الإبادة كتقنية… والمقاومة كضرورة: كيف تحوّل الاحتلال إلى مُصدّر عالمي للقمع

بقلم ماتيو ريغوست 

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

تتحمل فلسطين العبء الأكبر من ارتدادات الإمبريالية المعولمة، ففي ظل الرأسمالية العالمية، تتبادل أنظمة القمع أدوات الحرب والمراقبة والتنكيل، من ساحات الاستعمار القديمة إلى المدن الحديثة، لكن رغم كل ذلك، ما تزال “فنون المقاومة” الفلسطينية عصيّة على الخنق.

فمنذ الانتداب البريطاني، خضعت فلسطين لنظام قمعي استلهم مباشرة من تجارب الاستعمار الغربي، وشهدت ثورات متكررة قابلها المحتل بابتكار وسائل ممنهجة لاخمادها، أبرزها تقنيات الحرب داخل المجتمعات وضدها، وهي تقنيات جرى تجريبها في مستعمرات أخرى ونُقلت إلى فلسطين بصيغ أكثر عنفًا.

كان الضابط البريطاني تشارلز تيغارت واحداً من أبرز الشخصيات التي قادت هذه الحرب المبكرة وهو الذي استُقدم إلى فلسطين عام 1937 بعد خبرته في قمع الثورة الأيرلندية وإدارته لشرطة كلكتا في الهند. 

أمر تيغارت ببناء مراكز شرطة محصنة، وأسّس منظومة تعذيب واعتقال إداري جماعي، وشملت إجراءاته تركيب سياج حدودي وعقوبات جماعية وترحيلات وإعدامات ميدانية، في مشهد يعيد إنتاج أدوات السيطرة الاستعمارية عبر عنف ممنهج.

وإلى جانب تيغارت، برز الجنرال أورد وينغيت، الذي ينحدر من عائلة مستوطنين بريطانيين في الهند، وقد أسّس “فرق الليل الخاصة”، وهي ميليشيات من المستوطنين اليهود كانت تُرسل لتنفيذ عمليات انتقامية ضد القرى الفلسطينية، حيث أرست هذه الفرق اللبنات الأولى لجيش الاحتلال لاحقًا.

غير أن تقنيات القمع لم تقتصر على الإرث البريطاني فقط، فقد استوردت دولة الاحتلال أيضًا خبرات فرنسية، استُخدمت من قبل ضد الثورات في هايتي وسوريا والجزائر، وتميزت هذه الخبرات بالجمع بين التعذيب والاعتقالات الإدارية والعقوبات الجماعية والإعدامات، وهو مزيج أعاد الاحتلال الإسرائيلي استخدامه بمنهجية ضد الفلسطينيين.

ورغم تشكُّل البنية العسكرية لدولة الاحتلال عبر هذه المدارس القمعية، لم تفلح أي منها في القضاء على جذوة المقاومة، فالفلسطينيون لم يتوقفوا يومًا عن الصمود، بل كانوا يعيدون تنظيم أنفسهم باستمرار، رغم تصعيد العنف ومأسسة القمع.

ومع إقامة الكيان الاستعماري عام 1948، جاءت النكبة كنتاج مباشر لحرب تطهير عرقي استندت إلى سياسات الإبادة والتهجير الجماعي ولعل أكثرها وحشية ما رواه ضابط في لواء كرميلي في أغسطس/آب 1948، حين أمر قواته بتطهير حيفا قائلاً: “اقتلوا كل عربي تصادفونه، وأحرقوا كل شيء قابل للاشتعال، وحطموا الأبواب بالمتفجرات”.

وحتى في أعقاب تأسيس دولة الاحتلال، استمر تبادل الخبرات مع القوى الاستعمارية، ففي يناير/كانون الثاني 1960، توجه الجنرالان إسحاق رابين وحاييم هرتسوغ إلى الجزائر لمراقبة الأساليب الفرنسية في “الحرب المضادة للثورة”.

كانت تلك الأساليب تشمل تشييد الجدران الفاصلة وتشريد السكان والاعتقالات الجماعية والتعذيب والاغتصاب والاخفاء القسري والمذابح بالقصف وحتى باستخدام الأسلحة الكيميائية، وكل هذه التقنيات لم تفلح في كسر الإرادة الجزائرية، لكنها أثّرت عميقًا في بنية القمع الإسرائيلي.

وبعد نكسة عام 1967، باتت غزة ميدانًا لاختبار هذه التقنيات، فجرى تدريب الدوريات على إلقاء القنابل داخل المنازل قبل اقتحامها، وأُعطي الجنود أوامر بإطلاق النار على المدنيين فور ظهور أي مقاومة. 

وتكررت هذه الأساليب في غزو لبنان عام 1982، ولاحقًا في انتفاضة الأقصى 2002، وخاصة خلال عملية “الدرع الواقي” في جنين التي فشل فيها الحصار في إسكات التمرد فيها.

كما أصبحت هذه الخبرات لاحقًا سلعة للتصدير العالمي، حيث تُدرّس لقوات الأمن حول العالم، وتُعرض في معارض الأسلحة بوصفها “مجربة في القتال”، ورغم هذا التطور، لم تفلح كل تقنيات الحرب في كسر إرادة الشعب الفلسطيني، الذي ظل يصوغ أدوات مقاومته، جيلًا بعد جيل، وساحة بعد ساحة.

غزة كمعسكر تجريبي: كيف تصدر دولة الاحتلال قمعها للعالم؟

لم تكن ممارسات جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين مجرد أدوات للسيطرة المحلية، بل تحوّلت إلى نموذج عالمي في “مكافحة التمرد”، يتم تصديره وتدريسه حول العالم. 

فمن جنين إلى بغداد، ومن غزة إلى كابول، شكلت فلسطين مختبرًا حيًا لتقنيات السيطرة العسكرية والأمنية التي باتت مكونًا جوهريًا في صناعة القمع العالمية.

وفي عام 2010، وصفت الباحثة لالي خليلي فلسطين بأنها “مختبر نموذجي وعقدة حاسمة في مكافحة التمرد العالمي”، بينما يرى الباحث جيف هالبر أن دولة الاحتلال تمثل “الدولة الأمنية” بامتياز، وهي دولة قائمة على ممارسة مستمرة لعنف استباقي وشامل ضد من تعتبرهم خصومًا دائمين.

وفي هذا الإطار، تبنى العقيدة العسكرية على مبدأ العنف المفرط كوسيلة طبيعية للإخضاع، فالسياسات المعلنة لجيش الاحتلال تتبنى “إطلاق النار بهدف القتل”، بما يشمل استهداف الرأس والصدر، كما تتبنى مبدأ “هيمنة التصعيد”، أي استخدام غير متكافئ للقوة لردع أي تحدٍّ. 

يُعرف هذا السلوك في العقيدة العسكرية للاحتلال بمفهوم “الردع التراكمي”، وهو دمج ممنهج بين أدوات القمع المختلفة لخلق واقع دائم من الرعب والإذلال.

لكن المفارقة أن هذه العقيدة، ورغم إسهامها في ارتكاب مجازر مروعة، فشلت في تحقيق هدفها الأساسي المتمثل في القضاء على روح التحرر الفلسطيني، بل إنها وعلى العكس من ذلك أوجدت بيئة مقاومة تتطور وتتكيف وتعيد تشكيل نفسها باستمرار.

وفي عالم الرأسمالية الأمنية، أصبحت تقنيات القمع الإسرائيلي جزءًا من الاقتصاد السياسي العالمي، فالمعدات والأساليب التي جُرّبت على الفلسطينيين، تُسوَّق لاحقًا في معارض الأسلحة الدولية بوصفها “مجرّبة في القتال”، لتُستخدم في قمع شعوب أخرى حول العالم.

ومنذ الهجوم الفلسطيني في 7 أكتوبر 2023، دخل هذا الاقتصاد مرحلة التشغيل الكامل، فقد شكّل الهجوم المضاد نقطة تحول في توحيد وتكثيف أدوات الإبادة الجماعية، إذ شرعت دولة الاحتلال بتنفيذ خطة علنية لتدمير غزة وسكانها، بدعم عسكري ومالي وسياسي من الكتلة الغربية.

ولا تقتصر هذه الإبادة على القصف المكثف، بل تتضمن ممارسات مجرّبة تاريخيًا من بينها القصف المتواصل للأحياء السكنية، استهداف المستشفيات والمدارس، تدمير البنى التحتية، وفرض حصار شامل يمنع الغذاء والدواء. 

والواقع أن لهذه السياسات جذور استعمارية، بدءًا من قصف ليبيا من قبل الطيران الإيطالي عام 1911، مرورًا بتكتيكات الحصار البريطانية في جنوب إفريقيا، وصولاً إلى سياسات الجيش الأميركي في الفلبين وفيتنام.

لكن الابتكار الإسرائيلي اليوم لا يقتصر على التاريخ، بل يتجاوز إلى الحاضر التكنولوجي، عبر توظيف الذكاء الاصطناعي في “الإبادة الخوارزمية”، فالخوارزميات تُستخدم لتحديد أهداف الضربات الجوية، وتحديد “أولويات القتل” بحسب معايير آلية، ما يجعل القتل أسرع وأوسع وأكثر تجريدًا من الإنسانية.

وفي غزة، حولت دولة الاحتلال القطاع إلى معسكر اعتقال مفتوح، حيث تُستخدم “هندسة اجتماعية” هدفها تفريغ الأرض من سكانها وإعادة تشكيل شخصيات الأسرى عبر العزل الطويل والإذلال الممنهج. 

واليوم يخضع آلاف الفلسطينيين رهن الاعتقال الإداري دون تهم، بينما يحاصر القطاع بآليات تجويع ممنهجة، تحظر الغذاء والدواء والماء والكهرباء.

والحقيقة أن ذلك ليس جديدًا، فمنذ القرن التاسع عشر استخدمت القوى الاستعمارية  استراتيجيات “السيطرة على الغذاء والموارد” وأعادت دولة الاحتلال توظيفها كأداة إبادة بطيئة، بل إن المساعدات الإنسانية جرى تسليحها، إذ يتم التحكم في توزيعها، وغالبًا استغلالها لتجميع السكان أو المساومة على حياتهم.

أما الأسلحة الكيميائية كالفوسفور الأبيض والغازات السامة، فقد استخدمت لتجعل مناطق كاملة غير صالحة للحياة، إنها تقنيات تذكر باستخدام غاز الخردل ضد المقاومة الريفية في المغرب، والنابالم ضد الثوار في الجزائر وفيتنام.

ورغم هذه الحرب الشاملة ضد الشعب، لا تزال المقاومة الفلسطينية صامدة، بل وتستلهم من تجارب شعوب أخرى مثل هايتي والجزائر وفيتنام، في هذه الساحات كلها، فشلت “الحرب ضد الشعب” في إخماد إرادة التحرر، تمامًا كما فشلت في فلسطين.

واليوم، تُعد غزة خط المواجهة الأبرز ضد منظومة قمع عالمية، وفي وجه بوميرانغ إمبريالي يعيد تصدير أدوات الإبادة إلى داخل العواصم الغربية ذاتها. 

وبينما تستمر دولة الاحتلال في تسويق قمعها كـ”تكنولوجيا أمنية”، فإن صوت فلسطين يتردد بين حناجر الأحرار حول العالم، ليؤكد أن المقاومة ليست فقط حقًا، بل ضرورة وجودية في وجه محو الإنسان.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة