غزة تحت المجهر: لماذا تُعد إبادة اليوم الأخطر في التاريخ الحديث؟

بقلم حسام شاكر

ترجمة وتحرير مريم الحمد

من المغالطات السائدة النظر إلى السياسات الوحشية الحديثة باعتبارها أقل خطورة من فظائع سابقة شوهت تاريخ البشرية، بما في ذلك أهوال الحرب العالمية الثانية. 

يكمن جوهر هذه المغالطة في تحييد عنصر الزمن والتغاضي عن تطور الردع والقيود الرامية إلى منع تكرار فظائع الماضي، فلا تقتصر هذه القيود على تطوير الأطر القانونية والقائمة على القيم العالمية ولا على نمو الضمير الأخلاقي العام عبر البشرية بغض النظر عن درجة الالتزام بهذه المعايير.

تشمل القيود أيضاً حقيقة مفادها أن العديد من جرائم اليوم يتم بثها على الهواء مباشرة وقت وقوعها من خلال التغطية الإعلامية، مما يجعل إخفاء الجريمة أكثر صعوبة مما كان عليه في الماضي، عندما كان بوسع الإمبراطوريات والدول والجيوش أن تخفي الجرائم الجسيمة تحت البساط.

تدرك القيادة الإسرائيلية تمام الإدراك أنه قد سُمح لها بارتكاب هذه الفظائع رغم القيود الأخلاقية والقانونية في العصر الحديث، تحت مراقبة المؤسسات والمحاكم الدولية، وبذلك استأنفت حملة التطهير العرقي التي بدأتها قبل ثلاثة أرباع قرن من الزمان مع نكبة عام 1948

لقد كانت بعض الإشارات المبكرة للإبادة النازية واضحة علناً من خلال الخطاب العنصري والتحريضي والتدابير التشريعية والإجرائية القسرية وسياسات الاضطهاد المرعبة والترحيل إلى معسكرات الاعتقال، ورغم ذلك، فقد ظلت العديد من هذه الفظائع مخفية خلف الجدران المحصنة إلى أن انهار النظام النازي، وكشف عن الفظائع المروعة التي ارتكبت تحت الشعار الخادع المعلق فوق أبواب أوشفيتز: “العمل يحررك”.

قبل بضعة عقود من الزمن، ارتكبت ألمانيا أعمال إبادة جماعية في إفريقيا أيضاً، وهي أهوال لا تزال مجهولة إلى حد كبير حتى يومنا هذا، رغم الاعتراف الرسمي المتأخر من قبل الدولة الألمانية، وذلك من خلال الإبادة الجماعية ضد شعبي هيريرو وناما في أوائل القرن العشرين فيما يعرف الآن بناميبيا، حيث قتل المستعمرون الألمان عشرات الآلاف.

أما اليوم، فيتم بث المذبحة التي ترتكبها إسرائيل حالياً في قطاع غزة على الهواء مباشرة من الميدان عبر الشاشات والشبكات رغم الحظر الذي تفرضه إسرائيل على دخول وسائل الإعلام العالمية إلى القطاع!

انتهاكات وحشية

في هذه البقعة الضيقة من الأرض، تُنتهك حياة الإنسان وكرامته بوحشية في عصر شهد ارتفاع مستوى القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان، إلى جانب تطور الأمم المتحدة وغيرها من الآليات العالمية للمساءلة وأبرزها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية. 

لو تكررت فظائع الماضي في يومنا هذا، فقد لا يجدون طريقة تنفيذ أكثر تقدماً أو رعباً من برنامج الإبادة الجماعية الذي ترتكبه إسرائيل في قطاع غزة، والذي يستمر تحت أنظار العالم أجمع حتى اللحظة، حيث يمكنهم استخلاص مخطط عملياتي من السياسات والممارسات الممنهجة لقادة الحرب الإسرائيليين والسرديات الدعائية التي يستخدمونها لتبرير كل فظائع جديدة. 

بالمثل، لو كانت الفظائع التي تتكشف اليوم في غزة قد حدثت خلال العصور السابقة، فمن المرجح أنها كانت سوف تصل إلى مستويات أكثر وحشية متحررة من القيود الحديثة وموفرة الحاجة إلى المبررات المفصلة المطلوبة في القرن الحادي والعشرين.

في العصر الحالي، فإن أي فظائع يرتكبها نظام حديث بشكل ممنهج مثل برنامج الاحتلال والإبادة الذي ينتهجه الجيش الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، لابد أن تصنف بين أفظع الفظائع في تاريخ البشرية، لأن هذه الجرائم ترتكب رغم وجود وسائل ردع متعددة.

ويجب على المرء إذن أن يتساءل، كيف كانت ستبدو تصرفات إسرائيل دون قيود حديثة مع نفس الحصانة المطلقة من العقاب الممنوحة للإمبراطوريات والدول والأنظمة والجيوش في العصور الماضية؟

من الضروري تسليط الضوء على هذا الواقع من أجل الفهم الكامل للمخاطر الهائلة التي يشكلها برنامج إسرائيل للإبادة الجماعية والتطهير العرقي في غزة، فمثل هذه الفظائع المروعة من القتل الجماعي والدمار الشامل والتجويع كوسيلة من وسائل الحرب والإفقار والإذلال والحرب البيولوجية والبيئية، لا تقتصر على الماضي، فهي تظهر فقط في لقطات بالأبيض والأسود كما قد يفترض البعض. 

تأتي هذه الفظائع اليوم بكل ألوانها وتبث مباشرة من ميدان المذبحة لحظة بلحظة، وتتكشف تفاصيلها المروعة أمام أعين العالم، ترتكبها دولة حديثة من خلال مؤسساتها الإدارية وجيشها المعاصر، بينما يصعد السياسيون الذين يرتدون ربطات العنق الحريرية إلى المنابر ويبررون هذه الجرائم ويلومون الضحايا!

هناك خطر آخر يتمثل في تحييد عنصر الوقت في نسيان أن الفظائع التي ارتكبت في النصف الأول من القرن العشرين ارتكبت في المقام الأول في ظل حربين عالميتين، باعتبارهما أحداثاً كارثية حولت العالم الحديث إلى رماد وقتلت عشرات الملايين من الناس في جميع أنحاء المدن التي تحولت إلى ركام ودخان.

تذكر القيادة الإسرائيلية الأمريكيين والأوروبيين باستمرار بجرائم الحرب التي ارتكبتها دولهم في العقود الماضية، وهي خدعة رخيصة تهدف إلى إسكات الانتقادات، وتشير في الوقت نفسه إلى أن التجربة الاستعمارية المتطورة في فلسطين تظل مرتبطة إلى الأبد بالسياق الغربي الذي زرعها لأول مرة في هذه الأرض

في المقابل، فإن الإبادة الجماعية في غزة تتكشف في السياق الذي تشكلت فيه الحرب الحديثة التي من المفترض أنها قيدت استخدام القوة والدمار الشامل للحد من إراقة دماء المدنيين!

سباق مع الزمن

من أجل فهم مدى خطورة الجرائم الإسرائيلية التي ترتكبها الأسلحة والتكنولوجيات التي زودها بها الغرب، فمن الأهمية بمكان أن نضع في اعتبارنا حجم القتل والدمار والتشريد والمجاعة نسبة إلى المنطقة الجغرافية الصغيرة في غزة والتي تؤوي نحو مليوني فلسطيني.

خلال ما يقرب من عامين من الإبادة الجماعية، قتل الجيش الإسرائيلي أو جرح مئات الآلاف من الأشخاص، بعضهم أصبحوا معاقين بشكل دائم، وقد حذرت الأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية من أن الجيش الإسرائيلي يقتل ما يعادل فصلاً دراسياً كاملاً من الأطفال في غزة كل يوم دون أن تتدخل أي قوة دولية لوقف ذلك.

لقد ارتفع عدد الشهداء بالفعل إلى أكثر من 61 ألف شخص، نصفهم تقريبا من الأطفال والنساء، ويستمر هذا العدد في الارتفاع مع محو مساحات شاسعة من الأحياء السكنية من الخريطة، وإذا ما أخذنا في الحسبان الخسائر غير المباشرة من الوفيات الناجمة عن نقص الأدوية والرعاية الصحية أو بسبب الأغذية الفاسدة والبيئة السامة، فهذا يرفع هذه الأرقام إلى مستويات أكثر رعباً.

تدرك القيادة الإسرائيلية تمام الإدراك أنه قد سُمح لها بارتكاب هذه الفظائع رغم القيود الأخلاقية والقانونية في العصر الحديث، تحت مراقبة المؤسسات والمحاكم الدولية، وبذلك استأنفت حملة التطهير العرقي التي بدأتها قبل ثلاثة أرباع قرن من الزمان مع نكبة عام 1948.

والآن تسابق إسرائيل الزمن لفرض نتيجة نهائية في غزة والضفة الغربية المحتلة عبر وسائل مختلفة، خاصة في ظل إدراكها للمعضلة التي تواجهها وسط القيود التي يفرضها العصر الحالي بما فيها جوقة المعارضة غير المسبوقة والمتنامية بين الزعماء الغربيين، فإسرائيل تسعى إلى الالتفاف على كل هذا من خلال تعزيز مفهوم “الاستثناء الإسرائيلي”، وهو الوضع الذي منحها لفترة طويلة الترخيص لتجاوز النظام الدولي واتفاقياته. 

تفعل إسرائيل ذلك من خلال التذرع بهوية مزدوجة ملفقة لـ “الضحية الاستثنائية”، التي يُزعم أنه يحق لها ارتكاب جرائم لا يجوز للآخرين ارتكابها من خلال تفسير النصوص المقدسة بشكل انتقائي وتحريفها باعتبارها دليل إبادة جماعية محصن ضد المعاهدات والالتزامات الحديثة.

وفي محاولة أخرى لتجاوز عنصر الوقت، تذكر القيادة الإسرائيلية الأمريكيين والأوروبيين باستمرار بجرائم الحرب التي ارتكبتها دولهم في العقود الماضية، وهي خدعة رخيصة تهدف إلى إسكات الانتقادات، وتشير في الوقت نفسه إلى أن التجربة الاستعمارية المتطورة في فلسطين تظل مرتبطة إلى الأبد بالسياق الغربي الذي زرعها لأول مرة في هذه الأرض.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة