بقلم يورغن ماكيرت
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
من المستحيل أن يشاهد الألمان صور الأطفال الفلسطينيين الذين يموتون جوعًا على يد نظام الاستعمار الاستيطاني الصهيوني دون أن تعود ذاكرتهم إلى تاريخهم الأسود.
أطفال ورضع تحولوا إلى هياكل عظمية، نساء ورجال هزلت أجسادهم حتى الانهيار، فيما تغرق عيون المحتضرين باليأس، فمشاهد غزة اليوم تعيد إلى الأذهان مصير شعوب ناما وهيريرو الذين جرى تجويعهم حتى الموت على يد المستعمرين الألمان في ناميبيا، وكذلك الذين جرى تجويعهم عمدًا خلال حصار النازيين لمدينتي لينينغراد وستالينغراد، وأثناء مأساة غيتو وارسو، ومعسكرات الاعتقال.
إن سياسة التجويع حتى الموت ممارسة استعمارية وفاشية بامتياز، فما فعله الألمان بملايين البشر بعد أن جُردوا أولاً من إنسانيتهم، هو ذاته ما يفعله الصهاينة اليوم في غزة وفي عموم فلسطين.
ورغم فظاعة المشهد، إلا أن المؤسسة السياسية الألمانية تواصل إبرام صفقات السلاح مع الجلادين، ولا تزال ترفض حتى تسمية ما يجري باسمه الحقيقي “إبادة جماعية”.
بل إن المستشار الألماني فريدريش ميرتس، الذي يتباهى بشكل مثير للسخرية بأنه كان “من أوائل” من وصفوا الوضع في غزة بأنه “لا يُحتمل”، يكتفي اليوم بالمشاركة في جسر جوي إنساني بدلاً من قطع جميع أشكال التعاون مع دولة الاحتلال، وهو أمر كان بمقدوره فعله لو أراد وقف الجريمة.
يختزل ميرتس الإبادة إلى مجرد “أزمة إنسانية غامضة”، مانحًا الغطاء لدولة الاحتلال لمواصلة مجازرها، لينضم بذلك إلى قادة غربيين آخرين في تكريس المنطق المؤسس للحداثة الغربية: نظام قائم على التطهير العرقي والإبادة الجماعية، يميز بين من يحق لهم الحياة ومن يُحكم عليهم بالموت.
سياسات الموت
ولعقود طويلة، استخدم الغرب مستعمرته الصهيونية كحقل تجارب لسياسات “البيوسياسة” النيوليبرالية، مجربًا في فلسطين، وبالأخص في غزة، إلى أي مدى يمكنه أن يذهب في تدمير البشر، وما يمكن أن يتعلمه من ذلك لإدارة الشعوب مستقبلًا.
وكما شرح الفيلسوف ميشيل فوكو في محاضراته الشهيرة عام 1979 حول النيوليبرالية، فإن “البيوسياسة” حلت محل الفهم التقليدي للسيادة، فالسياسة، بحسب هذا المنطق، لم تعد مسألة قيم وأخلاق، بل صارت دائمًا مسألة حياة أو موت.
وفي الماضي، كان الملوك يقررون من يُسمح له بالعيش ومن يُحكم عليه بالموت، أما في عهد الحداثة، فقد تغيرت المعادلة إلى “إبقاء البعض على قيد الحياة وترك الآخرين ليموتوا”.
فسياسات الصحة والسكان الحديثة تسعى إلى إنتاج أمة قوية “جديرة بالحياة”، فيما يجري تعريف الآخرين كأجساد غير جديرة بالحياة.
هذا التمييز البيوسياسي هو البوصلة التي توجه الغرب في تعامله مع سكان غزة وفلسطين: “اجعلوا المستوطنين البيض يعيشون، فهم ينتمون إلينا، واتركوا الفلسطينيين يموتون”.
والواقع أن العنصرية المؤسسية للدولة هي الأساس الذي يقوم عليه هذا التمييز، غير أن هذه الممارسة لم تبدأ كما افترض فوكو في القرن التاسع عشر، بل تعود جذورها إلى بدايات الحداثة الغربية نفسها.
فالمفكر السياسي محمود مامداني بيّن أن الحداثة بدأت عام 1492 بحدثين مفصليين في شبه الجزيرة الإيبيرية أولهما قرار الملك فرديناند الثاني بتطهير بلاده عرقيًا من العرب واليهود لبناء “إسبانيا كاثوليكية نقية”.
أما ثانبهما فتمثل في إرساله كريستوفر كولومبوس غربًا لاكتشاف أراض جديدة يمكن التوسع إليها، ما فتح الباب أمام التطهير العرقي والإبادة الجماعية للشعوب الأصلية في العالم الجديد.
ومنذ ذلك الحين، ارتبطت الحداثة الغربية جوهريًا بالتطهير العرقي والإبادة الجماعية، وهو ما يتجلى اليوم بوضوح في فلسطين وغزة.
منطق الإبادة
واليوم تمثل فلسطين، وغزة على وجه الخصوص، أقصى درجات النزعة الغربية لبناء أمم بيضاء غربية على أراضي شعوب أخرى.
وكما أوضح المؤرخ الراحل باتريك وولف، فإن كل نظام استعماري استيطاني يقوم على “منطق التخلص من السكان الأصليين” هو منطق يقود في نهاية المطاف إلى الإبادة الجماعية.
وهذا هو جوهر المشروع الصهيوني الذي أخذ بلا شك هذا المسار منذ بدايته، فمنذ انطلاقة الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، كان الهدف المركزي هو القضاء على الوجود الفلسطيني.
بل إن الباحث “باروخ كيمرلنغ” كتب عام 2003 أن غزة قد تحولت بالفعل إلى “أكبر معسكر اعتقال عرفه التاريخ”، أي قبل فرض الحصار الخانق بسنوات.
واليوم، بعد مرور 22 شهرًا من المجازر، وصل هذا “التجريب البيوسياسي” غير المسبوق إلى ذروته، حيث لم يعد قتلة الاحتلال يخفون نياتهم الإبادية، بل يعلنونها صراحة.
إنهم يقيمون في غزة معسكر اعتقال واسعًا، تحول تدريجيًا إلى معسكر موت هائل، في مفارقة مأساوية يطلقون عليه اسم “المدينة الإنسانية”.
ومع ذلك، لا يحرك هذا الإعلان ساكنًا لدى النخب الألمانية، التي طالما تباهت بـ”حساسيتها” المفرطة عندما يتعلق الأمر بمعسكرات الاعتقال والإبادة والمسؤولية التاريخية.
لقد سقطت كل هذه الادعاءات، ولم يبق سوى دعمهم المطلق للعنصرية المؤسسية وسياسات التمييز البيوسياسي.
لا مبرر للجريمة
لا يوجد، ولن يوجد، أي مبرر لإقامة معسكرات اعتقال، أو تجويع الناس حتى الموت، أو ارتكاب إبادة جماعية، كما لا يوجد أي مبرر لدعم من يقومون بذلك.
ومع ذلك، يواصل ميرتس الدفاع عن دولة الاحتلال، حيث قال في مؤتمر صحفي يوم 18 يوليو/تموز:” إسرائيل لا تزال ديمقراطية، إسرائيل بلد تعرض لهجوم، وهي تدافع عن نفسها ضد هذه الهجمات”.
وأضاف: “ولو لم تفعل إسرائيل ذلك لما بقيت موجودة اليوم، فهي مهددة منذ سنوات، إن لم نقل منذ عقود، ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على أبعد تقدير، عرفنا أن هذا التهديد يمكن أن يصبح خطيرًا للغاية”.
لكن هل هناك ثمة من يستطيع أن يصدق هذه الرواية المضللة التي تُظهر دولة الاحتلال وكأنها “ديمقراطية محاصرة” تدافع عن نفسها في وجه جيران معادين؟!
إنها لا تختلف عن بروباغندا “وزارة الحقيقة” التي قد يتخيلها جورج أورويل تحت قيادة صهيونية في برلين.
الحقيقة التاريخية
الحقيقة أن النظام الاستعماري الاستيطاني الذي أُنشئ عبر عصابات فاشية مسلحة بالإرهاب، قام منذ البداية على قمع الفلسطينيين وتجريدهم من إنسانيتهم باستخدام عنف مفرط.
لقد كان هذا المشروع التوسعي تهديدًا دائمًا لشعوب الشرق الأوسط كافة، ودفع المنطقة إلى أزمات متتالية لعقود طويلة، تحت رعاية غربية مباشرة.
في الداخل الفلسطيني، فرضت دولة الاحتلال حكمًا عسكريًا على السكان الأصليين، ونشرت مستوطنات جديدة كالخلايا السرطانية تخنق القرى والمدن والحياة الفلسطينية في الضفة الغربية.
أما خارجيًا، فقد شنت حروبًا متكررة على دول الجوار من لبنان إلى سوريا في محاولة لترسيخ مشروع “إسرائيل الكبرى” على أرض مسروقة.
ولم تتردد أيضًا في مهاجمة العراق وخوض حرب عدوانية غير شرعية ضد إيران، وهي أفعال أشاد بها ميرتس بوصفها “قيام دولة الاحتلال بالعمل القذر نيابة عن الغرب”، بدلًا من اعتبارها انتهاكات خطيرة للسيادة وللقانون الدولي.
عنصرية غربية متجذرة
إن دعم الغرب لهذا المشروع الإبادي لا يمثل خيانة لقيمه، بل تجسيدًا حقيقيًا لها، فتلك القيم لم تكن يومًا موجهة للبشرية جمعاء، بل وُضعت حصريًا لخدمة “البيض”، أما الآخرون، فكانوا دومًا مجرد ضحايا “يُتركون للموت”.
لهذا، فإن ما يجري اليوم في غزة ليس انحرافًا عن قيم الغرب بل استمرار طبيعي لها: قيم تقوم على تمييز بيوسياسي صارخ بين اليهود الذين اعتُبروا “جديرين بالحياة”، والفلسطينيين الذين جرى تعريفهم على أنهم “غير جديرين بها”.
هذا هو المعيار الذي يحدده الاستعمار الغربي العنصري، وهو ليس ازدواجية معايير كما يُشاع، بل معيار واحد منذ البداية: حياة “البيض” فقط، والموت للجميع.
وهكذا، فإن ألمانيا بمواقفها الراهنة لا تفعل سوى مساعدة دولة الاحتلال على تجويع الأطفال والنساء والرجال في غزة، وتحويل القطاع من معسكر اعتقال إلى معسكر موت واسع النطاق.
بروباغندا الاحتلال والغرب
حين يقول ميرتس إن “إسرائيل لا تزال ديمقراطية” وإنها “تدافع عن نفسها”، فإنه يعيد إنتاج رواية مضللة جرى بناؤها منذ تأسيس المشروع الاستعماري.
هذه الدعاية تحاول إخفاء حقيقة أن هذا الكيان وُلد من رحم الإرهاب والمجازر، وأنه منذ البداية لم يكن سوى مشروع إحلالي يستند إلى الطرد والعنف وسلب الأرض.
لقد تأسس نظام دولة الاحتلال عبر ميليشيات فاشية مسلحة مارست الإرهاب كأداة سياسية، وفرضت وجودها على حساب السكان الأصليين.
ومنذ ذلك الحين، ظل الفلسطينيون تحت منظومة قمعية تسلبهم الأرض والحياة وتدفع بهم نحو الموت البطيء أو التهجير القسري.
تهديد إقليمي مستمر
لم يتوقف المشروع الاستيطاني عند حدود فلسطين، بل شكّل تهديدًا متواصلًا لكل شعوب المنطقة.
فقد خاضت دولة الاحتلال حروبًا متتالية ضد لبنان وسوريا، وسعت لترسيخ مشروع “إسرائيل الكبرى” على حساب سيادة الآخرين.
كما دعمت حروبًا عدوانية ضد العراق، ولم تتردد في شن حرب غير شرعية على إيران، وهو ما اعتبره ميرتس مجرد “قيام إسرائيل بالعمل القذر نيابة عن الغرب”.
هكذا، يُكشف زيف خطاب “الدفاع عن النفس”، إذ لم يكن الأمر سوى سياسة توسع استعماري يشرعنها الغرب ويصفق لها.
القيم الغربية المزعومة
ما تفعله ألمانيا اليوم بدعمها لدولة الاحتلال ليس انحرافًا عن “القيم الغربية”، بل هو استمرار طبيعي لها، هذه القيم لم تكن يومًا عالمية، بل كانت منذ نشأتها حكرًا على “البيض”، بينما تُرك الآخرون للموت.
لم يعرف الفرب يومًا ازدواجية المعايير، بل كان معيارًا واحدًا: “حياة البيض مهمة، أما الآخرون فلا قيمة لهم”.
وهذا ما يتجلى اليوم في غزة بأبشع صوره، حيث يُترك الأطفال جياعًا حتى الموت تحت الحصار، فيما تُفتح مخازن السلاح بلا حدود أمام جيش الاحتلال ليواصل مجازره.
معسكر الموت المفتوح
هكذا، تتحول غزة من “أكبر معسكر اعتقال في التاريخ”، كما وصفها كيمرلنغ قبل عقدين، إلى معسكر موت مفتوح على مرأى ومسمع العالم.
إن ما يجري ليس مجرد مأساة إنسانية عابرة، بل هو اختبار غربي شامل لمنطقه الاستعماري، منطق يجعل حياة البعض مشروعة، بينما يجرّد الآخرين من حق الوجود.
وفي هذا الاختبار، تلعب ألمانيا دورًا مركزيًا، ليس كمتفرج صامت، بل كشريك فاعل بالتسليح والدعم السياسي والتغطية على جرائم الإبادة.
الحقيقة المجردة
لم تعد هناك أعذار، فإقامة معسكرات اعتقال، وتجويع البشر حتى الموت، وارتكاب إبادة جماعية كلها جرائم لا يمكن تبريرها، ولا يمكن لألمانيا أو أي دولة غربية أن تغسل يديها منها.
فحين تُمنح دولة الاحتلال حصانة سياسية وسلاحًا لقتل الفلسطينيين، وحين يُبرَّر هذا تحت شعارات “الديمقراطية” و”الدفاع عن النفس”، يصبح التواطؤ الغربي أكثر وضوحًا من أي وقت مضى.
إنها ليست مسألة ازدواجية معايير، بل مسألة عنصرية بنيوية تشكّل جوهر الحداثة الغربية منذ 1492 وحتى غزة 2025.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)