بقلم مها الحسيني
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
بعد أن كثّفت دولة الاحتلال قصفها وأوامرها بإجلاء السكان قسراً من مدينة غزة، اضطر المصوّر الفلسطيني سامي داود إلى حزم أمتعته والانتقال جنوبًا بحثًا عن ملاذ آمن، واتخذ مع عائلته مأوى في خيمة بمنطقة دير البلح وسط قطاع غزة، وهي من المناطق التي وُصفت بأنها أقل خطورة داخل القطاع المحاصر الذي يفتك به الحصار والمجاعة.
لكن وخلال أسبوع واحد فقط، أغارت طائرة حربية تابعة لجيش الاحتلال على المنطقة، فأصابت خيمته بشكل مباشر، ما أدى إلى استشهاده مع ابنته وعدد من الفلسطينيين الآخرين.
وقال صديقه وزميله المصوّر يحيى برزق أن “سامي كان شديد الحرص على حماية زوجته وأطفاله وتوفير الراحة لهم أينما كانوا”.
وأضاف في حديث لموقع ميدل إيست آي: “كان يولي حماية عائلته غاية اهتمامه، خصوصًا أن زوجته لم تكن تحتمل الخوف، وكان يسعى دائمًا ليجعلها تشعر بالأمان، وكان يهتم بأطفاله كثيرًا، من ملبسهم إلى تعليمهم ونظافتهم وتربيتهم”.
وفي منتصف أغسطس/آب، أطلقت دولة الاحتلال المرحلة الأولى من هجوم واسع يهدف إلى السيطرة على مدينة غزة تمهيدًا لاحتلال كامل للقطاع، واعتُبر ذلك نقطة تحوّل في استراتيجيتها العسكرية، إذ انتقلت من أشهر من القصف الجوي المحدود إلى غزو بري شامل.
وبحلول منتصف سبتمبر/أيلول، كثّف جيش الاحتلال غاراته الجوية، وأصدر أوامر تهجير جماعي جديدة لأكثر من مليون فلسطيني في مدينة غزة وشمال القطاع، طالبًا منهم التوجه جنوبًا.
وتحت القصف المتواصل، لم يعد هناك مكان آمن في الشمال، فاضطر مئات الآلاف إلى النزوح جنوبًا، لكن كثيرين منهم، مثل داوود، قضوا في المناطق التي لجؤوا إليها، حيث لم يكن القصف أقل وطأة.
فبحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، قتلت دولة الاحتلال منذ 11 أغسطس/آب 1903 فلسطينيين في وسط وجنوب القطاع، أي ما نسبته 46% من إجمالي عدد الشهداء خلال هذه الفترة.
“قسوة لا يمكن تصورها”
كان داود يسكن في الأصل بحي الشجاعية شرق مدينة غزة، وقد نزح عدة مرات منذ اندلاع الإبادة الجماعية التي تنفذها دولة الاحتلال في القطاع منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وبعد اتفاق وقف إطلاق النار في يناير/كانون الثاني الماضي، عاد داود إلى منزله، لكنه أُجبر على النزوح مجدداً بعد شهر واحد فقط حينما نقضت دولة الاحتلال الاتفاق واستأنفت هجماتها على القطاع المحاصر.
وفي البداية، رفض داود نصائح أصدقائه ومن بينهم برزق بمغادرة منزله مجددًا، غير أنه وبعد يوم واحد فقط، نشر رسالة عبر مجموعة على تطبيق الدردشة قال فيها إنه اضطر للنزوح مع عائلته تحت القصف ولم يستطع اصطحاب شيء من مقتنياته من البيت.
ويتذكر برزق تفاصيل تلك الأحداث قائلاً: “بدأنا جميعًا بالضحك وقلنا له ألم تكن تتصرف كالبطل وتقول إنك ستبقى؟”، لكن رد داوود كان صادمًا: “لم أتخيل أبدًا مستوى الخوف والوحشية التي عشناها أنا وعائلتي”، وتابع برزق: “منذ ذلك اليوم، عزم سامي ألا يعرّض عائلته لمثل هذا الخطر مرة أخرى”.
من مأوى إلى آخر
بعد نزوحه، لجأ داود إلى برزق طلبًا للمساعدة، فدلّه على مبنى مؤلف من سبعة طوابق في غزة، نصفه مدمّر والنصف الآخر مائل بشكل خطير، لكنه كان يضم عائلات نازحة تفضّله على الخيام، فوجد شقة شاغرة وأقام فيها ثلاثة أيام فقط.
غير أن داود سرعان ما قال لبرزق: “يا يحيى، المبنى خطير، إنه يهتز مع كل قصف والأطفال مرعوبون”، ثم انتقل إلى شقة أخرى، قبل أن يقرّر في النهاية مغادرة غزة نهائيًا.
وحين وصل إلى دير البلح الشهر الماضي، كتب داود لبرزق: “ساعدني، وصلت للتو، لكنني أنام في الشارع”.
نشر برزق نداءً عامًا على الإنترنت بحثًا عمن يستضيف داود وعائلته ولو ليلة واحدة، لكنه لم يتلق أي رد، وفي تلك الليلة نام داود في العراء تقريباً، إلى أن عثر في اليوم التالي على قطعة أرض فارغة نصب فيها خيمة، معتقدًا أنها آمنة لعدم وجود سكان حوله.
لكن وبعد أسبوع فقط، استهدفت طائرة حربية خيمته، فاستشهد داود وابنته الكبرى غنَى، فيما أصيبت زوجته وابنته الوسطى.
وقد أثار استشهاد داود وابنته صدمة واسعة في أوساط الصحفيين في غزة، الذين شددوا على أن عمله لم يكن يستفز جيش الاحتلال.
فقد قال برزق: “عملنا معًا في قناة تعليمية على الإنترنت خلال جائحة كورونا، نحول المناهج الدراسية إلى دروس رقمية للطلاب والمعلمين، كان سامي مصورًا ومونتير فيديو بارعًا، هادئ الطبع متواضعًا، صاحب خلق ودين”.
استشهاد برزق
وبعد يوم واحد فقط من حديثه إلى ميدل إيست آي، استُشهد المصوّر يحيى برزق في غارة جوية لجيش الاحتلال على دير البلح، أثناء وجوده قرب مقهى كان يرفع منه مواد مصوّرة.
وقال صديقه المصوّر محمود أبو حمدة أن برزق كان قد نزح هو الآخر من مدينة غزة إلى دير البلح قبل أسبوعين فقط، وأقام خيمة فوق سطح مبنى بحثًا عن مأوى لعائلته المكوّنة من زوجة وطفلين.
وأضاف أبو حمدة: “عندما وصلني خبر استشهاده، سارعت إلى ثلاجة الموتى في مستشفى الأقصى لأودعه، رأيت بقعة دم في مؤخرة رأسه، أظن أنها إصابة بشظية”.
وليست هذه المرة الأولى التي يواجه فيها برزق الموت، فقبل عام، وأثناء تصويره تقريرًا للقناة الإخبارية التركية TRT، أطلقت طائرة مسيّرة نيرانها مباشرة عليه، فاختبأ في خيمة وواصل التصوير.
كان برزق معروفًا في غزة كمصوّر أطفال حديثي الولادة، صوّر مئات الرضّع عبر القطاع، وفي يناير/كانون الثاني، نشر مقطع فيديو يضم صور هؤلاء الأطفال الذين استشهد كثير منهم لاحقًا في غارات الاحتلال.
في ذلك الوقت كتب برزق عن الصور: “هؤلاء أطفال التقطت صورهم في استوديو صغير، شهدت ضحكاتهم وحب أهاليهم لهم، لكنهم قُتلوا في لحظة واحدة”.
وأضاف: “أتمنى أن تنتهي الحرب للجميع، وبالأخص للأطفال، لم أعد أحتمل رؤية معاناتهم، بكائهم، خوفهم، صراخهم وجوعهم”.
وبحسب أبو حمدة، فقد كان برزق يشعر دائمًا بأن الموت يقترب منه، “كان يقول لي إنه لا يضمن النجاة من قصف أو شظية، وأن استشهاده مجرد مسألة وقت”.
وأضاف أبو حمدة عن برزق “كان يتحدث عن التناقض المؤلم، كان يصوّر ميلاد حياة جديدة، ثم وجد نفسه اليوم يوثّق الموت في غزة”.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)