الخبراء من ادعاءاته موضحين أن إيران كانت قد أخلت منشآتها من المواد الحساسة والمعدات الأساسية قبل القصف، وأن الأضرار التي لحقتها وإن كانت جسيمة لم تصل إلى حد الشلل الكامل، وتحديدًا في منشأة فوردو النووية المحصّنة، والتي يُرجّح أن أجزاء منها ما زالت صامدة.

والأهم من ذلك أن إيران، كما يشير معظم المراقبين منذ سنوات، تمتلك المعرفة والخبرة اللازمتين لإعادة بعث بناء برنامجها النووي من جديد، فمن غير اجتياح عسكري شامل، لا يمكن لأي هجوم جوي مهما بلغ حجمه أن يفلح سوى في تأخير البرنامج النووي لا القضاء عليه.

مداولات داخلية وانقسامات عميقة

من المحتمل أن تكون واشنطن قد أدركت لاحقًا أن الحملة العسكرية التي تقودها دولة الاحتلال ضد إيران بلغت سقفها الأعلى، وأن الاستمرار فيها دون هدف حقيقي جديد لن يؤدي إلا إلى المجازفة بتوسيع رقعة الصراع، وربما الانزلاق إلى مستنقع دموي جديد.

ورغم أن الرد الإيراني جاء رمزياً عبر قصف محدود لقاعدة العديد الأمريكية في قطر دون وقوع إصابات، إلا أنه أوصل رسالة صريحة بأن طهران مستعدة لتوسيع المواجهة إذا اقتضت الضرورة.

وقد فجر عدوان الاحتلال، خصوصًا مع الانخراط المباشر من قبل واشنطن فيه، نقاشًا داخليًا محتدمًا في الولايات المتحدة، وتحديدًا داخل صفوف الحزب الجمهوري، حيث انقسم الجمهوريون بين تيار معارض لأي تورط عسكري خارجي، وآخر يدفع باتجاه التصعيد الشامل، وبين الطرفين، كان ترامب يبدو تائهًا، يوازن بين صورته “القوية” ومصالحه السياسية.

وربما أدرك ترامب ولو متأخرًا، أنه وقع في فخ نصبه له بنيامين نتنياهو، وأن الاستمرار في هذه الحرب قد ينتهي به إلى تكرار كابوس العراق بنسخة أكثر دموية، مما يهدد ما تبقى من نفوذ تيار “اجعل أمريكا عظيمة مجددًا” (MAGA).

لذلك، جاءت المكالمة “المشهودة” من واشنطن، التي أعلنت وقفًا لإطلاق النار، بمثابة طوق نجاة، لا لإيران، بل لترامب نفسه.

الحسابات الإيرانية: بقاء البرنامج وصمود الردع

في المقابل، كانت حسابات إيران أكثر براغماتية، فمنذ البداية، اعتبرت طهران أن ما يحدث هو عدوان سافر من قبل دولة الاحتلال، ورفعت الصوت بالدعوة إلى وقفه.

ورغم الخسائر المادية الكبيرة، فإن البرنامج النووي الإيراني لم يُمحَ من الوجود، وبقيت قدراتها الصاروخية، كما بدا في الهجمات الأخيرة يوم الثلاثاء، حاضرة وفاعلة.

بل إن طهران استطاعت أن تُظهر تطورًا نوعيًا في دقة ضرباتها، وكشفت هشاشة متزايدة في الدفاعات الصاروخية الأمريكية والإسرائيلية، ما منحها ثقة أكبر في قدرتها على الصمود في صراع مفتوح.

لكن هذا لا يعني أن إيران كانت تسعى لحرب طويلة، بل على العكس، إذ كان من شأن الاستمرار في القتال أن يزيد من حجم الكلفة الإنسانية والاقتصادية، والأسوأ، أنه كان سيؤدي إلى تدخل أمريكي أعمق وربما أكثر تدميرًا في حال رفضت طهران أي مبادرة لوقف إطلاق النار لا تشمل استسلامًا كاملاً.

كما أن إشعال حرب إقليمية شاملة كان سيقوّض سنوات من العمل الإيراني على تحسين علاقاتها مع دول الخليج، ومن غير المرجح أن تكون روسيا أو الصين مستعدتين في ظل الحرب لتجديد أو تحديث منظومات الدفاع الجوي الإيرانية المتهالكة.

من هنا، رأت طهران أن العرض الأمريكي بوقف لإطلاق النار، طالما أنه لم يكن يتطلب منها التنازل أو التراجع، يُمثّل مخرجًا مقبولًا ومؤقتًا، شريطة ألا يكون مجرد كمين أمريكي إسرائيلي جديد.

دولة الاحتلال لم تنتصر ووقف النار لن يصمد طويلًا

تبدو دولة الاحتلال في موقف أكثر ارتباكًا وتعقيدًا، فالأهم بالنسبة لرئيس وزرائها بنيامين نتنياهو أنه فشل في جرّ الولايات المتحدة إلى حرب مفتوحة مع إيران، ولم يتحقق أي من الأهداف المعلنة: لا البرنامج النووي الإيراني تم القضاء عليه، ولا نظام طهران تم زعزعته.

بل إن إيران استمرت في إطلاق صواريخها الباليستية حتى اللحظة الأخيرة قبيل دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ما ينفي تمامًا ادعاء “الردع” الذي طالما تغنّى به نتنياهو، والأسوأ من ذلك أن منظومات الدفاع الصاروخي لدى دولة الاحتلال لم تفشل فقط، بل عانت أيضًا من نقص خطير في الذخيرة والقدرة التشغيلية.

