لماذا يبدو تعهُّد الاحتلال بـ “حماية” الدروز في سوريا أجوفًا

بقلم عبد أبو شحادة

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

من المحال أن يبقى المرء غير مبالٍ أمام المشاهد الواردة من جنوب سوريا، وتحديدًا من محافظة السويداء والتي تشهد أحداثاً تدور في لحظة نادرة من الإجماع الإقليمي بين السعودية وتركيا وقطر والولايات المتحدة بعد أربعة عشر عامًا من الحرب الأهلية الدامية التي شردت الملايين. 

ومنذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، كانت هذه المرة الأولى التي تلوح فيها بارقة أمل حقيقية بأن تدخل سوريا فصلًا جديدًا من الاستقرار الوطني وإعادة الإعمار، تحت قيادة الرئيس أحمد الشرع.

لكن من كان يظن أن هذا الانتقال سيكون سلسًا فهو واهم، فقد تركت الحرب جراحًا غائرة بعدما عاش ملايين السوريين أهوالًا لا توصف تحت حكم الأسد، الذي بُني على بنية طائفية كانت جزءًا أساسيًا من استراتيجية نظامه للبقاء حيث تعود تلك التركة اليوم لتلقي بظلالها على المشهد برمته مجددًا.

ففي الأسبوع الماضي، اندلعت أعمال عنف طائفية في السويداء بين أبناء الطائفة الدرزية وبعض قبائل البدو حيث برزت خطورة الطائفية مجدداً في بلد لا يزال يكافح لاستيعاب آلاف المقاتلين السابقين والشباب الذين لم يجدوا بعد طريقهم إلى الحياة المدنية.

تقف سوريا اليوم أمام سنوات طويلة من إعادة البناء على الصعيد البنيوي والاجتماعي وهي عملية تعتمد على قدرة النظام الجديد على إطلاق حوار وطني شامل، وحتى الآن لم يكتب لهذه العملية القدر الكافي من النجاح، لكن الزمن وحده كفيل بكشف مآلاتها.

لقد زاد قرار الاحتلال الأخير بشن غارات جوية استهدفت قوات النظام، بما في ذلك مقار عسكرية في دمشق من تعقيدات المشهد، فهذه الهجمات لا توحي برغبة في إحلال السلام، بل تُفهم كمحاولة لإشاعة الفوضى وعرقلة عودة سوريا إلى الاستقرار.

وقد بررت دولة الاحتلال تلك الضربات بذريعة “حماية” الدروز، لكنها سرعان ما أتبعتها بتهديدات مبطّنة ضد النظام السوري وحتى ضد الرئيس الشرع نفسه، وذهب بعض المحللين في دولة الاحتلال إلى طرح فكرة تقسيم سوريا وإنشاء منطقة حكم ذاتي للدروز في الجنوب.

مأزق استراتيجي

يكشف هذا الخطاب عن مأزق الاحتلال الاستراتيجي وهو مأزق من صنع يده، فالحرب في غزة، إلى جانب عقيدة الحرب الدائمة التي تتبناها تل أبيب، ليست فقط كارثية من الناحية الأخلاقية، بل تُستخدم أيضًا كأداة دعائية تسمح للدولة العبرية بأن تُقدّم نفسها حاميةً للأقليات في الشرق الأوسط.

وتبعاً لهذا السرد، فإن عنف الاحتلال في غزة يُبرَّر من خلال رؤية مشوهة للمنطقة على النمط الذي تريده تل أبيب، أي منطقة مجزأة، مقسّمة على أسس دينية وعرقية، وعاجزة عن بناء دول تعددية و متنوعة.

ولطالما روّجت دولة الاحتلال لفكرة تقسيم سوريا إلى كانتونات طائفية، غير أن هذه الرؤية غير قابلة للتطبيق سياسيًا ولوجستيًا باعتبارها تتطلب إجماعًا دوليًا نادرًا كما أنها تعجز عن فهم التعقيدات الاجتماعية في سوريا.

إذ لا يمكن تفكيك النسيج الاجتماعي السوري بهذه السهولة وحتى لو كان ذلك تحت مسمى “الحماية” فإنه لن يؤدي إلا إلى تعميق الفوضى التي قد تخدم مصالح الاحتلال الذي لطالما رأى في الحرب الأهلية السورية مكسبًا استراتيجيًا.

لكن إذا قررت دولة الاحتلال تنفيذ خطة لتقسيم سوريا من أجل “حماية” الدروز في الجنوب، فستحتاج إلى إرسال قوات برية إلى محافظة السويداء التي تقارب مساحتها ربع مساحة دولة الاحتلال، صحيح أن السيطرة العسكرية قد تكون ممكنة، لكن الاحتفاظ بتلك الأرض سيكون مهمةً بالغة الصعوبة.

لقد كشفت الحرب الطويلة في غزة حدود قوة الاحتلال، حتى في منطقة محاصرة أصغر بكثير، ومع دعم دولي غير محدود، أما احتلال السويداء، فسوف يستنزف موارد الاحتلال البشرية في وقت تشهد فيه البلاد إنهاكًا داخليًا وإرهاقاً عسكريًا متزايدًا

ويدرك صنّاع القرار في تل أبيب ذلك جيدًا، كما أن الولايات المتحدة واللاعبين الإقليميين الرئيسيين يعارضون أي تصعيد إضافي، بل وحتى داخل قيادة الاحتلال العسكرية هناك تردد واضح إزاء التوسع في سوريا. 

لقد علمت حرب غزة الاحتلال درسًا مريرًا: الدول العربية المستقرة تتفادى التورط في غزة، بينما الدول الهشة كلبنان والعراق واليمن تمثل تهديدًا دائمًا.

تصاعد الضغوط الداخلية

ورغم كل ذلك، فإن الضغط الداخلي داخل الدولة العبرية آخذ في التصاعد خاصة من جانب المواطنين الدروز. 

وتنقسم هذه الطائفة داخل دولة الاحتلال إلى مجموعتين: الأولى تنحدر من أراضي فلسطين التاريخية، وقد قبلت جزئيًا على الأقل الاندماج في الدولة بعد عام 1948، وشاركت في مؤسساتها، لا سيما في الخدمة العسكرية الإلزامية، أما الثانية فهي الأقل عددًا وتعيش في هضبة الجولان المحتلة، وقد ظلت تاريخياً ترفض حكم الاحتلال.

يُشارك نحو 80% من الشبان والشابات الدروز في الخدمة بجيش الاحتلال، ويخدم 39% منهم في وحدات قتالية، وفي ظل أزمة التجنيد المتفاقمة، ورفض الأحزاب الدينية اليهودية للخدمة العسكرية، وتراجع الروح المعنوية لدى الاحتياط، بات للدروز رغم أنهم يشكلون أقل من 2% من السكان تأثير في القرار العسكري يتجاوز حجمهم الحقيقي.

وقد ظهر هذا التأثير بوضوح هذا الشهر، حين عبر مئات من الدروز الإسرائيليين السياج الحدودي في الجولان المحتل ودخلوا جنوب سوريا، ورغم أن معظمهم عاد لاحقًا، فإن العشرات بقوا لتقديم خبراتهم العسكرية، وبحسب القانون الدولي، فهم يُعدّون الآن مقاتلين أجانب غير شرعيين، بسبب انتهاكهم سيادة دولة أخرى.

ورغم خطاباتها العسكرية المتصاعدة، فإن دولة الاحتلال لن تغامر فعليًا بمصالحها الاستراتيجية من أجل الدروز، فهي الدولة ذاتها التي تنكر عليهم الاعتراف الرمزي في “قانون الدولة القومية اليهودية”، وتفشل في حمايتهم من الجريمة المنظمة، ومن غير المرجح أن تخوض حربًا إقليمية من أجلهم.

بل إن تدخل الاحتلال في سوريا يبدو أقرب إلى محاولة للتوازن بين الضغوط الداخلية وأجندتها الإقليمية، وبهذا، تكشف عن خواء الخطاب الذي يتغنّى بـ”الأخوة اليهودية-الدرزية”، وعن انزعاجها من توافق دولي جديد بشأن سوريا لا يتماشى مع أهدافها.

المأساة السورية

غير أن المأساة الكبرى تبقى في الداخل السوري، فالمشاهد المصوّرة من الطرفين تعيد إلى الأذهان حرب لبنان الأهلية ومشاهد العنف الطائفي، والتحدي الحقيقي أمام السوريين ليس كسب أرض أو معركة، بل طرح الأسئلة السياسية الصعبة: ما نوع المجتمع المشترك الذي يمكن إعادة بنائه؟ وكيف ستبدو عملية الاندماج بين مكونات دينية وعرقية مختلفة؟

حتى لو نجح الانفصاليون الدروز في إقامة منطقة حكم ذاتي بدعم الاحتلال، فإنهم سيواجهون تداعيات اجتماعية واقتصادية قاسية، إذ ستتفكك العائلات، وسيسقط الرجال في المعارك، وستصبح المجتمعات مرهونة بمصالح الاحتلال، وهذا الواقع سيمتد أثره إلى دروز لبنان والأردن وسوريا بأكملها.

والمفارقة أن بعض الصور الأقوى تأثيرًا خلال هذا الصراع كانت لم شمل العائلات الدرزية على جانبي حدود الجولان وهم أقارب فرقهم الاحتلال لعقود، وإذا تفاقمت الأزمة، فإن المزيد من هذه العائلات سيتشتت من جديد، وحينها، لن تكون الدولة العبرية في صفّهم.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة