بقلم مها الحسيني
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
كانت هديل صالح وأفراد عائلتها المكونة من تسعة أنفار يمضون الوقت جائعين وخائفين مكدسين في شقة صغيرة عندما كان قصف الاحتلال العنيف يهز المنطقة المحيطة بهم.
لقد أمضوا عدة أيام على هذا الحال خلال اقتحام الاحتلال العنيف لمستشفى الشفاء بمدينة غزة والأحياء المحيطة به في مارس/آذار 2024، حين اقتحم العشرات من جنود الاحتلال المنزل دون سابق إنذار.
ودون تردد، أطلق الجنود النار على والد هديل الفلسطيني البالغ من العمر 60 عامًا وقتلوه، وعندما هرع شقيقها الأكبر للمساعدة، استشهد أيضاً بالرصاص.
وخلال اقتحام المستشفى، عطلت قوات الاحتلال العمل فيه، ثم داهمت المباني المجاورة من باب إلى باب، وقتلت كما يحلو لها وأجبرت الناجين على الفرار.
وبعد مرور أكثر من عام على الهجوم الدموي، لا تزال الشهادات تتوالى، ولا تزال هديل صالح، التي تطاردها الصدمة، غير قادرة على العودة إلى المنزل الذي استشهد فيه والدها وشقيقها.
ومن أمام المنزل مباشرةً، أخذت هديل تروي لموقع ميدل إيست آي ما وصفته بأنه أكثر أيام حياتها كابوسًا.
حصار مستشفى الشفاء
قالت صالح، البالغة من العمر 21 عامًا، إن عائلتها اضطرت للفرار عدة مرات خلال السنة الأولى من الحرب، بعد تدمير منزلهم في قصف سابق.
وأوضحت أن آخر ملجأ لهم كان شقة بالقرب من مستشفى الشفاء، تقع بجوار دوار حيدر عبد الشافي، حيث قالت “كان وضعنا صعبًا للغاية، كان هذا نزوحنا العاشر، وكان ذلك خلال شهر رمضان”.
وأوضحت: “كان الطعام شحيحًا، والبضائع شبه معدومة، واضطررنا إلى ترك جميع ممتلكاتنا بسبب النزوح المتكرر ونقص وسائل النقل”.
وخلال الساعات الأولى من صباح 18 مارس/آذار 2024، شنّ جيش الاحتلال غارةً واسعةً على مستشفى الشفاء، مستهدفًا الأحياء المحيطة بغارات جوية مكثفة وقصفًا مدفعيًا.
وبعد تطويق المنطقة بالدبابات والآليات العسكرية، اقتحمت قوات الاحتلال المباني القريبة من مجمع المستشفى، ونفّذت عمليات إعدام ميدانية، وفي مواجهات أقل فتكًا، طردت السكان بالقوة من منازلهم.
وتتذكر صالح بعض التفاصيل قائلةً: “حوالي الساعة الثانية والنصف فجرًا، استيقظنا على صوت إطلاق نار كثيف في مكان قريب، مصحوبًا بصواريخ ودبابات ونشاط مكثف للطائرات الحربية”.
وتابعت: “كنا مرعوبين، حاولنا معرفة ما يحدث، لكننا لم نستطع، علمنا لاحقًا أنها غارة على مستشفى الشفاء”.
وجدت صالح وعائلتها، كغيرهم من سكان المنطقة، أنفسهم تحت حصار فعلي، ولم يتمكنوا لعدة أيام من مغادرة منازلهم، ناهيك عن الفرار من المنطقة.
ومضت هديل تقول: “كانت تلك الأيام صعبة للغاية، لم نستطع الإفطار، ولم نستطع الصلاة، ولم نستطع حتى تشغيل مصباح يدوي للرؤية في الظلام، وكان الجنود في كل مكان، والدبابات تتحرك باستمرار، ولم يكن هناك مخرج”.
بقيت العائلة محاصرة ومختبئة لمدة ثمانية أيام متوترة قبل أن تصل قوات الاحتلال إلى المبنى السكني الذي لجأت إليه.
أُعدموا عن بُعد
وعند حوالي الساعة الثالثة فجرًا من يوم 26 مارس/آذار، وبينما كانت العائلة تُحضّر سحورها، تعرّضت لكمينٍ نصبه لها أكثر من 60 جنديًا من قوات الاحتلال.
وقال صالح: “فجّروا مدخل المبنى بقنابل صوتية ومتفجرات، كنا في الطابق الأرضي وقتذاك، ثم اقتحموا باب شقتنا بقوة واقتحموا المكان، مُطلقين النار حتى قبل أن يروننا”.
كان جميع أفراد العائلة التسعة مُجتمعين في صمت في غرفة مُظلمة مُغلقة الباب، وكانت عائلة مُهجّرة أخرى، معظمها من النساء والأطفال، تقيم معهم أيضًا.
وكان الذكور البالغون الوحيدون الموجودون هم والد هديل، محمد صالح، وشقيقاها بلال، 28 عامًا، وصلاح، 18 عامًا، وقف والد صالح ليتحدث، محاولًا شرح أنهم مدنيون وأن معهم أطفالًا، لكن الجنود “أعدموه فورًا من مسافة قريبة قبل أن ينطق بكلمة واحدة، أطلقوا عليه النار في بطنه”.
في البداية، أملت الأسرة ألا يكون جرح الوالد قاتلاً، إذ لم يكن هناك دم واضح عند سقوطه، فحاول أشقاء هديل سحبه إلى مكان آمن، لكن الجنود أطلقوا النار عليه مرة أخرى.
“أطلقوا النار على بلال، أولًا في ساقه، ثم في بطنه” – – هديل صالح، امرأة فلسطينية
حُوصر أحد أشقاء صالح وتعرض للضرب والتعذيب، وبدا أن الجنود كانوا يتناقشون في مسألة قتله هو الآخر، قبل أن يطلقوا النار على قدميه ويمنعون أي شخص من الاقتراب منهما.
انطلق الجنود بعد ذلك لتفتيش الشقة، فلاحظ جندي أن بلال لا يزال حيًا فأطلق النار عليه مرة أخرى.
وتقول هديل: “عندما رآه الجندي يتنفس، أطلق عليه رصاصة في رقبته، لقد حدث ذلك أمام عيني مباشرة، لقد تأكد من موته”.
وتضيف هديل: “كنت في حالة رعب شديد أرتجف بشدة، وأصبت بالانهيار من هول ما رأيت، لقد توسلنا للجنود أن يحضروا طبيبًا لوالدي، الذي كان يعاني من أمراض القلب والسكري، لكن لم يستجب أحد، وبعد دقائق، عاد جندي وأبلغهم بوفاة والدها.
قالت: “انفجرنا بالبكاء. صرخ الجندي علينا قائلاً إنه قتل بلالاً أيضاً”، بعد التأكد من مقتلهما، سأل الجنود العائلة عن هويتهما.
قالت هديل: “كان هذا أوضح دليل، لقد أعدموا والدي وشقيقي دون أن يعرفوا حتى من هما، كانا مدنيين قُتلا بدم بارد”.
وعندما أخبرت هديل الجنود أن الرجلين هما والدها وشقيقها الأكبر، التفت إليها أحد الجنود وقال ساخراً: “الآن أنت رب البيت”، فأجابتهم: “بعد أن قتلت رب البيت، تقول هذا؟”
رمضان كريم
تلقى الناجون من العائلة تعليمات بمغادرة المنزل والتوجه جنوباً، فطلبت النساء تغيير ملابسهن قبل المغادرة، لكن الجنود أصرّوا على أن يفعلن ذلك أمامهم، وعندما رفضن، أُجبرن على المغادرة بملابس الصلاة فقط.
وقالت هديل: “قبل مغادرتي، سألت عن مصير جثتي والدي وأخي، فضحكوا على سؤالي وأجبروني على الخروج”.
وتابعت: “كنت مرعوبة من أن يحرقوا المبنى بجثتيهما، فقد سمعت أنهم فعلوا ذلك في منازل أخرى”.
وأضافت: “قبل إخلائنا، أخبرونا أنهم سيفجرون الشقة التي فوقنا، كان الانفجار مروعًا وبعده قالوا ساخرين رمضان كريم”.
بعد حوالي ساعتين من الرعب، اضطرت العائلة إلى ترك الجثث والفرار.
“في تمام الساعة 5:10 صباحًا، دفعونا خارج المنزل، كنا في حالة يرثى لها، والدموع في أعيننا، نسير في شوارع حالكة السواد، بالكاد نستطيع الرؤية” – هديل صالح، فلسطينية من غزة
وأضافت: “هددونا بأن دبابة ستتبعنا وستحلق طائرة بدون طيار في السماء للتأكد من توجهنا جنوباً”.
وقالت صالح “وأثناء سيرنا مررنا بجثث متناثرة على طول الطريق، وفي النهاية، غيرنا مسارنا وبقينا في مدينة غزة”.
وفي الأول من أبريل/نيسان، أنهت قوات الاحتلال عمليتها الكبرى الثانية على مستشفى الشفاء، والتي استمرت أسبوعين وخلفت مئات الشهداء والجرحى، وتسببت في دمار واسع النطاق، وتناثرت الجثث في أرجاء المستشفى والمناطق المحيطة بها.
وبعد ساعات قليلة من الانسحاب، في الثاني من أبريل/نيسان، عادت العائلة إلى المنزل لاستلام جثث أحبائها ودفنها، لكنها لم تعد للعيش هناك منذ ذلك الحين.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)