هتاف ضد جيش الاحتلال في غلاستونبري: غضب مشروع يُحرّف إلى تهمة معاداة السامية

بقلم جو غيل 

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

لطالما عُرفت فرق موسيقى البانك بتجاوزها للخطوط الحمراء التي يرسمها المجتمع المحافظ، وكذلك بمواجهتها الصريحة للتيار السائد، وهي لو لم تكن كذلك لما كانت بانك من الأساس.

لا تهدف هذه الفرق إلى إسعاد الجماهير أو بث الأمل عبر نغمات دافئة كما يفعل فنانون مثل جيمس بلانت أو كولدبلاي، بل إن فرق البانك وُجدت لتعكس الغضب والاغتراب اللذين يشعر بهما كثيرون تجاه نفاق المجتمع وتعصّبه. 

وفي مهرجان غلاستونبري، واجه كل من فرقة ني كاب ومغنيها بوب فيلان هذا النفاق مباشرة، عندما وضعت الفرقتان مرآة أمام المجتمع البريطاني تعكس دعمه الضمني لإبادة جماعية ترتكبها دولة الاحتلال في غزة، وعندها اشتعلت هستيريا الإعلام وغضبه المصطنع.

فمن على خشبة مهرجان غلاستونبري في ظهيرة يوم مشمس، أطلق مغني الراب بوب فيلان هتافه الشهير: “الحرية، الحرية لفلسطين”، وردد الحشد خلفه الهتاف بحماسة، في مشهد يعكس الدعم الشعبي العميق للقضية الفلسطينية بين جمهور المهرجان وشرائح واسعة من المجتمع البريطاني.

ثم تابع فيلان هتافه قائلاً: “لكن هل سمعتم هذه؟”، قبل أن يبدأ بهتاف “الموت، الموت للجيش الإسرائيلي”، وردد الحشد خلفه الهتاف ذاته.

ومن على المنصة قال فيلان: “نحن لسنا مجرد أعضاء مسالمين في فرق البانك، أحياناً عليك أن توصل رسالتك بالعنف، لأن هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها بعض الناس”.

لكن ما قاله بوب فيلان لم يكن دعوة لقتل المدنيين أو الإسرائيليين كما ادّعت صحيفة ميل أون صنداي التي عنونت بشكل كاذب هتافه، في واحدة من أكثر الفبركات الصحفية فظاعة في سجل الصحيفة المعروف بالتحريض.

والنتيجة؟ تدفع الفرقة الآن ثمناً باهظاً لذلك الانفجار العاطفي ضد القتل الجماعي وتواطؤ الغرب، لقد ألغيت تأشيرة جولتها في الولايات المتحدة، وأُلغي عقد وكالتها، وبدأت الشرطة البريطانية تحقيقاً بحقها.

غضبٌ مشروع لا دعوة للكراهية

وبعد ما يقرب من عامين من حملة الإبادة الجماعية في غزة، فإن الرغبة في تفكيك المؤسسة العسكرية لدولة الاحتلال قد تبدو رد فعل طبيعياً لملايين الفلسطينيين الذين دُمرت حياتهم، وسُوّيت منازلهم بالأرض، وجُوّع أطفالهم، وقُتلوا على يد هذا الجيش.

وكل ما يطالب به حملة هذه الدعوات هو إنهاء الحرب، لا هذه الحرب فحسب، بل أيضاً أي عدوان مستقبلي قد يشنه الاحتلال على الفلسطينيين، وبعد نحو ثمانية عقود من الحروب المتواصلة والاحتلال والتهجير والمجازر، لم يعد طموح الفلسطينيين يتجاوز حقهم الأساسي في العيش بأمان في وطنهم، بعيداً عن إرهاب جيش الاحتلال.

ومن حول العالم يشعر الملايين بالغضب والاشمئزاز من حجم الجرائم التي وثقها الصحفيون والأطباء وعمال الإغاثة الفلسطينيون في غزة على مدى أكثر من 20 شهراً، غير أن هذا الغضب لا يجد له صدى بين من يُفترض أنهم ممثلو الإنسانية والعدالة: الحكومات الغربية التي ما زالت تضع “أمن إسرائيل” فوق القانون الدولي وأبسط قيم الأخلاق.

وفي مشهد سريالي آخر، تصدرت وزيرة الثقافة البريطانية، ليزا ناندي، المشهد الإعلامي كي تدين بشدة بثّ هيئة الإذاعة البريطانية لأداء بوبي فيلان وني كاب، ووصفت مشاركتهما في غلاستونبري بـ”المشاهد المروعة وغير المقبولة”. 

غير أن الوزيرة لم تذكر شيئاً عن المجازر الحقيقية التي يرتكبها جيش الاحتلال، رغم مرور قرابة عامين على سقوط آلاف الضحايا المدنيين في غزة.

فخلال العام الماضي، اتهمت المحكمة الجنائية الدولية رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكن إجراءً واحداً لم يتخذ ضدهما.

ولا يحتاج جيش الاحتلال لحماية من مغني بانك وقف على منصة غلاستونبري، بل إن ما يحتاجه فعلاً هو أن يُحاسب على جرائمه.

فغالباً ما ينخرط جنود الاحتلال في عنصرية مكشوفة وهتافات إبادة جماعية مثل: “الموت للعرب” و “لتحترق قراهم”، والواقع أن الفارق بين هتاف بوب فيلان، وهتاف جنود الاحتلال، هو أن الأول يستهدف قوة عسكرية عنيفة، بينما يعبّر الثاني عن كراهية عرقية ضد المدنيين.

والمفارقة أن صحيفة ميل لم تكتفِ بتشويه كلام فيلان، بل أعادت صياغته لتصنع منه مادة قابلة لإشعال فتيل الكراهية، وربما لأن الهتاف الأصلي “الموت للجيش الإسرائيلي” لم يكن مثيراً للفتنة بما يكفي حتى لقرائها.

كما يشير هذا التلاعب إلى معضلة أعمق تكمن في أن مجتمع الاحتلال بات مندمجاً بالكامل في مؤسسته العسكرية، حتى صار يصعب التمييز بينهما.

فوفقاً للبيانات الرسمية لدولة الاحتلال، يخدم نحو نصف الإسرائيليين في الجيش، وهو ما يجعل من جيش الاحتلال القوة المهيمنة والمقدسة في دولة استعمارية قائمة على التجنيد الإجباري، ومعظم قادة تلك الدولة، بمن فيهم نتنياهو، هم محاربون قدامى في حروبها المتعددة.

لم يدعُ بوب فيلان إلى قتل نتنياهو أو أي من قادة دولة الاحتلال، بل دعا إلى تفكيك أكثر قوة عسكرية عدوانية على وجه الأرض في يومنا هذا، فلا توجد مؤسسة عسكرية أخرى ترتكب هذا الكم من الفظائع ضد المدنيين من نساء ورجال وأطفال، وتتباهى بها أمام العالم كما يفعل جيش الاحتلال.

ففي أحد أكثر الأيام دموية، قصفت طائرات الاحتلال مقهى على شاطئ مدينة غزة، ما أدى إلى استشهاد المصور الصحفي إسماعيل أبو حطب، والفنان التشكيلي فرانس السلمي، و31 آخرين. 

وبالطبع فإن صحيفة ميل أون صنداي لم تنشر هذا الخبر في صفحتها الأولى، كما لم تُخصص له أي منابر للإدانة، تماماً كما تجاهلت مئات الفظائع الأخرى.

وحتى هذه اللحظة، لم يصدر أي تعليق من قادة بريطانيا السياسيين، رغم أن الجريمة موثقة بالصور والشهادات.

وفي شهادة مروّعة نشرتها صحيفة هآرتس، كشف جنود من قوات الاحتلال أن قادتهم أمروهم بإطلاق النار مباشرة على الفلسطينيين الجائعين الذين يقتربون من مراكز توزيع المساعدات في جنوب ووسط غزة.

وقال أحد الجنود: “تم التعامل مع طالبي المساعدات كقوة معادية، لم تُستخدم أي وسائل لتفريق الحشود، لا غاز مسيل للدموع، فقط رصاص حي، بكل ما يمكن تخيله: رشاشات ثقيلة، قاذفات قنابل يدوية، ومدافع هاون”. 

وأضاف: “لا أذكر حالة واحدة أُطلقت فيها النار كرد على هجوم، لم يكن هناك عدو، لم تكن هناك أسلحة”.

الخطأ في العنوان والغضب المصطنع

لكن بدلاً من التركيز على هذه الشهادات والجرائم، اختارت وسائل الإعلام البريطانية وبعض السياسيين الانشغال بهتاف مغني بانك، وبالزعم أن بثه على قناة عامة مثل BBC يُعد إساءة تستوجب العقوبة.

فقد أصدرت منظمة مهرجان غلاستونبري بياناً يبعد المهرجان عن كلمات فيلان، وأدان ما وصفه بـ”معاداة السامية والدعوة للعنف وخطاب الكراهية”.

ووقفت وزيرة الثقافة ليزا ناندي في البرلمان قائلة إن هتاف “الموت للجيش الإسرائيلي” يعادل دعوة لقتل كل إسرائيلي يهودي، أما اللورد إيان أوستن، مبعوث الحكومة البريطانية التجاري لدولة الاحتلال، فدعا الشرطة إلى التحقيق فوراً و”اعتقال أعضاء الفرقة إن لزم الأمر”.

وفعلاً، فتحت الشرطة البريطانية تحقيقاً جنائياً في أداء بوب فيلان وفرقة ني كاب خلال المهرجان.

غير أن كثيرين لا يرون في الدعوة لإنهاء جيش تُتهم قياداته من قبل منظمات حقوقية دولية بارتكاب إبادة جماعية معاداة للسامية بل إن اعتبارها كذلك، كما تفعل الصحف اليمينية وبعض السياسيين، هو في حقيقته موقفٌ معادٍ للسامية، لأنه يربط اليهود عامة بجيش الاحتلال ومسؤوليته عن الجرائم.

خطورة التلاعب بالمفاهيم

نائبة وزير الخارجية في دولة الاحتلال، شارين هاسكل، قالت لصحيفة ميل أون صنداي إن “الهتاف يستهدف إسرائيل لأنها يهودية، وهذا تحريض واضح”، لكنها أغفلت، عن قصد على الأرجح، أن الهتاف لم يكن “الموت لليهود”، بل “الموت للجيش الإسرائيلي”، جيش مدجج بالسلاح متهم بالإبادة مسؤول عن آلاف القتلى من المدنيين.

لا يمكن فصل محاولة صناعة ذعر جماعي بسبب هتاف، حتى وإن تم تحويره وتضخيمه، عن المناخ السياسي العام في الغرب، حيث يُجرَّم كل تعبير عن الغضب من جرائم الاحتلال.

وهذا التلاعب الخطير، كما وصفته الناشطة اليهودية الاشتراكية ناعومي ويمبورن-إدريسي، لا يخدم سوى دولة الاحتلال. 

تقول ناعومي: “لم يقل الموت للإسرائيليين، بل قال الموت للجيش الإسرائيلي وهو جيش قاتل مسلح، هذا الشعار رُدد في مظاهرات بأستراليا وغيرها، وهذه ليست محاولة للتودد للمترددين، بل احتجاج غاضب على إبادة تُبث أمام أعيننا، وإذا حاولتَ قمع الغضب المشروع تجاه هذه الإبادة، فهذا ما ستحصل عليه”.

البيان الأخير.. الصوت الذي لا يريدونه

أصدر بوب فيلان بياناً يوم الثلاثاء قال فيه: “نحن لا نريد موت اليهود أو العرب أو أي جماعة أخرى، نحن نطالب بتفكيك آلة عسكرية عنيفة، آلة أمرت جنودها باستخدام ‘قوة غير ضرورية ضد مدنيين ينتظرون المساعدة، آلة دمرت معظم غزة”.

وأضاف: “نحن، مثل غيرنا ممن سلطت الأضواء عليهم من قبل، لسنا القصة، نحن مجرد ملهاة، الحكومة لا تريد أن نوجّه إليها الأسئلة: لماذا تصمت أمام هذه الفظائع؟ لماذا لا تفعل شيئاً لوقف القتل؟ نحن مستهدفون لأننا نرفع أصواتنا”.

ومضى يقول: “جيش الاحتلال لا يحتاج إلى الحماية من مغني بانك في مهرجان موسيقي، بل يحتاج إلى أن يُحاسب على جرائمه أمام محكمة عادلة، وفقاً للقانون الدولي”.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة