بقلم عبد أبو شحادة
ترجمة وتحرير مريم الحمد
في إحدى مقالاتها الموسعة مؤخراً، تقدم صحيفة نيويورك تايمز للقراء تحليلاً طويلاً حول الإبادة الجماعية في غزة، حيث بنى الكاتبان الادعاء المركزي على أن استمرار الحرب يخدم المصلحة الشخصية لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في التشبث بالسلطة.
لا شك أن هذا أمر مهم بالنظر إلى محاكمته المستمرة بالفساد، والضربة القاسية التي تلقتها مكانته السياسية بعد الفشل العسكري في 7 أكتوبر، فبحسب مقال التايمز، فإن هذا التقارب في الأحداث دفع نتنياهو إلى إطالة أمد الحرب كوسيلة للبقاء.
على الجانب الآخر، فإن خطورة هذا التأطير، الذي يحظى بشعبية كبيرة بين الدوائر الصهيونية الليبرالية، نابعة من تقليله من حجم الكارثة في غزة بتقليصها إلى طموحات رجل واحد، مع تجاهل الدعم الشعبي الواسع في إسرائيل ليس فقط للإبادة الجماعية في غزة، بل للهجمات في جميع أنحاء المنطقة.
وفقاً لاستطلاعات الرأي الأخيرة، يؤيد 82% من اليهود الإسرائيليين طرد سكان غزة، ومع الافتقار إلى أي قدرة على إقناع البلدان بقبول هؤلاء اللاجئين، فإن ما ينشأ الآن هو معسكر اعتقال فعلي في غزة
إن التصرفات العسكرية الإسرائيلية، خاصة في سياق العنف الطائفي في سوريا، لا يمكن فهمها إلا باعتبارها تصرفات قوة إمبريالية تسعى إلى فرض إرادتها على المنطقة من خلال القوة والترهيب والتهديد بالتوسع الإقليمي.
ويتجاهل التأطير المرتبط بشخص نتنياهو سؤالاً أعمق: لماذا يستمر الرأي العام الإسرائيلي، بعد ما يقرب من عامين من اللقطات المروعة من غزة، في دعم الحرب بل ويطالب في واقع الأمر بتصعيدها؟!
في قلب الخطاب العام الإسرائيلي اليوم ليس هناك حديث عن أخلاقيات الحرب، بل يقتصر الحوار على مسألة من ينبغي عليه تحمل عبء خوضها، ويدور الجدل الرئيسي حول تجنيد اليهود المتشددين، الذين تم إعفاؤهم حتى الآن من الخدمة العسكرية ويريدون تكريس ذلك في القانون.
ومن جانبه، يطالب الجمهور العلماني والقومي الديني بـ “المساواة في التضحية”، على افتراض أن الحرب يجب أن تستمر، ولكن بشكل أكثر عدلاً.
وعندما أعلن حزب الأشكناز الأرثوذكسي المتطرف، يهدوت هتوراة، مؤخراً عن انسحابه من الحكومة بسبب قضية التجنيد الإجباري، لم يكن ذلك احتجاجاً على الحرب في حد ذاتها، بل كان خلافاً حول من يجب أن يخدم فيها!
رد فعل عالمي
يأتي هذا التأطير في لحظة من ردود الفعل الدولية التي تتصاعد، فقد اخترقت حركة المقاطعة العالمية الأوساط الأكاديمية، حيث دعت الجمعية الدولية لعلم الاجتماع مؤخراً إلى قطع العلاقات مع جمعية علم الاجتماع الإسرائيلية بسبب فشلها في إدانة الإبادة الجماعية في غزة، كما أصبحت المقاطعة الثقافية أكثر وضوحاً أيضاً.
أما على الصعيد السياسي، فقد أصبح الدعم الأمريكي لإسرائيل، والذي كان يحظى بدعم الحزبين الجمهوري والديمقراطي ذات يوم، محل نقاش علني في كلا الحزبين، تتراوح فيه المناقشات بين الأسئلة الأخلاقية المتعلقة بالإبادة الجماعية في غزة والمخاوف حول التأثير الذي تمارسه إسرائيل في السياسة الأمريكية.
في الوقت نفسه، يواجه الإسرائيليون العاديون الذين يسافرون إلى الخارج انتقادات عالمية لأول مرة في حياتهم، وبدلاً من أن يؤدي ذلك إلى إعادة النظر أو التفكير لديهم، فقد دفع هذا التدقيق الكثيرين إلى الإنكار بشكل أعمق.
بالنسبة لقسم كبير من الجمهور الإسرائيلي، لا تكمن المشكلة في ما يحدث في غزة بل في معاداة السامية في العالم، سواء في الغرب أو الشرق، فقد انقلب العالم ضدهم في نظرهم!
إن نتنياهو، الذي عاش قسماً كبيراً من شبابه في الولايات المتحدة، يفهم السياسة الأمريكية جيداً، وعندما يقول بأن حرب غزة “لم تحقق أهدافها”، فهو لا يشير إلى الأوضاع على الأرض بل إلى مكانته في صناديق الاقتراع، فالضربات الأخيرة على إيران، رغم فشلها في تحقيق أي نتيجة استراتيجية، إلا أنها أدت إلى تحسن متواضع في معدلات تأييده.
إن إلقاء اللوم على نتنياهو فقط هو أمر مضلل، فما يحصل هو نتاج المنطق الصهيوني، وهو المنطق الذي كان ينظر دائماً إلى الفلسطينيين على أنهم أقل شأناً، فمن دون معالجة هذا الاعتقاد من حيث المبدأ، فإن استبدال نتنياهو لن يغير شيئاً حتى وإن جاء زعيم أقل عدوانية، فالعنف البنيوي مستمر
الأسوأ من ذلك هو أن حلفاء نتنياهو وما يسمى بمعارضته نجحوا في تشجيع وتطبيع خطاب الإبادة الجماعية، إلى درجة أنه أصبح سائداً، فوفقاً لاستطلاعات الرأي الأخيرة، يؤيد 82% من اليهود الإسرائيليين طرد سكان غزة، ومع الافتقار إلى أي قدرة على إقناع البلدان بقبول هؤلاء اللاجئين، فإن ما ينشأ الآن هو معسكر اعتقال فعلي في غزة.
في هذا السياق، فإن المناقشات حول وقف إطلاق النار جوفاء، فقد أظهرت إسرائيل، لحماس ولآخرين، بأنها لا تحترم الاتفاقيات، لا في غزة ولا في لبنان ولا في سوريا، فالدبلوماسية الإسرائيلية مبنية بشكل أساسي على القوة العسكرية والقدرة الأحادية على الوفاء بالوعود.
استراتيجيات قاسية
رغم الانزعاج من موضوع الرهائن واستمرار الحرب وتأثيراتها، إلا أن لا يوجد في المجتمع الإسرائيلي من يشكك في الاستراتيجيات القاسية التي تتبناها الدولة، والتي تهدف إلى حصر الملايين من الفلسطينيين في منطقة لا تشكل سوى أقل من ربع مساحة غزة،
فهناك نقاش مفتوح حول إحياء “خطة الجنرال” التي وضعها جيورا آيلاند، والتي توصي صراحة بالتجويع كأداة للتهجير القسري.
هذه الكارثة في غزة ليست من صنع رجل واحد بالتأكيد، بل يتم تمكينها من خلال إجماع شعبي واسع النطاق وسلطة قضائية تضفي الشرعية عليها وثقافة سياسية اعتمدت لفترة طويلة على تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم.
يتم تطبيق نفس المنطق في الضفة الغربية المحتلة، فالجنود والشرطة والقضاة الإسرائيليون إما يتجاهلون المستوطنين أو يساعدونهم بشكل نشط في تنفيذ المذابح ضد الفلسطينيين.
هناك فقط محاولة يائسة من قليلين “لإنقاذ إسرائيل من نفسها” من خلال تقديم سلم للنزول عن الشجرة للإسرائيليين، والأمل فيها هو أن تعود إسرائيل إلى موقف ما قبل نتنياهو، أي المفاوضات التي لا نهاية لها وعمليات السلام الخطابية وخيال إنشاء الدولة الفلسطينية الذي لم يكن من المفترض أن يتحقق قط.
لقد خدم هذا الوهم العالم جيداً، حيث سمح للدول الغربية بالدفاع عن تصرفات إسرائيل بينما تتظاهر بأن حل الدولتين لا يزال قابلاً للتطبيق
لكن الديموغرافيا والأيديولوجية تغيرت، ولا يمكن لإسرائيل أن تعود إلى الوراء، فقد أدى حجم الدمار في غزة إلى إعادة فتح جوهر القضية الفلسطينية، فما الذي يمكن أن يحدث عندما لا تبقى هناك مخيمات للاجئين ولا توجد مناطق يمكن دفع الناس إليها ولا توجد دول مستعدة لاستيعابهم؟
إن إلقاء اللوم على نتنياهو فقط هو أمر مضلل، فما يحصل هو نتاج المنطق الصهيوني، وهو المنطق الذي كان ينظر دائماً إلى الفلسطينيين على أنهم أقل شأناً، فمن دون معالجة هذا الاعتقاد من حيث المبدأ، فإن استبدال نتنياهو لن يغير شيئاً حتى وإن جاء زعيم أقل عدوانية، فالعنف البنيوي مستمر.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)