بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لقد مر ما يقرب من 18 عاماً منذ أن قدم توني بلير، مبعوث الشرق الأوسط آنذاك، وثيقة من 34 صفحة حدد فيها الخطوط العريضة لـما سمي “ممر السلام والازدهار” الذي كان يفترض أن يمتد من البحر الأحمر إلى مرتفعات الجولان المحتلة.
لا يمكن تطهير غزة من حماس، مثلما لا يمكن تطهير إنجلترا من الإنجليز أو فرنسا من الفرنسيين، فلم تكن لتكون هناك عملية سلام في أيرلندا الشمالية دون موافقة الجيش الجمهوري الأيرلندي
كانت تشمل خطة بلير إقامة منطقة صناعية زراعية قرب أريحا في الضفة الغربية المحتلة لتسهيل نقل البضائع إلى الخليج عبر الأردن، كما كان من المقرر إنشاء منطقة صناعية أخرى أو “مشروع سريع الأثر”، في ترقوميا في الخليل وثالثة في الجلمة شمال جنين.
لم تكن تلك التفاصيل جديدة بأي حال، فقد نصت اتفاقيات أوسلو، الموقعة بين عامي 1993- 1995، على إنشاء ما يصل إلى 9 مناطق صناعية على طول الخط الأخضر من جنين في الشمال إلى رفح في غزة.
أما بلير، والذي كان منتشياً بدعم السلطة الفلسطينية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية واليابان آنذاك، فقد أعلن قائلاً: “إذا نجحت الحزمة المذكورة أعلاه، فسوف يتبعها المزيد من هذه العروض، وبهذه الطريقة، ومع مرور الوقت وبالتدريج، يصبح من الممكن رفع ثِقَل الاحتلال، ولكن على نحو لا يعرض أمن إسرائيل للخطر”.
وأضاف: “إنني على قناعة راسخة بأن هذه الخطوات سوف تسهل أيضاً المفاوضات الجارية بين الطرفين، والتي تهدف إلى تحقيق اتفاق سلام قابل للتطبيق ودائم بين البلدين، اللذين يعيشان جنباً إلى جنب في سلام وازدهار”.
اليوم، لم يتبقَ سوى القليل من المنطقة الصناعية التي أنشأها بلير عند معبر الجلمة مع إسرائيل، فعلى مدار سنوات، ظل الموقع المسور خالياً، إلى أن حاولت السلطة الفلسطينية، بدعم من المستثمرين الأتراك، إنشاء “مدينة صناعية” في جنين، والآن، لم يبقَ إلا عدد قليل من الطرق والمستودعات.
في عام 2008، ادعى بلير أن لخطته الفضل في خفض عدد حواجز الطرق في الضفة الغربية المحتلة، والتي بلغ عددها آنذاك حوالي 600 حاجز، واليوم هناك 898 نقطة تفتيش عسكرية، بما في ذلك العشرات من البوابات التي تغلق البلدات والقرى الفلسطينية معظم اليوم، مما جعل الحياة الاقتصادية مختنقة بالكامل.
علاوة على ذلك، فإن ميليشيات المستوطنين أصبحت تجوب الأرض وتروع البلدات الفلسطينية وتطرد الفلسطينيين من مساحات واسعة من الأراضي التي تطالب بها “مزارع الرعاة” غير القانونية بالتنسيق مع وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريش، والذي تولى السيطرة على الإدارة المدنية في الضفة الغربية المحتلة.
تمهيداً للضم
يُنظر إلى كل هذا على أنه مقدمة للإعلان المتوقع عن ضم إسرائيل للمنطقة (ج)، التي تضم حوالي ثلثي الضفة الغربية، فقد أصبح أكثر من 40 ألف فلسطيني بلا مأوى بسبب هدم مخيمات اللاجئين في جنين وطولكرم ونور شمس، في عملية للجيش الإسرائيلي تسمى “الجدار الحديدي”، والتي دخلت شهرها الثامن الآن.
في عام 2009، تلقى بلير جائزة عن خطته التي ولدت ميتة، جائزة قيمتها مليون دولار لـ “القيادة”، وقد ذهب معظمها إلى مؤسسته الخاصة “للتفاهم الديني”.
اليوم، وبعد 23 شهراً من الإبادة الجماعية والتدمير في غزة، عاد بلير إلى العمل، فأعاد تقديم نفسه بعد ما يقرب من عقدين من الزمن باعتباره يداً محنكة في الشرق الأوسط!
بحسب ما ورد، فقد كان يقدم المشورة للبيت الأبيض ويتحدث مع صهر دونالد ترامب، جاريد كوشنر، حول خطة الرئيس الأمريكي الأخيرة لغزة، والتي تم تسريبها في 38 صفحة تعرض رؤية لغزة ما بعد الحرب.
منذ أكتوبر عام 2023، أصبحت غزة بمثابة مختبر للموت في القرن 21، وذلك من خلال تقديم دروس مرعبة في كيفية إعادة كتابة قواعد الحرب وكيفية استخدام الطائرات بدون طيار والروبوتات لتعظيم الأضرار الجانبية وكيفية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي لتحديد الأهداف وكيفية استخدام نقاط توزيع المجاعة والمساعدات لكسر إرادة الشعب في المقاومة وكيفية تفكيك أنظمة الصحة والتعليم وكيفية جعل أمة بأكملها بلا مأوى.
كان الطبيب النازي، جوزيف منجيل، الذي أجرى تجارب مميتة على السجناء في أوشفيتز، سيعترف بالعديد من معايير الأداء لديه باعتبارها إنجازات.
والآن، هناك تجربة إنسانية أخرى على وشك أن تجرى على الفلسطينيين في غزة، مع التركيز على كيفية بناء “مشاريع ضخمة” على طراز دبي تبلغ قيمتها 324 مليار دولار على قبورهم!
أباطرة غزة
ربما يكون ما يلفت الانتباه في هذه الخطة هو وحشيتها، فهي تخلو من أي اعتراف بغزة كوطن فلسطيني، وبهذا يكون مؤلفوها قد تراجعوا إلى المعايير الأخلاقية لروسيا القيصرية، وإلى ما حدث في أحد الحقول خارج موسكو بعد 4 أيام فقط من تتويج القيصر نيقولا الثاني.
تجمع ما يصل إلى نصف مليون روسي في خودينكا للحصول على طعام مجاني وهدايا من الإمبراطور، وعندما انتشرت شائعات مفادها أنه لم يكن هناك ما يكفي من البيرة والمعجنات للجميع، وأن الأكواب المطلية بالمينا كانت تحتوي على عملات ذهبية، حدث تدافع قُتل فيه أكثر من 1200 شخص وأصيب ما يصل إلى 20 ألف آخرين، ولكن لا يهم، فقد مضى الإمبراطور والإمبراطورة قدماً في خططهما، فظهرا أمام الحشود على شرفة جناح القيصر في وسط الميدان، وفي ذلك الوقت تم إزالة الجثث.
هذا يعادل الطريقة التي يتصرف بها أباطرة اليوم تجاه السكان الجائعين والمحتضرين في غزة، حيث يعتزم ترامب بناء أرض العجائب على غرار مدينة دبي على قبور 63 ألف فلسطيني على الأقل، ويمتد هذا الإجرام السيكوباتي وفقدان التعاطف إلى الأحياء والأموات على حد سواء، ذلك أن “الجنة” المفترضة لن تكون “خالية من حماس” فحسب، بل وسيطرد منها أغلب الفلسطينيين أيضاً.
في الواقع، كلما زاد عدد الفلسطينيين الذين يغادرون، أصبح المشروع أرخص، فمقابل كل فلسطيني يغادر، تحسب الخطة أنه سوف يتم توفير 23 ألف دولار، أي مقابل كل 1% من السكان الذين ينتقلون، هناك توفير بقيمة 500 مليون دولار، ولحث الفلسطينيين في غزة على مغادرة أراضيهم، تقترح الخطة منح كل شخص 5000 دولار ودعم إيجاره في بلد آخر لمدة 4 سنوات، بالإضافة إلى طعامه لمدة عام واحد.
يُعتقد أن واضعي الخطة إسرائيليون، فبحسب ما ورد، كان الاقتراح بقيادة مايكل أيزنبرغ، وهو رأسمالي أمريكي إسرائيلي، وليران تانكمان، رجل أعمال إسرائيلي في مجال التكنولوجيا وضابط استخبارات عسكرية سابق.
ما هو المكان الذي قد يخصص في ريفييرا غزة في عهد ترامب لإقامة نصب تذكاري لأكثر من 63 ألف فلسطيني قتلوا و 160 ألف جرحوا في الإبادة الجماعية الإسرائيلية؟! وماذا سيسميه ترامب؟! نصب تذكاري للمحرقة الفلسطينية أنشأه نظام نتنياهو؟!
كان أيزنبرغ وتانكمان جزءاً من مجموعة من المسؤولين ورجال الأعمال الإسرائيليين الذين وضعوا تصوراً لأول مرة لمؤسسة غزة الإنسانية (GHF) في أواخر عام 2023، بعد أسابيع 7 أكتوبر، وفقاً لصحيفة نيويورك تايمز.
ويعتقد أن المسودة الأولى لخطة إعادة تطوير غزة قد تم الانتهاء منها في إبريل الماضي وتقديمها إلى إدارة ترامب، ومن غير المعروف ما إذا كان هذا الاقتراح قد نوقش خلال الاجتماع الأخير بين كوشنر وبلير، وكلاهما كانا يطرحان أفكاراً مماثلة، لكن اتجاه الفكرة واضح.
محكوم عليها بالفشل
يتعين على بلير أن يدرك أن أي خطة مبنية على جعل غزة “خالية من حماس” محكوم عليها بالفشل، ويتعين عليه أن يتذكر أيامه كرئيس للوزراء والجهود التي بذلتها حكومته للتفاوض مع الجيش الجمهوري الأيرلندي.
لكم أن تتخيلوا لو أن شخصاً ما جاء إليه بفكرة لنزع الطابع الجمهوري عن منطقة شورت ستراند، موطن جيش التحرير الوطني الأيرلندي، أو منطقة غرب بلفاست بأكملها كشرط مسبق للسلام، ولكن من حسن الحظ أن الاتجاه الذي سلكه رؤساء الوزراء البريطانيون الثلاثة، مارجريت تاتشر وجون ميجور وتوني بلير، في عملية السلام كان عكس ذلك تماماً.
لقد كان الاعتراف بأن دبلن كان لها دور في الشمال بمثابة إنجاز لتاتشر، ثم أعقب ذلك إجراء محادثات مباشرة مع الجيش الجمهوري الإيرلندي تحت قيادة ميجور، الذي قام بمعظم العمل، حيث شمل ذلك سلسلة من الاجتماعات التي عقدت في ديري بين مايكل أنكرام، الذي كان حينها وزيراً بريطانياً في حكومة ميجور وزعيم الجيش الجمهوري الإيرلندي مارتن ماكغينيس.
بعد سنوات عديدة، أخبرني أنكرام عن تلك اللقاءات بتفصيل كبير وبكثير من المرح، مشيراً إلى أن وجودهم كان يتحدى تماماً خط الحكومة في ذلك الوقت، بأن بريطانيا لا تتحدث مع من تصنفهم كإرهابيين.
بدأ الجيش الجمهوري الأيرلندي عملية الخروج من الخدمة بعد أن وعدت بريطانيا بإطلاق سراح السجناء الجمهوريين من سجن ميز، وعندما تم منح ضمانات سياسية لتقاسم السلطة في ستورمونت كجزء من اتفاقية الجمعة العظيمة.
بعد ذلك، أصبح ماكغينيس وخصمه اللدود إيان بيزلي، رئيس الحزب الوحدوي الديمقراطي آنذاك، حلفاء، وكان هذا هو شعورهم المتبادل، لدرجة أنهم أصبحوا معروفين باسم “أخوة الضحكة المكتومة”.
ما لو قمنا بتطبيق الصيغة التي جلبت السلام إلى أيرلندا الشمالية على غزة وحماس، ما الذي قد يحصل؟
سوف تكون هناك محادثات مباشرة مع حماس حول إطلاق سراح الرهائن والإفراج الجماعي عن الأسرى الفلسطينيين، تليها محادثات مع كل جماعات المقاومة حول تشكيل حكومة تكنوقراط، إلى جانب عودة كافة وكالات المعونة التابعة للأمم المتحدة وإنهاء الحصار وتدفق دولي ضخم للأموال والخرسانة لإعادة البناء، وفي الأمد البعيد تستطيع حماس أن تعرض “الهدنة” أو التوقف إلى أجل غير مسمى للصراع المسلح.
هذه هي الصيغة الأيرلندية لو طبقت على غزة، ولكن المسار المعاكس تماماً يجري اتخاذه الآن على الأرض، وذلك لأن كل التفكير في قضية فلسطين يُنظَر إليه من خلال منظور الحاجة إلى الدفاع عن دولة إسرائيل الآخذة في التوسع وتسليحها.
إقصاء حماس
لم يكن من الممكن تحقيق السلام في أيرلندا الشمالية دون مشاركة دبلن وواشنطن بشكل حقيقي وفاعل، أما في الحالة الفلسطينية، فالولايات المتحدة تشكل الداعم الرئيسي لإسرائيل الكبرى والعقبة الرئيسية أمام السلام المستدام.
لقد تم إقصاء حماس من العملية السياسية الأوسع نطاقاً منذ فازت الحركة في الانتخابات الحرة الأخيرة التي جرت في فلسطين في عام 2006، فأصبحت مهمة بلير في هذا الصدد أسهل كثيراً بفضل سلوك السلطة الفلسطينية وزعماء كل الحكومات العربية، فهو ليس وحده الذي يحاول تطبيق حل ضد إرادة الشعب الفلسطيني.
قبل 10 سنوات، كنت قد كشفت عن لقاء جمع بلير بخالد مشعل، مدير المكتب السياسي لحركة حماس آنذاك، حيث عقد اثنين من تلك الاجتماعات في الدوحة عندما كان بلير لا يزال مبعوثاً، لكن اللقاءات استمرت لبعض الوقت بعد أن ترك منصبه.
حاول بلير، برفقة جهاز MI6، الحصول على الفضل في وثيقة تأسيسية منقحة لحماس تعترف بحدود إسرائيل عام 1967، وعرض نقل الوثيقة إلى واشنطن حسبما أخبرتني مصادر فلسطينية، ولذلك فقد كان من الطبيعي أن ترفض حماس محاولة بلير إقحام نفسه في شأن داخلي.
على أية حال، اعتبرت اللقاءات في ذلك الوقت بمثابة اعتراف بفشل محاولة إقصاء حماس من الحكومة، ومن المحادثات حول مستقبل فلسطين.
على مدى الأشهر 23 الماضية، حاولت إسرائيل أن تحقق بالقوة ما فشلت في تحقيقه خلال 17 عاماً من الحصار الوحشي ونوبات القصف، واليوم، أصبح بلير رجلاً ثرياً آخر، يشعر براحة تامة برفقة أصحاب الملايين الآخرين مثل كوشنر.
لم تعد مليون دولار تعني الكثير لبلير اليوم، فقد كانت الإخفاقات المتسلسلة في الشرق الأوسط عملاً مربحاً له، الأمر الذي جعل خطة رئيس الوزراء السابق بوريس جونسون للإثراء الذاتي بعد توليه منصباً أمراً مخجلاً.
أنا متأكد من أن هذه الخطة لغزة أو أي مخطط آخر يتم حياكته على حساب الشعب الفلسطيني، سوف تلقى نفس مصير كل المشاريع الأخرى التي ولدت ميتة.
لا يمكن تطهير غزة من حماس، مثلما لا يمكن تطهير إنجلترا من الإنجليز أو فرنسا من الفرنسيين، فلم تكن لتكون هناك عملية سلام في أيرلندا الشمالية دون موافقة الجيش الجمهوري الأيرلندي، وحتى معها، لا تزال هناك مجموعات منشقة نشطة حتى اليوم.
لن تعمل أي حكومة فلسطينية بعد الحرب في غزة دون موافقة حماس، سواء كانت صريحة أو ضمنية، وهذه هي الحقيقة الوحيدة على الأرض التي أثبتتها 23 شهراً من المقاومة.
علاوة على ذلك، رغم كل الخطط المذهلة للموانئ والمطارات والمدن ذات ناطحات السحاب الدوارة ونظام الطرق المليء بطرق محمد بن سلمان الدائرية السريعة، إلا أن هناك تفصيلة صغيرة مفقودة.
ما هو المكان الذي قد يخصص في ريفييرا غزة في عهد ترامب لإقامة نصب تذكاري لأكثر من 63 ألف فلسطيني قتلوا و 160 ألف جرحوا في الإبادة الجماعية الإسرائيلية؟! وماذا سيسميه ترامب؟! نصب تذكاري للمحرقة الفلسطينية أنشأه نظام نتنياهو؟!
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)