هكذا انتقلت بوصلة الاحتلال الأخلاقية من فلسفة البقاء إلى حتمية التوسع اعتماداً على القوة الغاشمة

بقلم عبد أبو شحادة

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

في خطاب حديث أمام متظاهرين في تل أبيب، اتهم رئيس دولة الاحتلال إسحاق هرتسوغ العالم بالنفاق، حين دعا المجتمع الدولي للضغط على بلاده لتمكين دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة، بينما لم يمارس الضغوط ذاتها على حركة حماس.

لكن كلماته لم تعكس مزاج المعارضة الإسرائيلية فحسب، بل جسّدت أيضًا نجاح الحكومة الحالية في صياغة مبدأ أخلاقي صهيوني جديد، يقوم على العنف الخام دون أي ادعاء للأخلاقية أو الشرعية.

الأمر ذاته أكده رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في مقابلة مع قناة i24، حين سُئل عن فكرة “إسرائيل الكبرى”، فأجاب بحدة: “نحن هنا”.

هذه التصريحات تعكس حالة الإجماع الراسخ في دولة الاحتلال على أن القوة العسكرية هي الجواب لكل تحدٍّ، ليس فقط في السياسة والدبلوماسية، بل حتى في تفاصيل الحياة اليومية.

ثقافة القوة في الملاعب

تجلّى هذا المنطق العسكري في ساحات غير متوقعة مثل ملاعب كرة القدم، ففي مباراة أُقيمت هذا الشهر في المجر، رفع مشجعو نادي “مكابي حيفا” لافتة كُتب عليها “مجرمون منذ عام 1939″، في إشارة إلى تاريخ بولندا خلال المحرقة النازية، حيث اضطرت سفارة الاحتلال في  وارسو لإدانة هذا التصرف.

أما مشجعو “هبوعيل بئر السبع” فذهبوا أبعد من ذلك، عندما نشروا لافتة تقول: “يجب تدمير شيئين، حماس والاتحاد الأوروبي لكرة القدم (UEFA)”.

واللافت أن الاتحاد الأوروبي بالرغم من أنه لم يسبق وفرض أي عقوبات على دولة الاحتلال كما فعل مع روسيا بعد غزوها لأوكرانيا، فإنه خلال نهائي السوبر الأوروبي لهذا العام، سمح برفع لافتة تقول: “توقفوا عن قتل الأطفال، توقفوا عن قتل المدنيين”، وهي رسالة إنسانية نزع منها أي بعد سياسي. 

لكن الغضب العارم الذي أبداه المشجعون الإسرائيليون يكشف عن ثقافة ترى أن القوة وحدها هي المنطق السائد.

هيمنة عسكرية وتحول روحي

المؤرخ الإسرائيلي يوفال نوح هراري وصف هذه المرحلة بأنها نقطة تحول روحية لليهود، ربما الأكثر خطورة منذ تدمير الهيكل الثاني عام 70م. 

فاليهود كما قال واجهوا كوارث متتالية عبر التاريخ، لكنهم لم يعرفوا تهديدًا روحيًا بهذا العمق.

يحذّر هراري من أن المسار الحالي لدولة الاحتلال قد يفضي إلى تفريغ 2000 عام من الفكر والثقافة اليهودية من مضمونها، وأن الدولة قد تنزلق نحو تطهير عرقي للفلسطينيين، وتفكيك ما تبقى من مؤسساتها الديمقراطية، وبناء منظومة قائمة على تفوق اليهود، والهيمنة العسكرية، وتمجيد العنف.

وأشار إلى سرعة تبنّي قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي لفكرة “ترحيل سكان غزة”، التي طرحها مؤخرًا الرئيس الأمريكي، موضحًا أن التاريخ يُصنع غالبًا على أيدي الأقلية النشطة حتى لو لم تتجاوز 10%، بينما تظل الأغلبية صامتة.

لكن هذه الافتراضات بحاجة إلى مراجعة، فدولة الاحتلال لم تكن يومًا كما يصورها هراري: لا ديمقراطية ولا أخلاقية في جوهرها.

بل إن تأسيسها نفسه قام على تهجير نحو 750 ألف فلسطيني عام 1948، ومنذ ذلك الحين بَنَت نظامًا قضائيًا يُكرّس تفوق اليهود، ومنذ خطة التقسيم، لم تتوقف دولة الاحتلال عن التوسع.

ومع ذلك، فإن هراري مصيب في توصيفه لتحوّل أخلاقيات اليهودي الإسرائيلي من دولة ترفع شعار “البقاء” إلى كيان يسعى علنًا إلى التوسع، دون أي تبرير سوى القوة العسكرية المطلقة.

