بقلم مارتن شو
ترجمة وتحرير مريم الحمد
لقد جاء تقرير الأمم المتحدة الجديد الذي يتهم إسرائيل بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية ليعزز إجماعاً دولياً استغرق عامين ليصبح رأياً سائداً وحقيقة ساحقة، فرغم شراسة العنف الذي مارسته إسرائيل ضد غزة منذ البداية، إلا أن كثيرين كانوا يعتقدون في ذلك الوقت أن الضرر كانت تجاوزات حرب وليس إبادة.
عندما اتهم الخبراء، وأنا منهم، إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في أواخر عام 2023، حتى بعد أن اعترفت محكمة العدل الدولية بوجود خطر معقول بوقوع إبادة جماعية في يناير عام 2024، ظل كثيرون ممن انزعجوا من تصرفات إسرائيل مترددين في الاعتراف بذلك، فقد صرح مؤرخ المحرقة الإسرائيلي الأمريكي عمر بارتوف بأن الفكرة “كانت نتيجة آلمني الوصول إليها وقد قاومتها قدر استطاعتي”.
لا تزال معظم الحكومات الغربية مصممة على عدم الموافقة على توصيف الإبادة الجماعية، حتى عندما تنتقد إسرائيل، وهنا لا يشكل الخلاف خياراً صادقاً، بل هو وسيلة لتجنب القيام بأي شيء جدي لوقف العنف الإسرائيلي في غزة
والآن بعد أن أصبح هناك اتفاق واسع النطاق حول وجود إبادة جماعية في غزة، ماذا نفعل بأولئك الذين ما زالوا “يختلفون” في ذلك؟!
من الواضح أن الإبادة الجماعية مصطلح قانوني، ورغم تعريفها بكل بساطة في اتفاقية الإبادة الجماعية، إلا أن أحكام محكمة العدل الدولية أدت إلى تعقيد تفسيرها، حيث لا يزال لدى بعض المراقبين تحفظات فنية حول تطبيقها القانوني.
ومع ذلك، فإن معظم الذين لا يتفقون مع هذا الرأي لا يهتمون في المقام الأول بالأمور الفنية، حتى لو استخدموا الحجج الفنية، فأولئك الذين كانوا يقولون: “أنا قلق مما تفعله إسرائيل ولكني لست متأكداً من أنها إبادة جماعية”، يتفقون الآن على أنها إبادة جماعية أو على الأقل “سوف يتركون الأمر للمؤرخين للمناقشة”.
أما السياسيين والإعلاميين والمتحدثين الذين يرفضون حتى اليوم الموافقة على تسمية الإبادة الجماعية، فهم في الغالب أولئك الذين لا تروعهم تصرفات إسرائيل، بل في الواقع، من السهل جداً اختبار ما إذا كان “الخلاف حول الإبادة الجماعية” أمراً تقنياً حقاً، أو ما إذا كان يرقى إلى مستوى إنكار الفظائع التي يصفها!
جرائم ضد الإنسانية
إذا كان أي مراقب صادق لحقوق الإنسان قد قام حقاً بقياس تصرفات إسرائيل على مدى العامين الماضيين، فلابد وأن يتفق بسهولة على أنها مذنبة بارتكاب جرائم واسعة النطاق ضد الإنسانية وجرائم حرب.
أما منكر الإبادة الجماعية علناً حتى اليوم، فهو في الغالب شخص لا يغضب إزاء استخدام التجويع كوسيلة للحرب والهجمات المتعمدة على السكان المدنيين والقتل والاضطهاد وغير ذلك من الأعمال اللاإنسانية، وهي الاتهامات التي يواجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في المحكمة الجنائية الدولية.
من جهة أخرى، بما أن إنكار “الإبادة الجماعية” يعني إنكاراً لكامل أهوال الفظائع الإسرائيلية، فليس هناك أي قيمة للتراجع عن تهمة الإبادة الجماعية التي تجمع جرائم إسرائيل، مما يجبر الجميع على النظر إلى سياستها الشاملة بطريقة شمولية (ولهذا السبب قال المحامي اليهودي رافائيل ليمكين لأول مرة إننا بحاجة إلى جريمة إبادة جماعية).
وعند إصدارها أوامر الاعتقال ضد نتنياهو ووزير دفاعه السابق، يوآف غالانت، قالت المحكمة الجنائية الدولية نفسها بأن الجرائم المنفصلة المدرجة كانت جزءاً من “هجوم واسع النطاق وممنهج ضد السكان المدنيين”.
ومن السهل بمكان اليوم أن نرى فظائع إسرائيل العديدة، كما يؤكد تقرير الأمم المتحدة الجديد، هي جزء من سياسة عامة مقصودة لتدمير المجتمع الفلسطيني في غزة.
علاوة على ذلك، يأتي الاعتراف بالإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل مصحوباً بالتزام عالمي، حيث على جميع الدول الـ 153 التي وقعت على اتفاقية الإبادة الجماعية منع هذه الجريمة والمعاقبة عليها، وحتى الآن، لم تتخذ إجراءات قوية لمحاولة وقفها، رغم أن جنوب أفريقيا تستحق التقدير لقضيتها الرائدة في محكمة العدل الدولية.
لا تزال معظم الحكومات الغربية مصممة على عدم الموافقة على توصيف الإبادة الجماعية، حتى عندما تنتقد إسرائيل، وهنا لا يشكل الخلاف خياراً صادقاً، بل هو وسيلة لتجنب القيام بأي شيء جدي لوقف العنف الإسرائيلي في غزة، حيث تظل هذه الدول متحالفة مع إسرائيل وتمنحها دعماً ضمنياً، مما يعرض قادتها لتهم محتملة بالتواطؤ، بل وحتى التآمر لارتكاب أعمال إبادة جماعية.
فراغ أخلاقي
وفي مثال المملكة المتحدة يظهر الفراغ الأخلاقي الناجم عن “الخلاف” الغربي الرسمي بشكل صارخ، فمع تزايد وضوح فداحة التصرفات الإسرائيلية، يظل موقف حكومة حزب العمال، الذي أعيد تأكيده في وقت سابق من هذا الشهر، هو أنها “لم تتوصل إلى استنتاج” مفاده أن إسرائيل تتصرف بنية الإبادة الجماعية في غزة.
وهذا خطاب مشوش ولكن يكشف الحقيقة، فرغم تفسير البعض له على أنه إنكار مباشر، إلا أنه يظهر في الواقع أنه في حين أن الحكومة لن تعترف بالإبادة الجماعية الإسرائيلية، إلا أنها لا تستطيع أيضاً حمل نفسها على إنكارها بشكل مباشر، بل تريد بدلاً من ذلك أن تتجنب بشكل دائم التوصل إلى نتيجة، بل وحتى اللجوء إلى حجج واهية، مثل القول بأن الأمر من اختصاص المحاكم الدولية، وهو ما يسخر من ضرورة قيام الدول الموقعة بـ “منع” الإبادة الجماعية بشكل فعال.
في الواقع، يدرك الوزراء جيداً المخاطر القانونية التي ينطوي عليها الأمر، حيث شعر ديفيد لامي، وزير العدل الحالي، والذي وقع على البيان الأخير، بالحرج من التعليقات غير المدروسة في عام 2024.
إضافة إلى ذلك، فإن المدعي العام، ريتشارد هيرمر، والذي يقدم نفسه على أنه مؤيد للقانون الدولي، يدعي أن سياسة الحكومة، على سبيل المثال، فيما يتعلق بتزويد إسرائيل بالأسلحة، تتحدد على أساس القانون فقط، ولكن عدم التوصل إلى قرار بشأن واجب منع الإبادة الجماعية، بعد عشرين شهراً من تحذير محكمة العدل الدولية من المخاطر، لا يشير إلى خيار قانوني فني!
وفوق كل شيء، فإن رئيس الوزراء كير ستارمر نفسه، الذي قام قبل 11 عاماً فقط بمحاكمة قضية إبادة جماعية أخرى أمام محكمة العدل الدولية، يدرك جيداً أن غزة هي قضية إبادة جماعية أيضاً، ولهذا السبب، ورغم عدم موافقته على تهمة الإبادة الجماعية، إلا أنه لم يقدم أي تفسير على الإطلاق.
ومع تدمير مدن غزة بالكامل وتوجيه السكان الباقين على قيد الحياة نحو معسكرات الاعتقال ومواجهة الطرد، اختفت الأرضية الوسطى بين تأييد ومعارضة الإبادة الجماعية. ولذلك بعد مرور عامين، فإن انتقاد إسرائيل الذي لا يزال “يختلف” مع تهمة الإبادة الجماعية لا يمثل أكثر من مجرد تواطؤ في الفظائع التي ترتكبها إسرائيل.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)