بقلم سمية الغنوشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
جاءت الحرب التي استمرت اثني عشر يومًا على إيران غير مسبوقة في تاريخ الصراع بالمنطقة، لا من حيث نطاقها العسكري ولا من حيث تداعياتها السياسية والاستراتيجية، فللمرة الأولى، تخوض دولة الاحتلال حربًا حقيقية، لا مجرد “عملية محدودة”، ضد دولة لا تربطها بها أي حدود مباشرة، وتفصلها عنها مسافة تزيد عن 1500 كيلومتر.
غير أن ما جعل هذه الحرب استثنائية بحق، هو أنها كانت أول مرة تُقاتل فيها الولايات المتحدة علنًا إلى جانب دولة الاحتلال في هجوم عسكري مباشر معلن وواضح دون مواربة أو تمويه.
بدت اللحظة وكأنها تتويج لعقود من التحالفات المبرمة، والتدريب المشترك، والتنسيق العسكري، والتواطؤ السياسي، فالمشهد الظاهري كان عرضًا للقوة المفرطة والتلاحم الاستراتيجي لكن ما كشفته الوقائع كان مغايرًا تمامًا: صورة كاشفة لهشاشة الاحتلال وتبعيته البنيوية، ولمنظومة قوة بدأت تتصدع تحت وطأة أسطورتها الذاتية.
لحظة كسر الخطوط الحمراء
ظلت دولة الاحتلال تعتمد على الدعم الغربي سياسياً وعسكرياً ومالياً، وكانت قدرتها على شن الحروب نابعة بالأساس من صلابة داعميها، لا من استقلال قوتها الذاتية، وباستثناء تواطئها مع بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فإن الاحتلال خاض معاركه بمفرده، على الأقل في الظاهر، والأمر الذي تغيّر اليوم ليس جوهر التبعية بل إسقاط أقنعتها.
لم تعد التبعية مغطاة بالعبارات الدبلوماسية أو تُمارس خلف الأبواب المغلقة بل باتت الآن واضحة فاضحة لا يمكن إنكارها.
عندما اعترف الرئيس الأميركي هاري ترومان بدولة الاحتلال عام 1948، فعل ذلك وسط انقسام حاد داخل إدارته، حيث حذّر عدد من مستشاريه من العواقب بعيدة المدى لإقامة كيان استيطاني استعماري في قلب العالم العربي والإسلامي.
وخلال العقود التي تلت، حافظت بريطانيا وفرنسا على موقع الراعي الأول للاحتلال، إلى أن أجبر الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور، خلال أزمة السويس، هذه القوى الثلاث على الانسحاب، مهددًا بإغراق الجنيه الإسترليني.
وجاء التحول الحاسم في العلاقة في عهد الرئيس ليندون جونسون، أول رئيس أميركي يزوّد دولة الاحتلال بأسلحة هجومية، رغم معارضة وزارة الخارجية آنذاك، ومنذ تلك اللحظة، تحوّلت واشنطن من مجرد راعية للمشروع الصهيوني إلى عموده الفقري وأصبحت الدرع الذي يحميه والسيف الذي يضرب خصومه.
وهم الاستقلال يتلاشى
في عدوان 1967، مكّنت الأسلحة الأميركية الاحتلال من السيطرة على سيناء والضفة الغربية والجولان خلال ستة أيام فقط، وفي حرب أكتوبر 1973، وعندما حاولت مصر وسوريا استعادة أراضيهما، أمر الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون بإطلاق جسر جوي عسكري فوري لإنقاذ الاحتلال، قائلاً لهنري كيسنجر: “أرسل كل ما يمكن أن يطير”.
ورغم كل هذا الدعم، كانت الولايات المتحدة ترسم دومًا خطًا أحمر واضحًا أمام التدخل المباشر في حروب الاحتلال وحتى حين تتماهى مصالحها معه كان يتم الحفاظ على مسافة شكلية.
ففي عام 1991، حين ضربت صواريخ سكود العراقية تل أبيب، منع جورج بوش الأب الاحتلال من الرد، حرصًا على وحدة التحالف العربي الذي شكّلته واشنطن ضد العراق، وحتى خلال غزو العراق عام 2003، استُبعدت دولة الاحتلال من أي دور علني، رغم أنها كانت من أكثر المستفيدين استراتيجيًا من إسقاط النظام العراقي، لكن اليوم، لم تعد تلك المسافة قائمة.
لا نصر بدون واشنطن ولا نصر معها
الدرس الأهم من الحرب الأخيرة هو التالي: لا تستطيع دولة الاحتلال الانتصار دون الولايات المتحدة، ولم تعد واشنطن قادرة على الانتصار مع الاحتلال.
فلأول مرة في تاريخ الصراع، لم تكتف واشنطن بتزويد الاحتلال بالأسلحة وتقديم الدعم السياسي، بل خاضت الحرب معه كتفًا إلى كتف، على الملأ، أمام أعين العالم.
لقد تحققت النبوءة القائلة أن الجيوش الأميركية والإسرائيلية التي أجرت تدريبات مشتركة العام الماضي لمحاكاة هجوم على منشآت إيران النووية، لم تكن تمارس سيناريو نظريًا، بل كانت تعدّ لواقع قادم.
لم ينزل البنتاغون إلى أرض المعركة بترسانة من القنابل الذكية والطائرات المسيّرة فحسب، بل بموقف سياسي ثابت معلن يدعم الاحتلال بكل أدوات القوة الممكنة.
لكن ما تغيّر لم يكن فقط في شكل التحالف، بل في جوهر قوة الاحتلال، فمنذ 7 أكتوبر 2023، وهو تاريخ بداية حربها المفتوحة على غزة، بدأت دولة الاحتلال تشن حربًا متعددة الجبهات تشمل القصف الممنهج للبنية التحتية المدنية في القطاع، وتوجيه ضربات متكررة في لبنان وسوريا، ودفع متواصل نحو حرب إقليمية شاملة، وفي خضم ذلك، سعت تل أبيب إلى ترسيخ صورتها كقوة إقليمية لا تُقهر، لكن الرد الإيراني كشف عمق هشاشتها
انهيار وهم القوة الذاتية
عندما قررت إيران الرد، لجأت دولة الاحتلال فورًا إلى واشنطن دون أن تملك القدرة على إدارة المعركة وحدها، ما جرى لم يكن فقط استنجادًا بالحليف، بل إعلانًا ضمنيًا بالعجز.
ومع ذلك، فقد تبدّلت الأدوار، فبينما كانت دولة الاحتلال في السابق تجرّ الولايات المتحدة إلى ساحات المعارك، أصبحت اليوم تُقاد إليها، وما بدا تحالفًا استراتيجيًا متساويًا، تبيّن أنه علاقة عميل بسيد.
لقد فقدت دولة الاحتلال، تحت حكم نتنياهو، مكانتها في مقعد القيادة، ولم تكن صاحبة القرار لا في إشعال الحرب ولا في إنهائها، فحتى وقف إطلاق النار، لم يكن بإرادتها، بل فرضته واشنطن، وعندما حاولت الالتفاف عليه، تم إيقافها علنًا، وتمت إهانة قادتها من أعلى هرم السلطة الأميركية.
من القوة إلى الفضيحة
لقد تبين أن ما كان يُسوّق كقوة غير مسبوقة لم يكن إلا فضيحة سياسية وعسكرية، إنها لحظة نزع القناع عن قوة الاحتلال، ومكانتها الإقليمية، فمشهد الطيارين الإسرائيليين وهم يُجبرون على العودة بطائراتهم، بعد مكالمة واحدة من البيت الأبيض، أبلغ من أي بيان.
ليس هذا انتصارًا، إنه اعتراف بانكشاف كامل أمام الرأي العام العالمي، فحين تصبح السيادة خاضعة للهاتف الأميركي، لا يمكن الحديث عن “قوة إقليمية”، بل عن كيان وظيفي يدور في فلك حليف أقوى
ولا تقتصر المفارقة العميقة التي كشفت عنها الحرب على اضطرار دولة الاحتلال إلى الاعتماد الكامل على الحليف الأميركي، بل في نتائج ذلك التحالف، فبينما كانت الضربات الأميركية والإسرائيلية تنهمر على أهداف إيرانية، بقيت المقاومة في غزة ولبنان حية تواصل هجماتها، وتثبت مجددًا أن ميزان الردع لم يُحسم.
فبعد ساعات من إعلان وقف إطلاق النار بين طهران وتل أبيب، قُتل سبعة جنود إسرائيليين في غزة، في هجوم أربك قيادة الجيش الإسرائيلي وأكد أن “التهدئة” لم تُترجم إلى ميدان المعركة.
لقد ظلّت غزة، المحاصرة والجائعة والمحترقة، تقاتل، ترفض الانكسار، وتؤكد أن المقاومة ليست مجرّد تكتيك، بل عقيدة، وثقافة، ووريثة تاريخ طويل من التحدي والصمود في وجه الاستعمار.
من الانهيار العربي إلى بزوغ الشعوب
قارن هذا الصمود المشهود بانهيار ثلاث جيوش عربية في عام 1967 في غضون ستة أيام، أو خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت بعد حصار دام شهرين فقط في صيف 1982، وستجد أن ما تمثّله غزة اليوم في ظل المجازر المفتوحة ليس مجرد تحدٍّ للمنطق العسكري الصهيوني، بل هو تطوّر نوعي في أسلوب وأفق المقاومة.
وبينما تنخرط بعض الأنظمة العربية في موجات تطبيع وتسويات مع الاحتلال، تنبض الشوارع العربية من المحيط إلى الخليج بالرفض والاشتعال، ولا صوت يعلو على صوت الشعوب، تلك التي ترفض الاستسلام رغم كل القمع، والتي ترى في فلسطين، والمقاومة، والكرامة، خطوطًا حمراء لا تُمحى.
هذه الشعوب ليست خرساء، من تونس إلى اليمن، ومن بغداد إلى الخرطوم، تخرج في كل مرة تُستباح فيها غزة أو تُقصف فيها دمشق أو يُدنس فيها الأقصى، تتظاهر، تغني، تصرخ، وتعيد إنتاج الشعور بالكرامة الجمعية، إنها ترفض إملاءات الحلف الأميركي الإسرائيلي، وتقف في صف المقاومة، مهما بلغت الأكلاف.
الإجماع الإمبراطوري يتشقق
ليس في المنطقة وحدها فقط ظهرت الشقوق، بل في قلب الغرب ذاته، فالإجماع السياسي الأميركي، الذي كان يُعتبر ثابتًا لا يُمس فيما يخص الدعم المطلق لدولة الاحتلال، بدأ يتآكل.
داخل الحزب الديمقراطي الأمريكي، بدأت أصوات تتصاعد تعارض الاستراتيجية الإسرائيلية، لا سيما من الجناح التقدمي الذي بات يعبّر عن شريحة متزايدة من الناخبين الأميركيين، خاصة من الشباب والملونين، ولم يعد مستغربًا أن يتفوّق الدعم للفلسطينيين على الدعم للاحتلال بين بعض فئات الناخبين الديمقراطيين.
أما داخل الحزب الجمهوري، فقد بدأت الأرض تهتز كذلك، فهناك شريحة معتبرة من القاعدة المحافظة، التي كانت يومًا خزانًا صلبًا لدعم الاحتلال بدأت تنقلب، تحت وطأة القلق من الزج بالولايات المتحدة في حروب لا تخصها، فحتى ترامب، أبرز حليف للاحتلال، بدأ يعيد حساباته.
تآكل الخطاب الصهيوني
لقد كشفت الحرب عن تصدّع في الخطاب الصهيوني نفسه، لم تعد صورة “الضحية” التي لطالما روّجتها دولة الاحتلال تقنع أحدًا، بل على العكس، باتت تُرى كقوة عدوانية توسعية، تمارس الإبادة، وتختبئ خلف عبارات جوفاء عن “الأمن القومي”.
لقد باتت السخرية فاضحة، فكلما قصفت دولة الاحتلال أو اغتالت، كلما ساهمت في ترسيخ المقاومة التي تزعم أنها تسعى لاجتثاثها، وكلما احتمت بالولايات المتحدة، كلما زاد انكشافها وتآكل وهم استقلالها.
لقد سقطت الأساطير، واحدة تلو الأخرى، بدءاً من “الجيش الذي لا يُقهر”، إلى “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، إلى “التحالف الأبدي مع أميركا”، كل هذه البنى الخطابية باتت تواجه تحديًا داخليًا وخارجيًا.
انتصار المقاومة أم انكشاف القوة؟
لم تكن الحرب الأخيرة “نصرًا” بالمعنى العسكري لأي طرف، لكنها كانت لحظة انكشاف استراتيجي وبالنسبة لدولة الاحتلال، كانت صفعة مزدوجة: من الداخل، فشل استخباراتي وتكتيكي، ومن الخارج، اعتماد كامل على حليف متردد ومتقلّب.
أما الولايات المتحدة، فقد وجدت نفسها في وضع غير مسبوق، فهي تُقاتل دفاعًا عن كيان أصبح عبئًا استراتيجيًا بدل أن يكون ذخرًا، فما كان يُنظر إليه كتحالف ثابت، بات الآن يُنظر إليه كرهان خطير.
وبين هذا وذاك، خرجت المقاومة أكثر تماسكًا، وأكثر إصرارًا، وأكثر رسوخًا، سواء في غزة أو في جنوب لبنان أو في ساحات الضفة، ظلّ المبدأ واضحًا: لا تسوية دون كرامة، ولا أمن بلا عدالة، ولا تهدئة على حساب الحقوق.
استعادة التاريخ من بين الركام
لقد أعاد الخطاب الإمبراطوري الذي أُعيد إنتاجه في هذه الحرب بدءاً من تصريحات ترامب، إلى دعم البنتاغون المطلق إلى الأذهان لحظات الغطرسة الاستعمارية الكلاسيكية من الجنرال الفرنسي هنري غوراو وهو يعلن عودة الصليبيين عام 1920 أمام ضريح صلاح الدين، إلى الجنرال البريطاني إدموند ألنبي وهو يعلن نهاية “الحروب الصليبية” بدخوله القدس عام 1917.
لكن ما لم تفهمه تلك القوى آنذاك كما اليوم أن المنطقة لا تُحكم بالقوة وحدها، وأن منطق الاحتلال والإبادة لا يُنتج أمنًا، بل مقاومة وأن الشعوب، وإن انحنت، فإنها لا تنكسر.
هذه ليست نهاية حرب، إنها نهاية وهم، وهم التفوق المطلق، وهم الحصانة الأبدية، وهم الدعم غير المشروط.
وها نحن نرى بأم أعيننا دولة الاحتلال لا تستطيع الانتصار دون أميركا، وأميركا لم تعد قادرة على الانتصار معها.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)