صراع داخل الصهيونية

هذا التحول ينعكس في الشارع الإسرائيلي، فمئات الآلاف خرجوا مؤخرًا في مظاهرات تطالب بإنهاء الحرب، لكن خلف الشعارات برز انقسام أعمق: انقسام داخل الصهيونية نفسها.

فمن جهة، هناك تيار يريد استعادة المنظومة الأخلاقية “الدولة الباقية على قيد الحياة”، أي إنهاء الحرب، وإعادة صورة دولة الاحتلال كدولة لا تتخلى عن أسراها، وتتماهى مع الغرب. 

ومن جهة أخرى، هناك تيار يتبنى الصهيونية التوسعية، ممجّدًا القوة والنمو الإقليمي، لكن العقلية المفرطة في العسكرة حتى داخل صفوف المعارضة تكشف أن أخلاقيات التوسع قد فرض هيمنته.

وعلى عكس ما يذهب إليه هراري بأن دولة الاحتلال تُعيد تشكيل اليهودية، فإن التحوّل الحقيقي هو داخل السياسة اليهودية ذاتها.

الصهيونية الجديدة: النكبة المتكررة للفلسطينيين

منذ البداية، توسعت دولة الاحتلال جغرافيًا عبر محو الفلسطينيين، وبالرغم من ذلك، شهد المجتمع اليهودي توسعًا داخليًا في الحقوق ليشمل اليهود من الدول العربية والإسلامية، والنساء، ومجتمع المثليين لكن هذه الشمولية توقفت عند حدود الهوية اليهودية.

وتعكس الحركة الاحتجاجية الحالية هذا التناقض، فهي تتجاهل الكارثة الإنسانية التي يعيشها الفلسطينيون في غزة والضفة الغربية المحتلة. 

والواقع أن هذا الصمت ليس استثناءً، بل هو سمة ثابتة للصهيونية، التي حرمت الفلسطينيين باستمرار من حقوقهم الأساسية.

وكما قال رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، اللواء أرنون هاليفا: “لكل ما حدث في 7 أكتوبر، لكل شخص قُتل في 7 أكتوبر، يجب أن يموت الفلسطينيون، يحتاجون إلى نكبة من حين لآخر ليشعروا بقيمة الثمن”.

ضعف الحركة الاحتجاجية أمام سياسة الاحتلال

إن عجز قادة الاحتجاج عن إدراك أن أحداث 7 أكتوبر 2023، مهما كانت مروعة، لا يمكن أن تبرر الإبادة الجماعية أو التجويع المنهجي، يكشف عن ثغرة أخلاقية عميقة.

وقد تجاهلت هذه الاحتجاجات معظم الدعم الدولي والتعاطف الأوسع مع النضال الفلسطيني قبل 7 أكتوبر، فيما كان حلفاء دولة الاحتلال يواصلون تزويدها بالأسلحة وتمويل جرائم الإبادة. 

وبفشلها في الاعتراف بهذا الاعتماد، سمحت الحركة الاحتجاجية للحكومة بمواصلة أجندتها الحقيقية المتمثلة في إعادة تشكيل السياسة والثقافة الإسرائيلية، مع كون غزة مجرد مرحلة من مشروع توسعي إقليمي أكبر.

وعلى عكس بعض خصومها، تعرف الحكومة تمامًا ما تدور حوله الحرب، ليس غزة فقط، بل مستقبل دولة الاحتلال نفسه.

ومع اقتراب احتمال وقف إطلاق النار، من المهم تذكير من يراهنون على حركة الاحتجاج لتقديم بديل حقيقي حين تصطدم توقعاتهم بالواقع.

 ففي الوقت الذي خرج فيه آلاف المتظاهرين إلى الشوارع هذا الشهر، ظهر مقطع فيديو آخر من غزة يُظهر صاروخًا إسرائيليًا يستهدف فتاة صغيرة بلا سبب واضح. 

وكما هو الحال مع مئات الصور الأخرى، لم يرافق ذلك أي انتقاد للجيش، ولا أي اعتراف بمعاناة الفلسطينيين.

يؤكد هذا الواقع أن دولة الاحتلال منذ سنوات، تتبع سياسة تقوم على القوة والهيمنة، وأن أي احتجاج داخلي، مهما كان شعاره إنسانيًا، يجد صعوبة بالغة في كسر هذه الثقافة الراسخة التي تضع حياة الفلسطينيين في آخر الأولويات.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة