في أول تصريح من نوعه يصدر عن شخصية قانونية بريطانية بارزة، وصفت البارونة هيلينا كينيدي، المحامية الشهيرة وعضو مجلس اللوردات عن حزب العمال، حرب دولة الاحتلال على غزة بأنها “إبادة جماعية”.
وحذرت كينيدي من أن خطة الاحتلال لتركيز سكان غزة في منطقة واحدة تعيد إلى الأذهان مشهد “معسكرات الاعتقال”.
وفي حديث صريح لبرنامج World at One على شبكة بي بي سي، انتقدت كينيدي خطة وزير دفاع الاحتلال، إسرائيل كاتس، الهادفة إلى حصر مئات الآلاف من الفلسطينيين داخل ما وصفه بـ”مدينة إنسانية” جنوب القطاع، قائلة: “ما يتم التفكير فيه هو إنشاء معسكر اعتقال جماعي، واستخدام القهر لإجبار الناس على اتخاذ خيار زائف، خيار قسري”.
وأضافت: “نعرف الآن تأثير الإكراه على النفس البشرية، حيث يشعر الناس في نهاية المطاف باليأس الكامل وكأن حياتهم انتهت ما لم يغادروا”.
مدينة تحت الحصار
وتقتضي خطة كاتس نقل أكثر من 600 ألف فلسطيني نازح من منطقة المواصي إلى موقع على أنقاض مدينة رفح، حيث سيُخضع المدنيون لفحص أمني، وتُمنع حركتهم خارج المنطقة.
وقال الوزير علنًا إن طموحه يتمثل في حبس سكان غزة البالغ عددهم أكثر من مليوني إنسان في تلك “المدينة”، معتبراً ذلك خطوة نحو ترحيلهم إلى خارج القطاع “طواعية”، وهي الخطة ذاتها التي اقترحها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي وصفتها منظمات حقوقية دولية بأنها تطهير عرقي.
وعندما سُئلت كينيدي عن توصيفها لما يجري، أجابت بوضوح: “لقد انتقلت الآن إلى موقف أعتقد فيه أننا نشهد إبادة جماعية تحدث أمام أعيننا”.
وأوضحت أنها كانت مترددة في استخدام هذا المصطلح في السابق، لما يحمله من ثقل قانوني وأخلاقي، لكنها لم تعد ترى الآن مجالاً للشك في ذلك.
القانون الدولي يُداس
وأكدت كينيدي أن خطة الاحتلال “غير قانونية”، مشيرة إلى أن الترحيل القسري للمدنيين محظور بنص صريح في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949.
وتابعت: “نحن نشهد تفكك الإجماع الدولي حول النظام القائم على القواعد الذي تم بناؤه بعد الحرب العالمية الثانية، ويبدو أن القانون لم يعد مهماً”.
وتُعد كينيدي من أبرز الشخصيات القانونية في بريطانيا، وسبق أن شاركت ضمن فريق الخبراء الذين أيدوا طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية العام الماضي، الذي سعى لإصدار مذكرات توقيف بحق رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت، بتهم تتعلق بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، من بينها استخدام التجويع كسلاح حرب.
وخلال المقابلة، تمسكت كينيدي بتشبيه خطة الاحتلال بمعسكرات الاعتقال، على الرغم من محاولة المذيعة سارة مونتاجو التخفيف من وقع المصطلح، مشيرة إلى أن الفرق يكمن في أن الموت جوعًا داخل المعسكرات لم يقع بعد.
لكن كينيدي ردت بحدة: “نحن نشهد المجاعة حاليًا والأطباء والمتخصصون في التغذية يتحدثون عن تدهور صحة الرضع والأطفال بشكل مروّع”.
تواطؤ بريطاني وصمت دولي
ولم تكتفِ كينيدي خلال تصريحاتها بإدانة الاحتلال، بل حذرت من “تواطؤ الحكومة البريطانية” في الانتهاكات المستمرة، وقالت: “نحن نصبح متواطئين إذا لم نوضح بشكل قاطع أننا نعارض ما يحدث”.
ودعت كينيدي إلى موقف رسمي بريطاني واضح خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للندن، مؤكدة: “لا أتحدث الآن بوصفي شاهدة على أمر مروّع فحسب، بل كمحامية تعلم جيدًا ما يسعى القانون الدولي لتحقيقه، وعلى الفاعلين الكبار في العالم الالتزام به”.
وعبر موقفها المعلن الأخير، تنضم كينيدي إلى مجموعة يتزايد عدد أفرادها من الخبراء القانونيين والشخصيات العامة حول العالم، الذين لم يعودوا يترددون في وصف عدوان دولة الاحتلال على غزة بالإبادة الجماعية.
ففي ديسمبر/كانون الاول، خلصت “منظمة العفو الدولية” إلى أن دولة الاحتلال ترتكب إبادة جماعية، فيما قالت “هيومن رايتس ووتش” إن أفعالًا ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية قد ارتُكبت.
كما وصف كبار مسؤولي الأمم المتحدة، مثل مارتن غريفيث، ورئيس السياسة الخارجية السابق للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، الحرب على غزة بأنها إبادة جماعية صريحة.
وأكد عدد من المؤرخين المتخصصين في دراسات الهولوكوست أن ما يجري في غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 يحمل ملامح الإبادة الجماعية.
رغم ذلك، تواصل الحكومة البريطانية بقيادة رئيس الوزراء كير ستارمر ووزير خارجيته ديفيد لامي رفض استخدام المصطلح، بحجة أن البتّ في الأمر يعود إلى المحاكم المختصة.
لكن محكمة العدل الدولية، وهي أعلى سلطة قضائية تابعة للأمم المتحدة، تنظر حاليًا في دعوى رفعتها جنوب أفريقيا ضد دولة الاحتلال بتهمة ارتكاب إبادة جماعية، ومن المتوقع أن يستغرق صدور الحكم النهائي سنوات.
ويتواصل صمت السياسيين تجاه ما يجري في غزة رغم تراكم القرائن على ارتكاب الاحتلال للإبادة الجماعية، غير أن كينيدي، فقد اختارت ألا تصمت، وقالت كلمتها بوضوح: “ما نراه الآن ليس فقط فشلًا أخلاقيًا، بل انهيارًا للنظام العالمي الذي كان يفترض أن يحمي الإنسان من الفظائع الكبرى، وما لم يتم تسمية الأشياء بأسمائها، فإننا نتحول إلى شركاء في الجريمة”.