الاعتراف بالدولة الفلسطينية حق أصيل لا ورقة تفاوضية

بقلم كريس دويل

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

في 29 يوليو/تموز، أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر أن المملكة المتحدة ستعترف بدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/أيلول المقبل، “ما لم تتخذ الحكومة الإسرائيلية خطوات جوهرية لإنهاء الوضع المروّع في غزة، وتتعهد بتحقيق سلام دائم ومستدام”.

وبطبيعة الحال، فإن أي اعتراف بريطاني بالدولة الفلسطينية، إذا ما تم، سيكون لحظة تاريخية فارقة، فبريطانيا تتحمل مسؤولية فريدة في هذا السياق، باعتبارها صاحبة وعد بلفور والقوة المنتدبة سابقاً على فلسطين.

وإذا تم هذا الاعتراف، فإنه سيعزز ما تصرّح به الحكومة البريطانية من دعم لحل الدولتين، بعد عقود من الاعتراف بدولة الاحتلال فقط، وإنكار الدولة الأخرى، أي إنها خطوة سترسم مساراً مغايراً لمحاولات الاحتلال فرض واقع الدولة الواحدة ذات النظام الفصل العنصري على كامل التراب الفلسطيني التاريخي.

كما أن من شأن هذا الاعتراف أن يحدد ملامح أي مسار مستقبلي للسلام، بحيث يُصبح قيام الدولة الفلسطينية جزءاً لا يتجزأ من الهدف النهائي، مما يكرّس الالتزام البريطاني المُعلن بحل الدولتين كما ورد في التصريح الرسمي.

غير أن السؤال يبقى لماذا لم يخرج الفلسطينيون وغيرهم إلى الشوارع للاحتفال بهذا الإعلان الصادر عن اجتماع طارئ للحكومة البريطانية؟

يكمن الجواب في إعادة قراءة البيان ذاته، الذي يربط الاعتراف البريطاني المشروط بفلسطين بعدد من الالتزامات التي يُفترض أن تفي بها دولة الاحتلال، من بينها وقف إطلاق النار، وتخفيف الأزمة الإنسانية في غزة، و”السماح للأمم المتحدة باستئناف إيصال المساعدات، وضمان عدم تنفيذ أي عمليات ضم في الضفة الغربية”.

ومن السهل أن يرد رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو قائلاً: حسناً، امضوا قدماً واعترفوا بفلسطين، لكنكم بذلك تعترفون بحلم، لا بحقيقة

حق مشروط؟

إن ما تفعله بريطانيا فعلياً هو تجريد الفلسطينيين من حقهم المشروع في تقرير المصير، وجعل هذا الحق رهينة تعنّت الاحتلال، ذلك أن الاعتراف بدولة فلسطين أصبح مشروطاً لا بموقف الفلسطينيين، بل بما إذا كانت تل أبيب “ستفشل” في اتخاذ بعض الخطوات.

وبينما يروّج البعض لرواية سطحية تُصوّر هذا الاعتراف وكأنه “مكافأة” لحركة حماس، فإن كثيرين داخل الحركة الوطنية الفلسطينية يرونه من زاوية مختلفة تماماً.

فرغم أن حماس قد قبلت بقيام دولة فلسطينية على أساس حل الدولتين ضمن ميثاقها المعدل عام 2017، إلا أنها لم تُظهر حماساً حقيقياً للسعي وراء هذا الهدف، معتبرة أن مثل هذا المسار يُعيد إلى الأذهان اتفاق أوسلو المرفوض من قِبلها.

ومع ذلك، فإن الحركة لا ترغب بأن يُنسب الفضل في أي اعتراف دولي بالحق الفلسطيني إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي فقد كثيراً من مصداقيته.

وعند التمعن في الشروط البريطانية، نجد أنها حافلة بعبارات مطاطة تترك مساحة واسعة للتأويل من قبل رئيس الوزراء البريطاني، إذ ما هو المقصود بـ “خطوات جوهرية” يجب أن تتخذها دول الاحتلال في غزة؟ لا أحد يعلم، ولا يُطلب من دولة الاحتلال سحب قواتها، بل تُركت التفاصيل لتقدير ستارمر.

كما يُطلب من الاحتلال الالتزام بـ “سلام دائم ومستدام”، دون أي إشارة إلى ضرورة قيام دولة فلسطينية، أو حتى إلى إنهاء الاحتلال، اللغة هنا فضفاضة إلى درجة تجعلها بلا معنى فعلي.

وفي اليوم نفسه الذي أعلنت فيه تصنيفات الأمن الغذائي المتكامل (IPC) أن غزة تعاني من مجاعة ناجمة عن سياسة التجويع التي ينتهجها الاحتلال عمداً، اكتفت بريطانيا بالمطالبة بـ “سماح” الاحتلال للأمم المتحدة باستئناف تقديم المساعدات، علماً أن لندن تُطالب بذلك منذ شهور دون جدوى، فما الذي سيتغير الآن؟

بل إن هذا المطلب أضعف من سابقاته؛ فـ “السماح” للأمم المتحدة بإيصال قدر محدود من المساعدات ليس كمطالبة الاحتلال بالسماح الكامل وغير المشروط لوصول المساعدات الإنسانية.

كذلك، تطالب لندن الاحتلال بقبول وقف إطلاق نار، دون أن توضّح إن كان وقفاً مؤقتاً كما تريد تل أبيب، أم دائماً كما تطالب به حماس، ثم هل يكفي أن تزعم دولة الاحتلال مثلاً قبول شروط وقف إطلاق نار أمريكية من المحتمل أن تكون قد صيغت بالتنسيق معها؟

حتى قبل هذا الإعلان، ربما كان نتنياهو يُخطط لإعلان وقف إطلاق نار بحلول نهاية أغسطس/آب، بعد أن يكون قد دمّر ما تبقى من غزة، فقد يعلن نهاية العمليات العسكرية مع إبقاء قواته على الأرض، ثم يزعم تحقيق “النصر” ويتفرغ للضفة الغربية، مع السماح بدخول مساعدات محدودة لتقليل عدد شهداء الجوع.

أما فيما يخص الضفة الغربية، فالشروط البريطانية لا تُضيف الكثير، إذ لا يُطلب من نتنياهو وقف الاستيطان، ولا التراجع عن مشاريع التهجير الكبرى مثل مشروع E1. يكفي أن يتجنّب إعلان الضم رسمياً، ليبقى ضمن الشروط.

لا يوجد أي مبرر لعدم إعلان الاعتراف البريطاني بفلسطين في يوليو/تموز ذاته، بل كان من الممكن أن تشكّل خطوة قوية لو وقفت كل من فرنسا وبريطانيا معاً في الأمم المتحدة، ليعلنا اعترافهما بالدولة الفلسطينية بوضوح وثقة.

لكن الإخفاق الأكبر يكمن في غياب أي إشارة إلى فرض عقوبات على دولة الاحتلال بسبب سلوكها الوحشي في غزة، رغم استمرارها في ارتكاب ما تصفه منظمات حقوقية متعددة بـ”الإبادة الجماعية”.

كان ينبغي فرض العقوبات منذ البداية، على أن يُعلّق تنفيذها فقط في حال استوفت تل أبيب مجموعة واضحة وقابلة للتنفيذ من المطالب، من بينها فتح ممرات إنسانية كاملة ودائمة، هذا هو الشرط الذي كان ينبغي ربط الاعتراف به، لا العكس.

بدلاً من ذلك، لجأت بريطانيا إلى إلقاء المساعدات من الجو وهي الطريقة الأقل فاعلية والأكثر خطراً لتوصيل الإغاثة، فالأقوى بدنيًّا سيحصل على المساعدات أولاً، أما الأضعف والأكثر حاجة، فربما لا يحصل على شيء، وهنا تتجلى هشاشة الموقف البريطاني بأوضح صُوَره.

وأخيراً، فإن الاعتراف بالدولة الفلسطينية ليس أداة ضغط، ولا ورقة مساومة في لعبة دبلوماسية، بل هو حق غير قابل للتفاوض، حق يجب أن يُصان، لا أن يُساوَم عليه.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة