بين الخديعة والخيانة: كيف منحت العواصم العربية الغطاء لصفقة الاستسلام؟

بقلم ديفيد هيرست

ترجمة موقع بالعربية

قد يذهب بعض الزعماء العرب والمسلمين إلى الزعم بأنهم تعرضوا للخداع حين منحوا موافقتهم على الخطة التي كشف عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوم الاثنين. إلا أن ما أُعلن في واشنطن بدا مختلفاً تماماً عن الصيغة التي جرى التوافق عليها في نيويورك. هذا التباين يمكن قراءته بتساهل على أنه سوء فهم، غير أن التوصيف الأدق لما حدث هو الخيانة.
إنها خيانة ارتُكبت بينما آلة الإبادة الجماعية ماضية بلا هوادة، خيانة جاء معها الضوء الأخضر الذي منحه ترامب لنتنياهو ليستمر في تنفيذ جرائمه.

غضب قطر ومصر

في الدوحة اشتعل الغضب لأن دور الوسيط انتُزع منها، ولأن ترامب رفض تأجيل الإعلان عن الخطة. أما القاهرة فاشتعل غضبها هي الأخرى بسبب تهميش السلطة الفلسطينية، وبسبب الإبقاء على القوات الإسرائيلية متمركزة في رفح وعلى طول الحدود مع سيناء. ومع ذلك، بقيت أسماء جميع هذه الدول موقعة على البيان المشترك، من دون أن يصدر عنها ما يفيد بسحب التوقيع أو التراجع عنه.

جائزة مريرة لأهل غزة

النتيجة بالنسبة إلى أهل غزة كانت بمثابة جائزة مريرة، إذ تُوِّج عامان من الصمود في وجه أعتى هجوم عسكري إسرائيلي بشيء لا يشبه سوى شكل مختلف من الاحتلال والحصار. فبينما يتغير الرأي العام الدولي بصورة غير مسبوقة ضد إسرائيل، وبينما تعترف دول أكثر فأكثر بدولة فلسطين، يضع القادة العرب والمسلمون تواقيعهم على خطة تُقبر عملياً أي أمل في قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة وسط ركام الغضب الإسرائيلي.

مفاتيح في يد نتنياهو

يمكن لحكومات الإقليم أن تزعم أنها أوقفت التهجير الجماعي وأعادت وكالات الأمم المتحدة إلى غزة، وأنها وضعت حداً للاحتلال. غير أن مفاتيح كل ذلك بقيت في يد نتنياهو، فهو من يقرر وتيرة الانسحاب، وحجم المساحة التي تسلَّم للقوة الدولية، وهو من يملك صلاحية التحكم بالمساعدات ومواد إعادة الإعمار، وكل ذلك بلا أي جدول زمني واضح.
الضمانة الوحيدة التي وفرتها الخطة هي القضاء المسبق على أي إمكانية لنهضة غزة تحت قيادة فلسطينية مستقلة.

تغييب القيادة الفلسطينية

الخطة استبعدت أي دور للقيادة الفلسطينية في إعادة إعمار غزة. بل إنها فصلت القطاع تماماً عن الضفة الغربية، وأطاحت بشكل نهائي بفكرة إعادة اللحمة بينهما. أما السلطة الفلسطينية فليست أفضل حالاً من حماس أو غيرها من الفصائل. فهي، على الرغم من كونها منزوعة السلاح أصلاً، مكلَّفة بمزيد من التنازلات: سحب القضايا من محكمة الجنايات ومحكمة العدل الدوليتين، وقف مخصصات عائلات الشهداء، تغيير المناهج، وضبط الإعلام. عندها فقط قد تنظر إسرائيل في الأمر.

لم يُستشر الفلسطينيون في أي مرحلة من مراحل صياغة الخطة. الدول الثماني (تركيا، قطر، السعودية، الإمارات، الأردن، مصر، إندونيسيا، باكستان) وافقت من دون أن تمنح الفلسطينيين فرصة للمشاركة. بل إن هذه الدول نفسها كُلِّفت بإجبار حماس على قبول استسلام لم تفلح إسرائيل في فرضه بالدبابات والطائرات.

أين الخطة العربية البديلة؟

لا وجود لخطة عربية بديلة. لا عزم على مواجهة الأطماع الإسرائيلية، بل مجرد استعراض فارغ. الفروق بين المسودة الأولى والبيان النهائي شملت إطلاق الأسرى، توزيع المساعدات، آليات الانسحاب، وتفاصيل القوة الدولية، وكلها جاءت لمصلحة إسرائيل، مانحةً إياها مزيداً من السيطرة والإفلات من الالتزامات.

أشارت “تايمز أوف إسرائيل” إلى أن جاريد كوشنر وويتكوف حملا الخطة إلى نتنياهو، وأعادوا صياغتها معاً في غرف الفنادق، فأدخلوا تعديلات جذرية منحت إسرائيل اليد الطولى. القطريون غضبوا، وحاولوا تأجيل الإعلان، لكن ترامب تجاهلهم، وهو الذي اعتاد على التراجع عن وعوده علناً من دون تردد.

أهم التغييرات تمثلت في تحويل الانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى انسحاب مشروط بنزع السلاح وإقامة غلاف أمني. كما استُبدل الالتزام بمرور 600 شاحنة مساعدات يومياً بعبارات فضفاضة عن “دعم كامل”. لم يكن مستغرباً أن يبتسم نتنياهو وهو يعلن لجمهوره: “لن نقبل شروط حماس، لن ننسحب، لن يحدث ذلك”.
وحين سُئل عن الدولة الفلسطينية، أجاب بوضوح: “قطعاً لا. ترامب قال ذلك أيضاً”.

النص النهائي لم يذكر “حق تقرير المصير”، بل اكتفى بعبارة “تطلّع الشعب الفلسطيني إلى الدولة”، والتطلع مشروط بإعادة الإعمار وإصلاح السلطة الفلسطينية، على أن تكون إسرائيل هي الحكم الأخير في العملية.

تزييف التاريخ

ترامب أعاد إنتاج رواية مشوهة عن غزة: الأنفاق، الصواريخ، “الإرهاب”، مبرراً قصف المدارس والمستشفيات والمساجد. تحدث عن “انسحاب شارون” من غزة بحثاً عن السلام، متجاهلاً الحصار الوحشي الذي بدأ منذ ذلك الحين واستمر سبعة عشر عاماً.

عاد توني بلير ليظهر مجدداً عضواً في “مجلس السلام”، الرجل الذي لعب دوراً رئيسياً في إقصاء حماس بعد انتخابات 2006، وظل مقبولاً لدى المؤسسة الإسرائيلية. اليوم يُعاد تدويره كوصي جديد على غزة، مكافأً بجوائز ومناصب رغم تاريخه الملطخ بالتواطؤ.

بالنسبة إلى حماس، الخيارات بائسة: إذا سلّمت الرهائن فلا ضمانات بوقف الحرب ولا بإطلاق الأسرى الفلسطينيين، وإذا رفضت فالعدوان مستمر بدعم أميركي كامل. أما الدول العربية، فقد تورطت كلها في الخيانة، من السعودية والإمارات والأردن ومصر إلى تركيا وقطر، جميعها فضّلت مصالحها على حساب الفلسطينيين.

بعد عامين من الإبادة، وصلت الخطة إلى تسوية أسوأ مما كان عليه الوضع قبل السابع من أكتوبر 2023. إسرائيل مُنحت ضوءاً أخضر للبقاء في غزة، للتحكم بالمعابر والمساعدات، لمواصلة اقتحامات الأقصى، وللتوسع الاستيطاني في الضفة.

نسخة جديدة من أوسلو

الخطة نسخة مشوهة من أوسلو ولكن بجرعة مضاعفة. الفلسطينيون يُسمح لهم بالعيش فقط إذا أثبتوا إذعانهم، مجردين من السلاح والسيادة، فيما يرفع المستوطنون أعلامهم فوق ما كان يوماً بيوتاً فلسطينية.

ورغم كل ذلك، لم يكن الفلسطينيون أكثر وحدة مما هم عليه اليوم. أما الحكام العرب، فردّوا على صمود غزة وتضحياتها بالخوف والجبن وتغليب مصالحهم، ليضيفوا صفحة جديدة من الخيانة في سجل القضية الفلسطينية.

للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة