حين يُفرض الرحيل: صحفيو غزة يودّعون منازلهم تحت القصف

بين الموت والنزوح.. يجد صحفيو غزة أنفسهم أمام قرار مستحيل: إما البقاء تحت القصف أو مغادرة المدينة التي يجري اقتلاعها من جذورها.

“بِع أثاثك: السرير في غرفتك، الخزانة، المكتبة – بِع كل شيء”، هكذا ببساطة نصح يوسف صديقه الصحفي الفلسطيني أحمد الدرملي بينما كان يحزم أمتعته استعدادًا لمغادرة غزة.

لكن الدرملي، وهو أحد أبرز مراسلي ميدل إيست آي في غزة، ردّ بمرارة متسائلاً: “ومن سيشتريها؟”،  ليجيبه يوسف: “بِعها حطبًا”.

حينها، استعاد الدرملي الذكريات وقال: كيف لي أن أحطم السرير الذي كانت تنام عليه أمي – غرفتي، وذكرياتي – لأبيعه حطبًا؟،  فيأتيه الرد الأخير: “أفضل من أن يُدفن تحت الركام”.

هذا الحوار، الذي يبدو وكأنه من رواية ديستوبية، يعيشه يوميًا مليون إنسان في غزة، بعد أن حوّلتهم غارات جيش الاحتلال إلى مشرّدين في وطنهم.

قصف بلا توقف

في منتصف أغسطس/آب، شنّت دولة الاحتلال حملة قصف مكثّفة على مدينة غزة، تبعتها عملية برية واسعة مطلع الشهر الجاري، في محاولة واضحة – بحسب فلسطينيين – لإفراغ المدينة من سكانها، أي تنفيذ عملية “تطهير عرقي” كاملة، قبل احتلالها.

استخدم جيش الاحتلال عشرات الروبوتات المفخخة القادرة على نسف أحياء سكنية كاملة بتفجير واحد عن بُعد، وفي الوقت ذاته، جرى تسوية أبراج سكنية تضم آلاف المدنيين بالأرض، لدفع أكبر عدد ممكن من الأهالي نحو جنوب القطاع.وجاءت التقديرات في هذا الشأن متضاربة، إذ يؤكد مسؤولون فلسطينيون أن 300 ألف شخص نزحوا بالفعل، بينما تدّعي دولة الاحتلال أن العدد يقترب من 600 ألف.

بين الرحيل والموت

لكن، ورغم الأرقام، يبقى الخيار شبه مستحيل: إمّا البقاء في منازلهم مع خطر الموت تحت القصف أو الاجتياح، أو الرحيل جنوبًا مع احتمال ألا يعودوا أبدًا.

يلخص الصحفي أحمد الدرملي المأساة بقوله: “جهّزنا حقائبنا وملابسنا، لكن القرار صعب: ماذا نأخذ وماذا نترك؟ أنظر إلى جدران بيتي، حتى المصباح، ينفطر قلبي على التفاصيل الصغيرة،  وفكرة التشرد وعدم امتلاكي  بيت بعد اليوم باتت تطاردني أينما ذهبت”.

ويستعيد الدرملي سنوات الحرب قائلاً: “لم أغادر غزة قط، خلال الاجتياحات تنقلت من حي إلى آخر، من حي الصحابة إلى تل الهوى، ومن هناك إلى الجلاء، وأجدني أتساءل: هل سيدخلون كل المدينة دفعة واحدة؟ هل سيقتلون كل من يجدونه؟ لا أعرف”.

وداع بلا عودة

أما مها الحسيني وهي صحفية حائزة على عدة جوائز والمراسلة الرئيسية لموقع ميدل إيست آي  في غزة، عاشت بدورها مأساة القرار المستحيل.

فمع اقتراب دبابات الاحتلال والروبوتات المفخخة من حي تل الهوى حيث تسكن، انتقلت إلى حي آخر داخل المدينة، لكنها رفضت النزوح جنوبًا، بعد أن خبرت قسوة الحياة هناك خلال العام الأول للحرب.

وتقول مها: “في المرة الأولى من النزوح، اعتقدنا أنه سيستمر ساعات أو أيام قليلة ثم نعود، لكنه استمر عامًا ونصف، و لم يكن الشعور حينها قاسيًا، لأننا صدّقنا أننا سنعود. أما الآن فنحن ندرك أننا نودّع شوارع غزة ونحن نمشيها، ونلقي السلام الأخير على أحيائها”.

وتضيف: “حين تغلق باب بيتك للمرة الأخيرة، هنا تدرك أنك تعيش لحظة الوداع الأخير: ذلك الشعورأنك لن تعود لترى بيتك مجددًا، الأمر قاسٍ جدًا، أعيش حالة من الإنكار، خاصة بعد أن غادر معظم من حولي وأصبحت المدينة تفرّغ شيئًا فشيئًا”.

ورغم تصاعد الخطر، تصر مها على البقاء “حتى آخر نَفَس”، وتقول: “لا نعرف متى ولا كيف سيكون هذا النفس الأخير، ونقول دائمًا: سنبقى حتى اللحظة التي يصبح فيها البقاء مستحيلًا – ثم نغادر، لكنني بصدق لا أعلم كيف سأرحل أو إلى أين، لم يتبق مكان في المدينة، والمنطقة التي يريدون حشرنا فيها صغيرة جدًا”.

وتتابع: “الشوارع خالية، لم تعد غزة كما كانت، لقد كانت غزة نابضة بالحياة، اليوم بالكاد ترى أحدًا، عاجلًا أو آجلًا، سأضطر للمغادرة، سيأتي يوم – رغماً عن إرادتي – أغادر فيه غزة. أحاول فقط أن أمدّد هذه اللحظة، أن أبقى أطول، أن أتنفس غزة أكثر”.

لكن بعد أيام فقط من هذه المقابلة، اضطرت مها الحسيني إلى النزوح جنوبًا، بعدما نفدت الملاذات الآمنة في غزة.

بقلم لبنى مصاروة وحذيفة فياض 

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا

مقالات ذات صلة