صحيح أن جيش الاحتلال ألحق أضرارًا فادحة بالجيش الإيراني وبعض البنى التحتية الحكومية، ونجح في اغتيال عدد من القادة والعلماء البارزين، وهي ضربات مؤلمة بلا شك، إلا أنها لم تؤدِّ إلى شلّ قدرات إيران، فهؤلاء القادة يتم استبدالهم، ومراكز القرار لا تزال تعمل، والبنية الأساسية للمواجهة لم تتفكك.

ورغم محاولات نتنياهو استثمار نجاحات أجهزته الاستخباراتية في اختراق إيران، إلا أن ذلك لا يوازي الفشل الاستراتيجي في تحقيق “انهيار” إيراني شامل، ويبدو أن دولة الاحتلال كانت تأمل في تمديد الحرب حتى ترضخ إيران وتجلس إلى طاولة تفاوض تملي فيها واشنطن شروطها.

لكن المكالمة الهاتفية الواردة من واشنطن التي أوقفت كل شيء وأعلنت وقف إطلاق النار بدلاً من توجيه ضربة جديدة، بدّدت تلك الأحلام.

وقف هش ونموذج فاشل

الأمر اللافت أن لا طهران ولا تل أبيب أعلنت رسميًا قبولها بوقف إطلاق النار، كل ما في الأمر هو تفاهم ضمني هش: إيران قالت إنه لا اتفاق، ولكنها ستوقف الرد طالما توقفت دولة الاحتلال عن الهجوم. 

أما الأخيرة، فتبدو مصممة على تكرار نموذجها المفضل في لبنان أي “وقف إطلاق نار” تلتزم به المقاومة فقط، فيما تحتفظ تل أبيب بحق الانتهاك كما تشاء، تحت غطاء أمريكي، لكن من المستبعد أن ينجح هذا النموذج في الحالة الإيرانية.

وذلك لأن إيران بخلاف حالة حزب الله، تملك جيشًا ودولة ومجالًا جويًا وصاروخيًا مستقلًا، ولن تسكت طويلًا على هجمات سرّية أو اغتيالات داخل أراضيها ينفذها عملاء الاحتلال، وستظل طريقة ردها على هذا النوع من “الحرب الهادئة” مفتوحة ومبنية على حسابات استراتيجية متغيرة.

إدمان الحرب ورسائل إلى لبنان

وسط هذا الهدوء المؤقت، تتردد تكهنات حول احتمال فتح جبهة جديدة من قبل دولة الاحتلال، وتحديدًا في لبنان، في محاولة لضرب حزب الله وإضعافه، وربما لدفع الدولة اللبنانية إلى نزع سلاحه. 

وقد تبدو هذه الخطوة غير واقعية، لكنها متوقعة من كيان أدمن الحرب، بل باتت الحروب بالنسبة له ضرورة وجودية وسياسية.

ومع استمرار الإبادة الجماعية التي تشنها قوات الاحتلال في غزة، قد تجد تل أبيب نفسها تسعى إلى “تصعيد مضاعف” يحقق لها سيطرة إعلامية على مشهد المنطقة، ويوسع هوامشها السياسية أمام الرأي العام الداخلي والدولي.

لا سلام دون اعتراف بالحقوق

ولكي يتحول وقف إطلاق النار إلى هدنة قابلة للاستمرار، فلا بد من العودة إلى المسار السياسي، وهذا ما يعيدنا إلى مفاوضات الولايات المتحدة مع إيران، وهي المفاوضات التي دفنها ترامب قبل أسبوعين حين ألغى الاتفاق النووي الموقّع عام 2015، مفضّلًا الحرب على التفاهم.

لكن الأفق السياسي يبدو مغلقًا، فطالما أصرت واشنطن على انتزاع تنازلات من طهران تمسّ حقوقها النووية المشروعة بموجب معاهدة حظر الانتشار وعلى رأسها تخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية فإن إيران لن تعود إلى طاولة المفاوضات. 

والأسوأ أن إيران سترفض، كما فعلت سابقًا، التفاوض على برنامجها الصاروخي أو على تحالفاتها الإقليمية، وأي تغيير في هذا الموقف سيكون دليلاً واضحًا على نجاح دولة الاحتلال في إخضاع إيران.

من “عتبة الردع” إلى امتلاك السلاح؟

السؤال الأخطر المتبقي هو: ما مستقبل الطموحات النووية الإيرانية بعد هذه الجولة؟ ففي اثني عشر يومًا فقط، نجحت الولايات المتحدة ودولة الاحتلال في تقويض ما تبقى من منظومة عدم الانتشار النووي، وأحدثتا شقًا عميقًا في المعايير الدولية التي نُسجت خلال عقود.

فهل تتجه إيران الآن إلى الخيار النووي الكامل؟ هل تطرد مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتنسحب من معاهدة حظر الانتشار، وتلتحق بموقف مشابه لدولة الاحتلال خارج المعاهدة وبسلاح نووي غير معلن؟

ستكون القيادة الإيرانية، بعد ما حدث، تحت ضغط شعبي و نخبوي غير مسبوق لاتخاذ هذا القرار، وربما تدرك الآن أن سياسة البقاء على “عتبة النووي” لم تعد فعالة كورقة ضغط تفاوضي، بل قد يكون امتلاك السلاح النووي الطريق الوحيد للردع الحقيقي أمام خصم لا يفهم إلا لغة القوة.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة