بقلم سمية الغنوشي
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
في مشهد يثير الدهشة، دعا وزير شؤون الشتات ومكافحة معاداة السامية في دولة الاحتلال، أميخاي شيكلي، المتطرف اليميني البريطاني تومي روبنسون لزيارة الأراضي المحتلة، ولم تكن تلك مجاملة دبلوماسية عابرة، بل إعلان تحالفٍ أيديولوجي صريح.
فقد وصف شيكلي روبنسون بأنه “صديق حقيقي لدولة الاحتلال وللشعب اليهودي”، وأشاد به باعتباره “قائدًا شجاعًا في الخطوط الأمامية ضد الإسلام الراديكالي”، متعهدًا عبر منصة “إكس” بأنهما سيعملان معًا “لبناء جسور تضامن أقوى، ومحاربة الإرهاب، والدفاع عن الحضارة الغربية”.
لكن هذا ليس تضامنًا، بل تحالف قائم على الكراهية.
تتبنّى دولة الاحتلال اليوم سياسة واضحة تقوم على التحالف مع اليمين المتطرف الأوروبي، واستغلال الإسلاموفوبيا كعملة سياسية رابحة.
فروبنسون بنى شهرته على التحريض ضد المسلمين في بريطانيا، قاد المظاهرات، وأشعل الكراهية في الشوارع، محولًا العداء إلى عرض جماهيري، واليوم، تكافئه حكومة الاحتلال على تلك الجرائم الأخلاقية والسياسية.
المفارقة شبه توراتية: وزير “مكافحة معاداة السامية” يحتضن القوى التي أنجبتها.
وقد جاء رد الفعل داخل الجالية اليهودية في بريطانيا غاضبًا وصريحًا، فقد وصف مجلس النواب اليهودي روبنسون بأنه “بلطجي يمثل أسوأ ما في بريطانيا”، متهمًا شيكلي بتجاهل الغالبية الساحقة من اليهود البريطانيين “الذين يرفضون روبنسون وكل ما يمثله رفضًا قاطعًا”. كما أصدر المجلس القيادي اليهودي بيانًا مماثلًا حذر فيه من أن هذه التحالفات تقوض الجهود لمحاربة التطرف وتعزيز التعايش المجتمعي.
انحطاط أخلاقي لا “سوء تقدير دبلوماسي”
ما يجري ليس زلة سياسية، بل انهيار أخلاقي، لحظة قررت فيها قيادة دولة الاحتلال الوقوف إلى جانب ذلك الذي لطالما حذر من خطره اليهود أنفسهم.
فاحتضان روبنسون ليس حدثًا معزولًا، بل امتدادٌ لرؤية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للعالم، حيث يُقدَّم الإسلام بوصفه عدوًا حضاريًا للغرب، وتُصوّر دولة الاحتلال على أنها الدرع الأمامي للحضارة الغربية في مواجهة ما يسميه “التهديد الإسلامي”. ولأن الكراهية لا تبقى حبيسة الخطابات، سرعان ما ظهرت نتائج هذا الخطاب في شوارع أوروبا. ففي الأسابيع الأخيرة، قاد روبنسون مسيرة عنصرية ضخمة في لندن، شارك فيها آلاف المتطرفين الذين رفعوا شعارات تدعو لطرد المسلمين وقتلهم، وقد وثق اليوتيوبر البريطاني نيكو أوميلانا المشهد في تحقيق مصور، ظهرت فيه امرأة تقول بفخر إنها تحمل سكاكينًا “لتطعن بها شخصًا أسود”، فيما أعلن أحد المتحدثين من على المنصة: “الإسلام هو عدونا الحقيقي، علينا أن نتخلص من الإسلام”.
هذه العبارات لم تكن أصواتًا هامشية، بل النغمة الأساسية للمظاهرة، والآن، يتم الاحتفاء بمن قادها من قبل وزير في حكومة الاحتلال.
من فاشيي الأمس إلى حلفاء اليوم
منذ سنوات، ونتنياهو يزرع هذا المنطق، متهمًا أوروبا بأنها تنتقد الاحتلال بسبب “جالياتها المسلمة الكبيرة”، ومكررًا مزاعمه بأن “أوروبا تم غزوها بالهجرة غير المنضبطة”. وحذّر القادة الأوروبيين قائلاً: “لا تطعموا التمساح، لأنه سيأتي ليأكلكم بعد أن يلتهم دولة الاحتلال”.
لكن الحقيقة التي يعرفها التاريخ جيدًا هي أن التمساح الذي التهم اليهود في أوروبا لم يكن مسلمًا، بل كان نازيًا، والمفارقة المؤلمة أن نتنياهو اليوم يطعم الوحش ذاته الذي كان يصطاد أبناء شعبه.
هذا التحالف مع اليمين المتطرف ليس نزوة سياسية، بل خيار استراتيجي طويل الأمد، ففي عام 2018، اعترف منتدى الشرق الأوسط، وهو منظمة مؤيدة بشدة لدولة الاحتلال، بأنه موّل الدفاع القانوني لروبنسون ونظم حملاته الدعائية تحت شعار “أطلقوا سراح تومي”.
عمل رئيس المنتدى غريغ رومان سابقًا في وزارتي الدفاع والخارجية لدى الاحتلال، بينما وصف مركز “القانون الجنوبي للفقر” والذي يرأسه الأمريكي دانيال بايبس بأنه “ناشط معادٍ للمسلمين”.
وفي هذا العام، تجاوزت دولة الاحتلال كل الخطوط، حين رفعت الحظر الدبلوماسي عن ثلاثة أحزاب أوروبية متطرفة: “التجمع الوطني” الفرنسي، و”فوكس” الإسباني، و”الديمقراطيون السويديون”، ودعتهم إلى مؤتمر رسمي في القدس المحتلة. أما القادة اليهود في أوروبا، فقد قاطعوا المؤتمر احتجاجًا، بينما كانت حكومة نتنياهو قد اختارت حلفاءها الجدد: ورثة الفاشية.
من الكراهية إلى العنف
إنّ تطبيع الإسلاموفوبيا في الحياة العامة البريطانية أصبح وقودًا مباشرًا لخطاب الكراهية والعنف المتصاعد، فوفقًا لبيانات وزارة الداخلية البريطانية، يشكل المسلمون نحو 40% من ضحايا جرائم الكراهية الدينية، فيما شهد العام الماضي ارتفاعًا بنسبة 25% في هذه الجرائم، وهو أعلى معدل منذ بدء تسجيلها قبل أكثر من عقد. كما وثّق مركز “تل ماما” أكثر من 900 حادثة اعتداء بين يونيو/ حزيران وسبتمبر/ أيلول فقط، شملت هجمات على المساجد والمراكز الإسلامية.
وفي الوقت نفسه، انفجرت موجات من التحريض الإلكتروني مدفوعة بنظريات المؤامرة التي يروّجها نفس رموز اليمين المتطرف الذين تحتفي بهم حكومة نتنياهو اليوم. ما يجري ليس مصادفة، بل عدوى سياسية وفكرية تنتقل من تل أبيب إلى لندن، فالنغمة واحدة: “هم يكرهوننا، يهددوننا، ونحن نحمي الحضارة”.
الدولة التي تزرع الخوف
ويبدو أن هذا الخطاب وجد صداه في السياسات البريطانية نفسها، ففي أعقاب الهجوم الأخير على كنيس في مانشستر، سعت الحكومة إلى تقييد التظاهرات المؤيدة لفلسطين، متذرعةً بحفظ الأمن العام. إلا أن ناشطين يهودًا في مجال حقوق الإنسان حذروا من أن تلك الإجراءات تعزز الانقسام وتخدم من يسعى لإشعال العداء بين المسلمين واليهود. فالحكومة التي تزعم محاربة الكراهية، باتت هي ذاتها من يجرّم التضامن.
وفي خضم هذا المناخ المشحون، ظهرت صورة نائبة وزير الخارجية في دولة الاحتلال شارين هاسكل مرتدية سترة واقية من الرصاص أثناء زيارتها لمدينة مانشستر، مدعية أنها لم تعد تشعر بالأمان في شوارع بريطانيا.وانتشر المشهد كالنار في الهشيم: مسؤولة في حكومة الاحتلال ترتدي درعًا واقيًا في بلدٍ آمن، في الوقت الذي تستضيف فيه حكومتها شخصًا مثل تومي روبنسون الذي دعا علنًا إلى طرد المسلمين.
وعندما واجهتها الإعلامية البريطانية كاثي نيومان على شاشة Channel 4 بسؤال واضح: “هل تدينين دعوة روبنسون؟”، رفضت هاسكل الإجابة قائلة إن “الناس أحرار في التعبير عن آرائهم”.
لقد كان ذلك الموقف كاشفًا ومخزيًا في آن واحد.
تحالف يقوم على الكراهية المشتركة
لقد دافعت هاسكل عن دعوة رجلٍ هاجم مجلس النواب اليهودي نفسه ووصفه بأنه “نخبة ليبرالية مستيقظة” خانت اليهود، بينما مجدت حكومة نتنياهو باعتبارها حكومة “المحافظين الحقيقيين واليهود الصهاينة الأصليين”.
المفارقة هنا عميقة ومؤلمة، ففي حين يصف روبنسون قادة اليهود في بريطانيا بأنهم “ليبراليون مستيقظون”، يهاجم نتنياهو معارضيه من اليمين الأمريكي بنفس المنطق، واصفًا إياهم بـ”الرايخ المستيقظ”، في تشبيهٍ فاضحٍ بالنازيين، فقط لأنهم تجرأوا على انتقاد جرائم جيش الاحتلال في غزة. وهكذا يجد الرجلان نفسيهما يرددان نفس النغمات: كراهية المسلمين، واتهام المنتقدين بالعمالة لليسار أو بالضعف الأخلاقي.
هذا التحالف بين نتنياهو واليمين المتطرف الأوروبي لا يخفي توجهه الحقيقي: ليس دفاعًا عن اليهود، بل حرباً على الإسلام والمسلمين، داخل أوروبا وخارجها.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، فقد تجاوز وزير الشتات شيكلي كل الأعراف الدبلوماسية هذا الأسبوع عندما سخر من رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر ونعته بـ”الفلسطيني” بعد أن أدان الأخير دعوة روبنسون. إهانة تكشف الكثير: في قاموس نتنياهو وحلفائه، أن تُدعى “فلسطينيًا” هي تهمة وشتيمة.
من التحريض إلى التهديد الوجودي
إنّ تحالف نتنياهو مع قوى الكراهية ليس علامة قوة، بل دليل ضعفٍ وعزلةٍ متزايدة، فهو يظن أنه إن حرّض أوروبا ضد مسلميها، سيخمد التعاطف مع فلسطين، لكن الواقع يسير عكس ذلك. فوفقًا لاستطلاع لصحيفة واشنطن بوست الأسبوع الماضي، يرى 61% من اليهود الأمريكيين أن دولة الاحتلال ارتكبت جرائم حرب في غزة، فيما يعتقد نحو 40% أنها ارتكبت إبادة جماعية، وفي بريطانيا، أصبح يهود كثيرون في طليعة الداعين للعدالة من أجل الفلسطينيين.
إنّ احتضان نتنياهو لتومي روبنسون ليس علامة ثقة، بل رمز تآكل أخلاقي، فالدولة التي تدّعي محاربة معاداة السامية صارت تحتضن صُنّاعها.
نتنياهو يظن أنه إن أشعل كراهية الإسلام وأجج الإسلاموفوبيا في أوروبا، فسيُخمد الضمير الإنساني تجاه غزة، لكنه في الحقيقة يطلق العنان لنفس الوحش الذي اضطهد اليهود في الماضي، الكراهية التي يغذيها لا تعرف حدودًا، إنها تتحور وتتنقل وتلتهم كل من يغذيها.
من الحماية إلى الانتحار الأخلاقي
إنّ ما يفعله نتنياهو ليس بناء تحالف للحماية، بل إشعال نيران الاضطهاد مجددًا، فالجماهير التي تهتف اليوم ضد المسلمين، هي نفسها التي ستوجه سيوفها غدًا نحو اليهود، فالكراهية لا تفرّق بين ضحاياها؛ إنها تلتهم الجميع.
وبينما تتآمر قيادة دولة الاحتلال مع ورثة الفاشية في أوروبا، يذكّرنا التاريخ بحقيقة لا تسقط بالتقادم: إن الكراهية حين تُطلق من عقالها، لا تعرف سيدًا، بل تفترس كل من يمدها بالطعام.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)