هجرة بلا عودة.. قصة تفريغ المغرب من يهوده باسم “الوطن القومي”

بقلم كارولين دوبوي 

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

لم يكن سرًّا أن عددًا كبيرًا من اليهود غادروا المغرب نحو دولة الاحتلال في ستينيات القرن الماضي، ضمن خطة صهيونية تُعرف رسميًا باسم “عملية ياخين” السرية التي دبرها جهاز الموساد تحت إشراف الوكالة اليهودية.

كانت هذه العملية تهدف إلى زيادة عدد اليهود في الدولة التي تم الإعلان عنها حديثًا من خلال استقدامهم من المغرب، وقد نُفذت عمليات مماثلة في أنحاء مختلفة من العالم خلال الفترة ذاتها.

ويُعتقد أن نحو 90 ألف يهودي، أي ما يعادل 54.6% من يهود المملكة غادروا المغرب بين عامي 1961 و1964، حيث كان عدد اليهود المقيمين في البلاد قبل العملية يُقدَّر بنحو 225 ألفًا، فيما يُقدر أن نحو 160 ألف يهودي من أصول مغربية يعيشون اليوم في دولة الاحتلال، مما يجعلهم ثاني أكبر مجموعة مهاجرة بعد يهود دول الاتحاد السوفيتي السابق.

أما الجانب الأقل شهرة من تلك الحقبة، فيمثّله أفراد الجالية اليهودية المغربية الذين اختاروا البقاء أو الذين عادوا من الدولة العبرية بعد الهجرة إليها والإقامة فيها لعدة سنوات والذين يشكلون اليوم مجتمعًا صغيرًا يُقدر بنحو ألفي شخص، ليكون أكبر جالية يهودية متبقية في شمال إفريقيا.

وقد وصف الكاتب المغربي اليهودي يعقوب كوهين هذه الجالية، التي كانت مزدهرة في يوم ما، بأنها “نوع نادر”، علماً بأن كوهين ولد عام 1944 في مدينة مكناس، وينتمي إلى القلة التي بقيت في المغرب أثناء موجة الهجرة الجماعية وقد رأى مجتمعه يتلاشى أمام عينيه.

يقول كوهين لموقع ميدل إيست آي: “كنت مقتنعًا بأنه لا بد أن نغادر، وأنه لا مستقبل لليهود في المغرب، هذا هو النجاح الكبير للمنظمات الصهيونية التي كانت حاضرة هناك”، مشيراً إلى أنه “كان من الواضح عدم وجود عداء ظاهر للقلة اليهودية التي بقيت هناك ولم تواجه أي مشاكل، لكن كان هناك شعور عام بأن المستقبل لم يعد هنا، إن لم يكن لهم، فعلى الأقل لأبنائهم”.

“كانت مأساة”

لقد غيّرت عملية ياخين حياة يهود المغرب وأفرغت البلاد من أحد مكوناتها التاريخية، حيث تشير مصادر أكاديمية عدة إلى أن “عملية ياخين” جاءت ثمرة تفاهم بين رئيس وزراء الاحتلال آنذاك ديفيد بن غوريون والملك المغربي الراحل الحسن الثاني.

وبحسب ما نُقل، فقد وافقت الدولة العبرية على تعويض المغرب عن فقدان هذه الشريحة من سكانه، من خلال دفع 500 ألف دولار، إضافة إلى 100 دولار عن كل مهاجر من أوائل 50 ألف يهودي مغربي غادروا البلاد، و250 دولارًا عن كل شخص إضافي. 

كما يُقال إن “جمعية مساعدة المهاجرين العبرانيين” ومقرها نيويورك ساهمت بنحو 50 مليون دولار لدعم العملية.

وقد كانت فاني ميرغي، 80 عامًا، من الدار البيضاء، واحدة من آلاف اليهود الذين غادروا المغرب عام 1961، وهي لا تزال تتذكر كيف جاءت الحركات الشبابية من دولة الاحتلال إلى المغرب لإقناع اليهود بالرحيل، ولا سيما أولئك الذين كانوا يملكون “الملف المناسب” للانضمام إلى المشروع.

“كنت أشاهد الجميع يغادرون المدينة القديمة، الجدات والأجداد والصغار والكبار، جميعهم كانوا يبكون، ولم يكن أحد يغادر وقلبه مفعم بالفرح، لقد قالوا لنا إن المغرب أصبح مستقلًا منذ 1956، ولدينا نحن بلدنا (إسرائيل) فلم يعد هناك سبب للبقاء في المغرب” – فاني ميرغي – يهودية من الدار البيضاء

بدأت ميرغي، وهي في العاشرة من عمرها، حضور نوادي الشباب التي أنشأتها الوكالة اليهودية، الذراع التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية المسؤولة عن تشجيع الهجرة إلى دولة الاحتلال، وكانت هذه النوادي وسيلة فعالة لنشر الدعاية الصهيونية بين الشباب.

وتقول ميرغي لميدل إيست آي: “كنت أعيش على إيقاع الثقافة الإسرائيلية: الوطن، أغاني الرواد، الاشتراكية، الحرية، التحرر، والأخوّة”، وكانت الدعاية فعالة وقتها، فمن منزلها في الحي التاريخي، وجدت ميرغي نفسها في موقع مثالي لمتابعة تنفيذ العملية.

وتوضح التفاصيل قائلة: “أرسلوا حافلات من قرى بأكملها إلى الدار البيضاء، وكنت أقضي طفولتي وأنا أشاهد الناس يغادرون، كان علينا عبور الشارع فقط، وهناك كانت السفن ترسو أمام أعيننا.”

وتصف الحالة التي غادر فيها الناس بأنها أشبه بـ (هستيريا المغادرة)، قائلة: “رأيت الجميع يغادرون المدينة القديمة، يحملون قدور الكسكس، والسلال، والتوابل، والجميع يبكون، كانت مأساة، لم يغادر الناس بفرح في قلوبهم.”

وتؤكد ميرغي أن اليهود كانوا مندمجين تمامًا في المجتمع المغربي المسلم، الذي عاشوا فيه لأكثر من ألفي عام، موضحة “المغاربة المسلمون لم يهاجمونا، ولم يطلبوا منا الرحيل، بل على العكس تمامًا”، لكن في ذلك الوقت، وعدت الحركة الصهيونية ومشروع الهجرة بـ “الحداثة” والوصول إلى عالم جديد.

وتوضح: “عندما غادرت، كانت إسرائيل موجودة في ذهني دوماً كما هو الحال لدى كثير من يهود المغرب، لم نكن نعتقد أننا ذاهبون إلى بلد أُنشئ حديثًا، بالنسبة لنا، كانت الأرض المقدسة، كانت بلدنا، كانت أرض الكتاب المقدس.”

وتابعت تقول: “كنا نعود إلى الوطن، ببساطة لم نكن نفهم ما كان يحدث فعلًا، لقد استغرق الأمر حياتي كلها لأدرك ما حدث لمجتمعي.”

العودة إلى المغرب

في عيون اليهود المغاربة، تبخّرت وعود “الوطن” حيث يقول مصدر مطّلع تحدث إلى موقع ميدل إيست آي إن اليهود المغاربة الذين هاجروا إلى دولة الاحتلال لم يدفعوا شيئًا مقابل رحلتهم، بل وُعدوا أيضًا بمكان إقامة دائم هناك.

لكن ما إن وطأت أقدامهم أرض “الوطن الجديد”، حتى اكتشف اليهود المغاربة، كما هو حال بقية المهاجرين من الدول العربية، أن الواقع بعيد تمامًا عمّا روّجت له الحركة الصهيونية.

وتقول فاني ميرغي إن اليهود المغاربة كانوا أول من سكن ما أصبح يُعرف لاحقًا بـ”الأحياء العربية” في الدولة العبرية، واصفةً إياها بأنها “مناطق مهجورة تمامًا”، وأضافت: “إذا كنت تريد سقفًا فوق رأسك، فعليك أن تبنيه بنفسك”، مضيفة أن اليهود الشرقيين كانوا الفئة الأفقر بين القادمين الجدد.

وقد تفاقمت الأزمة بسبب العنصرية وعدم المساواة بين الطوائف، حيث تقول ميرغي: “كانت هناك أيديولوجيا استعمارية، اليهود الأوروبيون، الذين كانوا أول من استوطن فلسطين قادمين من روسيا في ثمانينيات القرن التاسع عشر، كانوا يعتبرون أنفسهم متفوقين علينا، ولم يكن لنا سوى موقع المواطن من الدرجة الثانية.”

ولم يمر وقت طويل حتى بدأ القادمون الجدد في الاحتجاج، حيث تقول ميرغي: “خرج اليهود المغاربة إلى الشوارع حاملين صور الملك محمد الخامس، وهم يهتفون: نريد العودة إلى الوطن، لكن العودة لم تكن ممكنة، لقد كانت رحلة بلا عودة”.

ورغم أن الملك محمد الخامس توفي عام 1961، فإن المتظاهرين استخدموا صورته لأنه كان يُعرف بحمايته لليهود خلال الحرب العالمية الثانية، ورفضه تسليمهم للنظام النازي.

وبكل الأحوال، لم تكن العودة إلى المغرب خيارًا متاحًا لمعظم اليهود المغاربة، فقد كانت عملية نقلهم أساساً سرية، ولم يمتلكوا وثائق سفر رسمية، كما أن جوازاتهم كانت خاضعة للاتفاقيات التي أُبرمت مع السلطات المغربية، وفقًا لما توضحه ميرغي.

وبعد حرب عام 1967، رغبت ميرغي نفسها في العودة إلى المغرب، وجاءتها الفرصة عبر العمل كقائدة في نادٍ شبابي صهيوني مكلف بتجنيد المهاجرين الجدد، حيث تقول ميرغي: “كنت في قمة الفرح، ليس لأنني سأعمل مع الحركة الصهيونية، بل لأنهم منحوني فرصة للتفكير مجددًا في ذلك الرحيل المتسرع من المغرب.”

ولم تكن دولة الاحتلال “الوطن” بالنسبة لميرغي التي أضافت: “كنت غارقة في ثقافة أجنبية، ولا أنكر أنني قدّرت ذلك وتعلمت الكثير، لكنني أصبحت منخرطة سياسيًا، وتعرفت إلى شباب من مختلف أنحاء العالم.”

غير أن نظرة ميرغي للحركة الصهيونية تغيّرت كليًا بعد عام 1967 واحتلال الدولة العبرية للأراضي الفلسطينية، حيث بدأت ميرغي تدرك أن “تلك هي القضية الحقيقية، وأن أفهم ما يجري فعليًا، تخلّيت تمامًا عن فكرة العيش في إسرائيل.”

وقبل عودتها إلى المغرب، التحقت ميرغي بجامعة فانسان في باريس، حيث درست تاريخ فلسطين، في رحلة تقول عنها “هذا ما شكّل مساري الأكاديمي والسياسي وأيقظ ضميري.”

وخلال إقامتها في فرنسا، انخرطت ميرغي في العمل السياسي، وشاركت في حملات دعماً لحركة “الفهود السود” في الدولة العبرية، وهي مجموعة تطالب بالعدالة الاجتماعية لليهود الشرقيين، كما دعمت القضية الفلسطينية.

على شفا الانقراض

واليوم، يحظى دعم القضية الفلسطينية ورفض اتفاق التطبيع الموقع مع دولة الاحتلال عام 2020 بتأييد شعبي واسع في المغرب، ويبدو أن كثيرًا من يهود المملكة يشاركون هذا الموقف، ورغم أن معظم اليهود المغاربة يفضلون الابتعاد عن المشهد السياسي، فإن العديد من أفراد الجالية لا يترددون في إدانة ممارسات تل أبيب. 

وتحتضن العاصمة الرباط نشطاء بارزين من أصول يهودية يدعمون فلسطين، مثل سيون أسيدون، أحد مؤسسي حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) في المغرب.

غير أن السياسة الشرق أوسطية لم تكن الدافع الوحيد وراء بقاء بعض اليهود في المغرب أو عودتهم إليه، مثل حاييم كريسپن، المولود عام 1957 في مدينة القصر الكبير شمال البلاد، والذي يقول إن قراره بالبقاء لم يكن ذا خلفية سياسية.

كريسپن، الذي يقيم حاليًا في الرباط، يدافع عن قرار أسرته بالبقاء رغم بعض التحديات التي يراها لا تخص المغرب وحده، ويقول: “كنت طفلًا وقت موجة الهجرة الجماعية، والدي كان رجل أعمال، وكانت حياتنا جيدة هنا، لقد فتحت مطعمي قبل 25 سنة، وليس كل من بقي من اليهود فعل ذلك بدافع سياسي.”

وبينما تحدث بعض من التقاهم موقع ميدل إيست آي عن شعور متزايد بمعاداة السامية في البلاد، فإنه لا توجد بيانات موثوقة تؤكد هذا الاتجاه، ومع ذلك، يقول كريسپن إن الأمر ليس كافيًا لدفع الناس إلى الرحيل، مضيفاً: “الناس يرحلون بدافع الخوف، لكن هذا يحدث في كل مكان بالعالم، فلماذا الرحيل؟”.

في المقابل، يعرب الكاتب يعقوب كوهين عن تشاؤمه حيال مستقبل الجالية اليهودية في المغرب، ويصفها بأنها على “شفا الانقراض”.

كوهين غادر المغرب إلى فرنسا بعد أن واجه ما وصفه بـ “مشكلات شخصية” خلال عمله أستاذًا مساعدًا في الدار البيضاء، جعلته يعتقد أن “اليهود المغاربة كانوا محقين حين لم يروا في المجتمع المغربي بيئة متسامحة ومنصفة تمنحهم المكانة التي يستحقونها”، لكنه يعترف بأن المملكة بذلت جهودًا ملموسة للحفاظ على الهوية اليهودية التاريخية في البلاد.

ففي عام 1997، أسّست “مؤسسة التراث اليهودي المغربي” أول متحف يهودي في العالم العربي، بمدينة الدار البيضاء، وهو لا يزال قائمًا حتى اليوم، كما عملت المؤسسة على صيانة أكثر من 167 مقبرة ومقامًا يهوديًا في أنحاء المملكة.

وفي 2011، اعترف الدستور المغربي الجديد بالهوية العبرية كجزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية، وفي 2020 صادق الملك محمد السادس على إدراج تعليم التاريخ والثقافة اليهودية في المناهج الدراسية للمرحلة الابتدائية، ولعب المستشار اليهودي البارز للملك، أندري أزولاي، دورًا محوريًا في التأكيد على أهمية هذا الاعتراف الرسمي.

“يتم بذل كل الجهود لحماية ودعم والحفاظ على الهوية اليهودية، لكن نهايتها تبدو حتمية، وحتى إن استمرت فستتقلص إلى أبسط صورها” – يعقوب كوهين، كاتب مغربي يهودي

ويضيف: “لا شيء يمكن أن يُغيّر حكم التاريخ هذا”، مشيرًا إلى الخسائر الكبرى التي ترتبت على عملية ياخين.

ويقول كوهين: “من الجانب المغربي، الجميع خسر، فقد خسر البلد مجتمعًا كان من الممكن أن يتطور إلى مليون أو مليوني نسمة، وكان يمكن أن يسهم في تنمية المغرب وتعدديته وانسجامه، ومن الجانب اليهودي، كانت تلك نهاية لا رجعة فيها لحضارة استغرق بناؤها 15 قرنًا.”

أما ميرغي، فحين تستعيد تلك الحقبة، تستخدم دائمًا استعارة المنزل المحترق لوصف حال الجالية اليهودية، وتقول: “الجالية اليهودية في المغرب كانت تائهة تمامًا، لم تكن تعرف ما ينتظرها، كان الأمر كما لو أنك في بيت يحترق، والجميع يفرّ، فماذا تفعل؟ تهرب مثلهم، بكل بساطة.”

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة