بقلم أميل الكالاي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
بينما تغرق غزة في ظلمات الجوع واليأس، وفي خضم الحصار الخانق الذي تفرضه دولة الاحتلال بدعم مباشر من الولايات المتحدة على المواد الغذائية والمساعدات الإنسانية، والذي أودى بالفعل بحياة العديد من الفلسطينيين، أطل صوت مقاوم جديد – لا من صفوف المقاتلين هذه المرة، بل من بين المدنيين.
في 20 يوليو/تموز، أعلن محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني الفلسطيني في غزة، دخوله في إضراب مفتوح عن الطعام.
وقال بصل الذي لطالما استهدفه جيش الاحتلال بسبب توثيقه لجرائم الحرب، في رسالة مصورة أثارت صدى واسعاً: “أنا محمود بصل، مواطن فلسطيني، إنسان حر، منذ أيام وأنا أعيش على بقايا الطعام، كحال أكثر من مليوني مواطن، بسبب نقص المواد الغذائية الأساسية في قطاع غزة، أعلن إضراباً كاملاً عن الطعام احتجاجاً على المجاعة الكارثية التي تضرب غزة، وتضامناً مع أكثر من مليوني شخص تُركوا للموت جوعاً وسط صمت عالمي مخزٍ”.
منذ سنوات طويلة، ودولة الاحتلال تستخدم الغذاء كسلاح، بالحفاظ على الحد الأدنى من السعرات الحرارية فقط لإبقاء سكان غزة على حافة المجاعة، وذلك وفق استراتيجية موثقة في ورقة موقف صدرت عام 2008 بعنوان “استهلاك الغذاء في قطاع غزة – الخطوط الحمراء”، إلا أن ما نشهده اليوم هو تجاوز لكل الخطوط الحمراء، وتحول المجاعة إلى سياسة إبادة صريحة.
عندما يُقتّل الجياع
في هذا السياق الدموي، يتحول من يبحث عن لقمة خبز إلى هدف مشروع في أعين قناصة جيش الاحتلال، ومسيّراته، ومدفعياته، ولم يعد المدني الفلسطيني يُصوَّر كضحية، بل كـ”معتدٍ” على أرضه، حتى عندما يسير نحو مركز توزيع للمساعدات.
في اليوم ذاته لإعلان بصل إضرابه عن الطعام، كتب الشاعر الفلسطيني مصعب أبو طه، الذي نزح من بيته المدمر في بيت لاهيا إلى مصر ثم إلى الولايات المتحدة: “اليوم تكبدنا خسائر لا تطاق، قُتل ابن عمي، وأصيب شقيق زوجتي وابن عم آخر لي، وعاد العديد من أصدقائي من الحي بأطرافٍ مبتورة، كانوا شباناً – أبناءً وآباءً – اضطروا إلى الخروج، يائسين من أجل إحضار القليل من الطعام لعائلاتهم”.
“يبدو أنهم يلعبون لعبة”
في تقرير ميداني مؤلم، قال الجرّاح البريطاني نيك ماينارد، الذي زار غزة مؤخراً، إن الإصابات التي رآها في مراكز توزيع المساعدات تُظهر نمطاً متعمداً من الاستهداف الممنهج.
وأضاف: “في أحد الأيام، تكون جميع الإصابات جروحاً نارية في البطن، وفي يوم آخر تكون جميعها جروحاً نارية في الرأس أو الرقبة، وفي يوم آخر تكون جروحاً نارية في الذراع أو الساق… يبدو الأمر وكأنهم يلعبون لعبة، يقررون اليوم إطلاق النار على الرأس، وغدًا على الرقبة، وبعد غد على الخصيتين”.
الأكاديميا في خدمة القمع
في الولايات المتحدة، وعلى وقع هذا القتل الجماعي، تنشغل الساحة السياسية بقضايا “معاداة السامية” في الجامعات الأميركية، لكن ما يجري هو محاكمات صورية هدفها الحقيقي سحق أي خطاب مؤيد لفلسطين.
بينما تُموّل الجامعات الأميركية الأبحاث التي تطور أدوات القتل والمراقبة، وتستثمر الشركات في صناعة الرأي العام المؤيد لتلك السياسات، يُتهم الأساتذة والطلاب الذين يرفعون أصواتهم من أجل فلسطين بالتطرف والتحريض، ويُفصلون من وظائفهم دون محاكمة.
ففي جلسة استماع أمام الكونغرس، ظهر رئيس جامعة مدينة نيويورك، فيليكس ماتوس رودريغيز، في موقف مذل، مدّعياً مراراً أنه “لا يعرف” أو “لم يسمع” بالفعاليات الطلابية التي دعمت فلسطين، لكنه، ورغم هذا التظاهر بالجهل، سبق أن فصل أربعة أساتذة جامعيين لمجرد مشاركتهم في أنشطة تضامنية مع فلسطين.
ما يجري ليس سوى محاولة لإسكات كل من يحاول فضح الجرائم، في وقت تُمارس فيه دولة الاحتلال فصولاً جديدة من العقاب الجماعي على أكثر من مليوني إنسان.
من اليمن إلى غزة: المجاعة كسلاح إمبريالي وعودة النظام الإقطاعي
فيما تُبث مشاهد الجوع والقتل في غزة على الشاشات العالمية، يبقى صدى المجاعة التي اجتاحت اليمن غائبًا عن معظم المنصات، مجاعة اليمن، التي تفاقمت منذ تدخل التحالف بقيادة السعودية عام 2016 وبدعم صريح من الولايات المتحدة، لم تُعدّ ملفًا مهمًا في السياسة الخارجية الغربية، بل جرى تجاهلها بشكل شبه تام.
لقد جعل هذا التجاهل الإعلامي والسياسي، الدعم الثابت الذي تقدمه جماعة أنصار الله في اليمن لفلسطين يبدو للبعض أمراً “غير عقلاني”، كأنما لا توجد صلة بين آلام الماضي وأفعال الحاضر، لكن التاريخ يفضح هذه السردية المختزلة: المجاعة ليست حدثاً طارئاً، بل أداة تستخدمها القوى المهيمنة لتطويع الشعوب.
غروب الإمبراطوريات
مع تغيّر موازين القوى عالمياً، وانهيار أحادية القطب الأميركية، بدأنا نشهد تشكّل تحالفات جديدة على خطوط التجارة والحدود الثقافية، ففي مواجهة هذا التحول، دخلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مرحلة ارتباك تشبه ما عاشته الإمبراطوريات الآفلة.
قبل تفشي جائحة كوفيد-19، شهد العالم واحدة من أوسع موجات الاحتجاجات السياسية منذ ستينيات القرن الماضي، من مسيرة العودة الكبرى في غزة، إلى الحراك الجزائري، والانتفاضات الشعبية في العراق ولبنان، وحتى حركات السترات الصفراء في فرنسا، وكاتالونيا، وتشيلي، وهونغ كونغ، حتى أن العالم بدا وكأنه يتنفس تمرّدًا.
غير أن النخب الحاكمة، سواء في الغرب أو في الأنظمة المحلية الموالية ، كانت أكثر إدراكاً من الجماهير لحجم التهديد الذي تمثله هذه التحركات على النظام العالمي، ولهذا، لم يكن غريبًا أن تأتي الجائحة كفرصة لإعادة ضبط الأنظمة على أسس جديدة تُجهض الثورات وتقيد الحريات.
نظام إقطاعي رقمي
كما حدث بعد هجمات 11 سبتمبر، أدت الإجراءات التي اتُّخذت عقب تفشي كوفيد إلى تغيير جذري في المجتمعات: من منع الزيارات للمستشفيات، إلى حظر التجمعات، وإغلاق الحدود، وفرض سياسات مراقبة رقمية، كان التحول شاملاً.
تحولت الحرية إلى امتياز، والاحتكاك الإنساني إلى تهديد، والمجتمعات إلى وحدات مشتتة، ترافقت هذه التحولات مع نقل هائل للثروات من الطبقات الوسطى والدنيا إلى الشركات الكبرى، خصوصًا في قطاع التكنولوجيا، في هذا المشهد الجديد، لم تعد الحريات العامة من المسلمات، بل أصبحت رهينة للتكنولوجيا، ورأس المال، والسرديات الأمنية.
ما يحدث اليوم هو إعادة تدوير لماضٍ مظلم، ماضٍ يتغذى على الخوف من الآخر، ويصنع أعداء وجوديين دائمين، ويقمع أي شكل من أشكال التضامن العالمي.
السلطة فوق القانون
لا يوجد أي مبرر، لا سياسي ولا أخلاقي، لتجويع الفلسطينيين في غزة أو قتلهم بوحشية، إن الادعاء بأن وقف هذه السياسات مستحيل أو خارج نطاق الإمكانات الدولية هو كذبة فاضحة، بل هي محاولة لفرض وهم: أن السلطة محصّنة، لا يمكن محاسبتها، ولا تقف عند قانون أو قيم.
في اليوم التالي لإعلان محمود بصل إضرابه عن الطعام، شهدت لاهاي مشهداً رمزياً: شاب مصري أغلق بوابة السفارة المصرية بالسلاسل، نثر الدقيق على الأرض، وحطم البيض على المدخل، في فعل احتجاجي صغير لكنه عميق الدلالة، كان فعله تذكيراً بأن الإنسان قادر، ولو بلحظة، أن يهز صروحاً من الكذب.
لا بد من المحاسبة
ما نراه ليس مجرّد قمع لشعب، بل عرض فاقع لحصانة السلطة من العقاب، وجهد واعٍ لإلغاء فكرة العدالة من الأساس، إنه تدمير منهجي لفكرة السياسة كعلاقة متبادلة بين الحاكم والمحكوم، بين الجريمة والعقاب، بين القول والفعل.
لهذا، يجب أن نتذكر كل ما يحدث الآن، بتفاصيله الدقيقة، وأن نسجل كل جريمة وكل متواطئ، لأن هذا الوحش لن يُهزم إلا بالمواجهة والوعي والمحاسبة التاريخية.
فمن يبحث عن فتات خبز اليوم، وسط الدمار والرصاص، هو ذاته من يحمل رسالة العالم القادم: عالم لا مكان فيه لحصانة القتلة.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)