بقلم لورينزو فورلاني
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
لم يكن يوم الاثنين، 22 سبتمبر/أيلول يوماً عادياً في إيطاليا، بقدر ما كان لحظة تاريخية رسمت ملامح موجة جديدة من المواجهة المدنية ضد الإبادة الجماعية التي ترتكبها دولة الاحتلال في غزة.
فقد نزل عشرات الآلاف وربما مئات الآلاف من الإيطاليين من مختلف الأعمار إلى الشوارع في إضراب وطني عام غير مسبوق، وهو الأكبر منذ عقود، للتضامن مع الفلسطينيين.
ما يميز هذه التعبئة أنها لم تأت عبر النقابات الكبرى مثل CGl، بل إن النقابات القاعدية مثل Unione Sindacale di Base (USB) هي من قادتها إلى جانب منظمات طلابية مستقلة وجمعيات مدنية ومنظمة “إميرجنسي” الطبية وشبكات التضامن مع فلسطين.
وقد شهدت أكثر من 75 مدينة احتجاجات متزامنة، امتدت إلى الموانئ والطرقات السريعة ومحطات القطار والحافلات، وحتى المدارس والخدمات العامة توقفت.
ففي روما، شهدت ساحة محطة “تيرميني” المركزية إمسيرة ضخمة ضمّت 20 ألف متظاهر بحسب الشرطة، و100 ألف وفق المنظمين.
أما بولونيا فقد شهدت تظاهر عشرات الآلاف، بينما أغلق المتظاهرون منصات القطارات في تورينو، وأوقفوا الطرق السريعة في فلورنسا، وشهدت ترييستي أحداثا مشابهة.
ولم تكن هذه التعبئة الشعبية مجرد احتجاج تقليدي، بل “صحوة مدنية ضخمة لا يمكن احتواؤها”، كما وصفها مراقبون، فجّرتها مشاعر الغضب واليأس من استمرار الإبادة في غزة، وتواطؤ الحكومة الإيطالية العلني مع دولة الاحتلال.
وللمرة الأولى، بدا أن الضغط الشعبي بدأ يُحدث أثراً، إذ أعلنت البحرية الإيطالية إرسال فرقاطة “ألبينو” لمرافقة “أسطول الصمود العالمي” بعد تعرض بعض سفنه لهجمات يُرجّح أنها من طائرات مسيرة تابعة لدولة الاحتلال، وهو ما فُسّر على أنه استجابة مباشرة لزخم الشارع.
حكومة ميلوني تحت النار
ورغم ضخامة هذه الاحتجاجات، إلا أن رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني اختارت أن تختزلها في بعض أحداث الشغب المحدودة بميلانو، ووصفتها بأنها “عديمة القيمة ومخزية”، وذهبت حكومتها اليمينية إلى أبعد من ذلك، حين وصفت المتظاهرين بأنهم “متطرفون يحبون التدمير بينما يدّعون المطالبة بالسلام في غزة”.
لكن الحقيقة أن مطالب المحتجين كانت واضحة وتتمثل في فرض عقوبات على دولة الاحتلال، ووقف الاتفاقيات العسكرية والتجارية المرتبطة بالسلاح، اوالاعتراف بدولة فلسطين، ووقف العدوان فوراً، وتوسيع المساعدات الإنسانية عبر القنوات الرسمية.
واللافت أن إيطاليا ليست مجرد متفرج، بل لاعب رئيسي في تسليح دولةالاحتلال، فعبر المجموعة الدفاعية الحكومية “ليوناردو”، تُعد روما ثالث أكبر مزوّد أسلحة لتل أبيب، بعد الولايات المتحدة وألمانيا، ورغم الإعلان عن وقف إصدار تراخيص جديدة، فإن الصادرات الأصلية ما زالت مستمرة.
سياسياً، تماهت حكومة ميلوني مع أجندات اليمين الأوروبي، معززة خطاب الإسلاموفوبيا والعربوفوبيا، ومتبنية روايات عن “أسلمة أوروبا”، وصولاً إلى مراقبة المساجد وتضييق الخناق على الأصوات المناصرة لفلسطين، وحتى حين تعرّض الجنود الإيطاليون ضمن قوات “يونيفيل” في جنوب لبنان لهجمات من دولة الاحتلال، اكتفت روما بصمت مخجل.
وبلغ التواطؤ ذروته حين تجاهلت ميلوني العقوبات غير المسبوقة التي فرضتها واشنطن وتل أبيب على المقررة الأممية والمواطنة الإيطالية فرانشيسكا ألبانيز.
وفي الأمم المتحدة قبل أيام، لم تجد ميلوني بدّاً من التراجع الجزئي تحت ضغط الشارع، معلنة تأييد بعض العقوبات الأوروبية ضد دولة الاحتلال، ومعتبرة أن “الحرب قد تجاوزت الخط الأحمر”.
لكن الإيطاليين يدركون أن هذا التحوّل لا يعكس قناعة أخلاقية، بقدر ما هو محاولة لامتصاص غضب شعبي متصاعد.
إرث الموانئ: عمّال جنوى يتصدرون مقاومة الحصار على غزة
في إيطاليا، كان لعمال الموانئ وخاصة في جنوى دور محوري في التعبئة الشعبية المناهضة للإبادة في غزة، فهؤلاء الذين يُعرفون تاريخياً بلقب “الكمالّي” (مشتقة من الكلمة العربية “حمّال”)، لم يكتفوا برفع الشعارات، بل ترجموها إلى أفعال عملية منعت مرور السلاح إلى دولة الاحتلال.
وفي نهاية أغسطس/آب، ومع انطلاق أسطول الصمود العالمي نحو غزة، وجه المتحدث باسم “التجمع المستقل لعمال الموانئ” في جنوى، ريكاردو رودينو، تحذيراً شديد اللهجة لدولة الاحتلال قائلاً:
“أريد أن أوضح للجميع أنه في منتصف سبتمبر ستصل سفن الأسطول إلى سواحل غزة، إذا فقدنا الاتصال برفاقنا ولو لعشرين دقيقة فقط، سنوقف أوروبا بأكملها، هناك حوالي 14 ألف حاوية تغادر هذا الميناء سنوياً نحو 13 دولة وإذا حدث شيء لفريق الأسطول، فلن يخرج مسمار واحد من هنا”.
وبعد أيام، وافقت تصريحاته الصاخبة ما جاء على لسان زميله جوزيه نيفوي، الذي أكد لصحيفة “لا ريبوبليكا” أن تهديدات حكومة نتنياهو لا ترهبهم، وأن تصريحات بن غفير “تجسد شعور الإفلات من العقاب الذي تتمتع به دولة الاحتلال”.
في الواقع لم يكن هذا الموقف طارئاً، فمنذ مايو/أيار 2021، تحرك عمال الموانئ في جنوى لوقف شحنات صواريخ وذخائر متجهة إلى ميناء أسدود، ما أجبر الشركات على إلغاء بعض الشحنات.
وفي رافينا، أُعلن إضراب عام يوم إبحار سفينة “آسياتيك ليبرتي” المحمّلة بالأسلحة نحو دولة الاحتلال، ما أدى إلى تعطيل العملية.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وبعد شهر من بدء العدوان على غزة، نفذ عمال الموانئ اعتصامات وعمليات إغلاق للموانئ في مواجهة سفن مرتبطة بشركة الشحن “زيم” بالتنسيق مع موانئ أوروبية أخرى.
وفي يونيو/حزيران الماضي، انضم العمال إلى زملائهم الفرنسيين لوقف سفينة “كونتشيپ إيرا”، ما حال دون تحميل معدات عسكرية كانت متجهة إلى تل أبيب.
لم تكن معركة هؤلاء المحتجين مقتصرة على فلسطين، ففي 2019، رفضوا تحميل السفينة السعودية “بحري ينبع” التي اشتُبه بأنها تنقل أسلحة إلى اليمن، وأطلقوا عليها اسم “سفن الموت”، وطالبوا بتفتيشها، مؤكدين رفضهم أن تكون جنوى محطة لتمويل الحروب.
من فلسطين إلى تشيلي: تاريخ من التضامن
ويروي تاريخ “الكمالّي” في جنوى قصة طويلة من التضامن مع الشعوب المقهورة، فبعد أيام قليلة من انقلاب بينوشيه في تشيلي عام 1973، خرج المتضامنون في مظاهرة لدعم المقاومة التشيلية، كما ناهضوا حرب فيتنام، ووقفوا مراراً ضد سياسات العدوان في الشرق الأوسط.
ومن منظور مناهض للاستعمار، لا تقتصر أهمية هذه الأفعال على تعطيل شحنات الأسلحة، بل تتعداها إلى فضح “الطبيعية” التي يُراد فرضها على طرق التجارة العالمية المكرّسة للحصار والاحتلال، إنها محاولة لإعادة القوة إلى أيدي الناس العاديين، بعد أن صادرتها سياسات الحكومات المتواطئة.
واليوم، يُنظر إلى مقاومة عمال الموانئ الإيطاليين كأيقونة عالمية، تذكّر بأن التضامن الحقيقي لا يُقاس بالشعارات بل بالتضحيات.
لقد خاطروا بوظائفهم من أجل فلسطين، فيما تكشف حكومة ميلوني عن عجزها الأخلاقي وانبطاحها أمام واشنطن وتل أبيب.
لقد كشفت الاحتجاجات العارمة التي عمّت المدن الإيطالية عن فجوة هائلة بين ضمير الشعب وسياسات السلطة.
وإذا كان الـ dockers قد توعّدوا بـ”شل أوروبا” لوجستياً، فإن أوروبا السياسية والأخلاقية تبدو مشلولة فعلاً منذ زمن بعيد، عاجزة عن مواجهة جرائم الإبادة وجرأة الاستعمار.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)