غزة تلتقط أنفاسها: وقف إطلاق النار في غزة ومعركة العدالة التي لم تنتهِ

بقلم محمد فادي

منذ عامين وقطاع غزة يعيش فصولاً متواصلة من المأساة. مدن مدمّرة، بيوت تحوّلت إلى ركام، مستشفيات خرجت عن الخدمة، وأطفال يبحثون عن دواء أو لقمة في ظل حصار خانق طال كل تفاصيل الحياة. في هذه الجغرافيا الصغيرة، واجه الفلسطينيون آلة عسكرية هي من الأضخم والأكثر تسليحًا في العالم، مدعومة سياسيًا واقتصاديًا وإعلاميًا من قوى كبرى، فيما تُرك الشعب الأعزل وحيدًا إلا من ضمائر حرة قليلة لم تفقد إنسانيتها.

ومع الإعلان عن توقيع المرحلة الأولى من اتفاق لوقف إطلاق النار، تبدو فرحة الناس في غزة طبيعية بعد شهور طويلة من القصف والجوع والموت. غير أن قراءة المشهد من منظور فلسطيني تكشف أن ما جرى لا يمكن وصفه بالإنجاز الكامل أو النصر، بل هو أقرب إلى هدنةٍ قسرية فُرضت على شعب أنهكته الحرب، في ظلّ ميزان قوى مختلّ، وظروف إقليمية ودولية غير عادلة.

اختلال ميزان القوى

يتعامل العالم مع المأساة الفلسطينية وكأنها “صراع بين طرفين”، بينما الواقع يقدّم صورة مختلفة تمامًا: شعب محاصر يُحرم من الغذاء والدواء والكهرباء والماء، يواجه دولة تمتلك أحدث الأسلحة وتحظى بدعم سياسي غير محدود. هذه ليست حربًا متكافئة، بل منظومة عقاب جماعي تُمارَس بحق أكثر من مليوني إنسان.

هذا الخلل في موازين القوى لا يقتصر على الميدان، بل يمتد إلى المنابر الدولية. فحين تُستخدم القوانين الدولية لتبرير القتل بدلًا من منعه، وحين تُغلق أبواب العدالة أمام الضحايا وتُفتح أمام المعتدين، تتحول المنظومة العالمية إلى طرفٍ في الجريمة، لا إلى ضامنٍ للعدالة.

اتفاق بلا ضمانات

تتضمن الاتفاقات المرحلية الجارية بنودًا تبدو إنسانية في ظاهرها، لكنها تفتقر إلى الضمانات الحقيقية التي تضمن التزام الطرف الآخر. فالإفراج عن الأسرى أو إدخال المساعدات يجب أن يكون مقدمة لتغيير جذري في الواقع الإنساني والسياسي، لا مجرد ورقة تفاوضية مؤقتة تُستغل لتجميل صورة المعتدي أو لكسب الوقت قبل استئناف العدوان من جديد.

إن الخطر الأكبر يكمن في تحويل القضايا الإنسانية، كالأسرى والعلاج والإغاثة، إلى أدوات ابتزاز، وفي تحويل حياة المدنيين إلى أوراق مساومة بيد القوة العسكرية، في غياب أي آلية رقابة دولية مستقلة تضمن احترام الاتفاقات.

خطر تدويل السيطرة

أحد أبرز المخاوف الفلسطينية اليوم هو أن تُستغل هذه الاتفاقات لتبرير وجود قوى أجنبية أو إدارة أمنية دولية لقطاع غزة تحت عنوان “الاستقرار”. فالتجارب السابقة تُظهر أن مثل هذه الترتيبات غالبًا ما تتحول إلى غطاءٍ لاستمرار الاحتلال بشكلٍ جديد، يقيّد السيادة ويؤسس لمراحل أطول من الهيمنة والرقابة.

الفلسطينيون لا يبحثون عن إدارة جديدة للحصار، بل عن إنهائه بالكامل، وعن حياة طبيعية تحت سيادة حقيقية تحفظ كرامتهم وحقهم في تقرير مصيرهم.

خذلان الحلفاء وصمت العالم

زادت مأساة الفلسطينيين مع تبدّل مواقف بعض الدول الإقليمية والدولية، إذ تحولت أطراف كانت تُقدَّم كداعمة إلى أدوات ضغط أو وساطة غير محايدة. كما استُخدمت القوانين والإعلام في ملاحقة الأصوات المتضامنة، وتجريم كل من يدافع عن العدالة للفلسطينيين، في محاولة لإخماد الوعي العالمي المتصاعد.

لكن رغم كل ذلك، لا تزال الرواية الفلسطينية حية، ولا يزال الشعب في غزة يثبت للعالم أن الكرامة لا تُهزم بالقوة، وأن الصمود ذاته شكلٌ من أشكال النصر.

نحو سلام حقيقي

من وجهة نظر فلسطينية، لا يمكن الحديث عن سلامٍ عادل ما لم تُرفع تمامًا القيود المفروضة على القطاع، وتُفتح المعابر أمام المساعدات والإعمار، ويُحاسَب المسؤولون عن جرائم الحرب بحق المدنيين، وتُكفل الحقوق الأساسية في الحياة والحرية والتنقل.

الطريق إلى العدالة لن يكون سهلاً، لكنه الطريق الوحيد الذي يحفظ كرامة الفلسطينيين ويمنع تكرار المأساة. أمّا الحلول المؤقتة، فليست سوى هدنة قصيرة تسبق عاصفة أخرى.

في بريطانيا، لا ينبغي النظر إلى هذه اللحظة كنهاية، بل كبداية جديدة لمسار النضال الشعبي من أجل فلسطين. فقد تحوّل الحراك التضامني في المملكة المتحدة إلى واحدة من أكبر الحركات الأخلاقية في هذا العصر، جمعت بين مختلف المعتقدات والأعراق والأجيال على كلمة العدالة. إن وقف إطلاق النار لا يعني الصمت، بل يستدعي مزيدًا من العمل والالتزام والمساءلة. على النقابات والاتحادات الطلابية و الجاليات والمؤسسات المدنية أن تواصل الضغط لوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، وفرض العقوبات على جرائم الحرب، ودفع الحكومة البريطانية إلى الانحياز للقانون الدولي لا لسياسة الإفلات من العقاب. فالحصار لم يُرفع بعد، والجراح لم تلتئم، والصمت لا يخدم إلا الجلاد.

رغم الجراح العميقة، يواصل الفلسطينيون الحياة بإصرارٍ نادر. بعد عامين من الإبادة، ما زالت غزة تنبض بالحياة، وما زال شعبها يرفع صوته مطالبًا بالحرية لا بالشفقة. فالقضية لم تنتهِ، وما تحقق ليس سوى بداية طريق طويل نحو العدالة الحقيقية.

قد يكون هذا الاتفاق لحظة لالتقاط الأنفاس، لكنه لا يغيّر حقيقة أن العدالة وحدها قادرة على إنهاء الحرب. وحتى يتحقق ذلك، سيبقى صوت غزة شاهدًا على الظلم، وصمودها وعدًا بأن فجر الحرية آتٍ، مهما طال ليل الحصار.

موقع بالعربية غير مسؤول عن الآراء الواردة في هذا المقال، وهي تعبّر عن وجهة نظر كاتبها فقط.

مقالات ذات صلة