رحيل ديفيد هيرست: صوت الصحافة الحرة الذي لم يساوم على الحقيقة

بقلم فكتوريا بريتين

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

بملامحه الهادئة وأسلوبه الأكاديمي يخفي صديقي ديفيد هيرست وراءه التزامًا صارمًا بالصحافة الجادة، القائمة على العمل الشاق والحياد الصارم في تناول قضايا الشرق الأوسط، لقد رحل هذا الأسبوع في أحد مستشفيات فرنسا، تاركًا وراءه إرثًا صحفيًا استثنائيًا امتد لأكثر من أربعة عقود عبر صفحات صحيفة الغارديان.

لم يحظَ أي مراسل غربي في المنطقة بمثل ما حظي به هيرست من شبكة المصادر التي وثقت به، ولا بلغ عمق البحث والدراسة الذي ميّزه، وبرغم هدوئه الظاهر، إلا أن قلمه كان شديد الوضوح والجرأة في فضح الحقائق، ما جعله عرضةً لانتقادات مريرة من حكومات المنطقة، وبالأخص من دولة الاحتلال التي لم تكف عن مهاجمته.

داخل الغارديان، كانت زياراته النادرة إلى مقر الصحيفة بمثابة حدث خاص، وحينما كان يلقي محاضرة على الصحفيين في مكتب التحرير، كان حضوره يكفي ليجعل منه سلطة غير قابلة للجدل، ومع ذلك، ظل يبدو غريبًا في عالم ليبرالي ضيق كان منشغلًا بشؤون وستمنستر البريطانية أكثر من انشغاله بقضايا العالم.

أما بالنسبة لي، وبعد سنوات قضيتها في سايغون والجزائر ونيروبي، كان ديفيد يجسّد ذلك “العالم الواسع” الذي عشقته، وكان العمل معه امتيازًا، فقد كان من طينة الصحفيين الكبار مثل سيمور هيرش، وآي إف ستون، وويلفريد بورشيت، وجون بيلجر، وجميعهم كما علّمني ديفيد جسّدوا المعنى الحقيقي للصحافة: العمل الدؤوب، والشجاعة في مواجهة السلطة.

شجاعة ووضوح

بهذا القلم الهادئ، كان ديفيد خصمًا عنيدًا لأصحاب النفوذ، وقد مثّل كل ما يجسّده اليوم 270 صحفيًا فلسطينيًا استهدفهم جيش الاحتلال بالاغتيال في غزة. 

وبرغم منعه المتكرر من دخول بلدان مثل مصر وسوريا والسعودية والعراق، لم تجف مصادره، فقد كان المنفى السياسي للكتّاب والفنانين والمفكرين المعارضين سمةً مشتركة في العقود التي حكمتها الأنظمة الديكتاتورية بالمنطقة، وهي حقبة وثّقها ديفيد بوضوح لا يعرف المواربة وبجرأة نادرة.

وقد كتب ذات مرة في الغارديان يوم إعدام صدام حسين على يد قوات الاحتلال الأميركي: “هو الآخر لم يكن يمتلك شيئًا من بريق طغاة القرن العشرين الآخرين، لا ذكاءً لامعًا ولا كاريزما ولا حماسة مخلصة أو نزعة مسيانية، تميّز فقط بمدى وحشيته، وبعنفه وانتهازيته ومكره الذي لم يتجاوز رتابة البيروقراطي الرمادي”.

كانت مثل هذه الأوصاف تلتصق بالذاكرة ولا تُنسى، كما في وصفه لياسر عرفات: “نزعة نرجسية معروفة، رغبة مهووسة في السيطرة الشخصية والهيمنة، تفضيله الولاء على الكفاءة”.

وضوح وجرأة نادرتين

كان أصدقاء ديفيد هيرست ومصادره شبكة واسعة من المبدعين الذين جُرّدوا من أوطانهم، وعلى رأسهم الفلسطينيون الذين ملؤوا وطنه الثاني لبنان، ومن هناك صاغ عمله الأبرز البندقية وغصن الزيتون، الذي صدر لأول مرة عام 1977، ثم أعيدت طباعته مرتين، وكان هذا الكتاب علامة فارقة، إذ قدّم سردًا تاريخيًا كاسرًا للأساطير حول مشروع الاستيطان الصهيوني ومعاملة دولة الاحتلال للفلسطينيين منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر.

ظهر هذا العمل قبل نحو عقد من بروز “المؤرخين الجدد” في دولة الاحتلال مثل إيلان بابيه وآفي شلايم، ما جعله رائدًا في كسر السرديات الرسمية، غير أن هيرست ظل يتحسر في سنواته الأخيرة لأنه لم يتمكن من إنجاز طبعة منقحة جديدة، بينما كان يرى الإبادة الجارية ضد الفلسطينيين في العامين الأخيرين تفتح فصلًا جديدًا تمامًا في المأساة.

كتب ديفيد أيضًا في العديد من الصحف العالمية إلى جانب الغارديان، مثل كريستيان ساينس مونيتور، وآيرش تايمز، ونيوزداي، وسان فرانسيسكو كرونيكل، وديلي ستار في لبنان، وكان مقاله الأخير في ميدل إيست آي في نوفمبر/تشرين الثاني 2024 بمثابة تتويج لمسيرته. 

لقد حمل ذلك المقال عنوان: “هل جنّت دولة الاحتلال؟”، حيث استخدم صراعات القرن الأول الميلادي بين اليهود واليونانيين كإطار تاريخي يقارن به انقسامات الحركة الصهيونية الدينية المعاصرة، وكتب في خاتمته: “لقد كان انقسامًا اجتماعيًا جوهريًا لا يختلف كثيرًا عن الانقسام القائم اليوم داخل دولة الاحتلال، وأسهم إسهامًا حاسمًا في الكارثة النهائية: الغزو الروماني، وتدمير الهيكل، وتشتيت الشعب اليهودي لقرون طويلة”.

إرث ممتد

قضى ديفيد عقده الأخير سعيدًا في قرية فرنسية هادئة كان يصفها بـ”أعماق فرنسا الحلوة”، وهناك كان كل مساء يجلس مع زوجته أمينة، رفيقة دربه لثلاثة عقود، لمتابعة نشرات وتحليلات قناة الجزيرة التي كان يعتبرها “جادة وصادقة بحق”.

تلك الصفات بالذات، الجدية والصدق، هي ما ميّز ديفيد هيرست وأعماله طوال حياته، وفي أسابيعه الأخيرة، صرّح بهدوء بأنه “متصالَح مع الموت”، وأضاف: “لقد عشت حياة طويلة”. 

ومع ذلك، فإن غيابه اليوم يعد خسارة مضاعفة تتمثل في غياب القلم الذي كان قادراً على توصيف الإبادة الراهنة بحق الفلسطينيين، وغياب الرجل الطيب والودود الذي سيُفتقد في دوائر أصدقائه ومحبّيه بطرق أكثر حميمية.

رحل ديفيد هيرست، لكن صوته سيبقى حاضرًا كمرجع للصحافة الجادة، وكشاهد على جرائم دولة الاحتلال، وكمدافع صادق عن قضية فلسطين.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا

مقالات ذات صلة