من الهجوم إلى التهجير: محاولات ترسيم واقع جديد في جنوب لبنان

بقلم هشام صفي الدين

ترجمة وتحرير مريم الحمد

في خريف عام 2024، أي قبل قرابة عام، شنت إسرائيل حرباً وحشية دموية على لبنان وقد كانت لها عواقب مدمرة، فبعد اندلاع القتال في 8 أكتوبر عام 2023، وحتى التوقيع على اتفاق وقف الأعمال العدائية في 27 نوفمبر عام 2024، تسببت الهجمات الإسرائيلية في استشهاد أكثر من 4000 لبناني من بينهم أكثر من 300 طفل، وإصابة ما يقرب من 17000 آخرين ونزوح أكثر من مليون شخص.

تراوحت التكتيكات الإرهابية الإسرائيلية خلال تلك الفترة بين التفجير العشوائي لأجهزة النداء المحمولة في الأماكن العامة إلى القصف الجوي الشامل للأحياء السكنية والاغتيالات الجماعية لكبار القادة السياسيين والعسكريين في حزب الله وحتى الغزو البري لمناطق في جنوب لبنان مما خلف سلسلة من الموت والدمار. 

ومنذ اتفاق وقف إطلاق النار، استمرت حرب إسرائيل ولكن بوسائل أخرى، فرغم وقف حزب الله لجميع العمليات العسكرية، إلا أن عمليات المراقبة والهجمات الإسرائيلية بطائرات بدون طيار، فضلاً عن القصف المدفعي والغارات الجوية من حين لآخر، أصبحت حدثاً شبه يومي في لبنان.

وعلى الأرض، لا تزال القوات الإسرائيلية تحتل عدة تلال داخل الأراضي اللبنانية تمتد على كامل عرض الحدود، حيث يجري حالياً توسيع هذه القواعد وتحصينها.

من جهة أخرى، فقد ركزت التغطية الإعلامية والتحليل السياسي لفترة ما بعد الحرب على أحد أهداف إسرائيل المعلنة إلى حد كبير، وهي نزع سلاح حزب الله، فيما حولت القوى السياسية المتحالفة مع الولايات المتحدة ودول الخليج في لبنان هذا المطلب إلى تفويض “فعل أو موت”!

لقد جرى تأطير نزع سلاح حزب الله، الذي دافع عنه رئيس الوزراء نواف سلام، والرئيس جوزيف عون، باعتباره خطوة لا غنى عنها لاستعادة السيادة اللبنانية، وشرطاً أساسياً لأي انتعاش اقتصادي بما في ذلك عملية إعادة البناء في مرحلة ما بعد الحرب.

وتلقي تلك المساومات الداخلية حول مصير سلاح حزب الله وعلاقته بسيادة الدولة بظلالها على الأبعاد الطويلة الأمد والإقليمية للحرب الإسرائيلية على لبنان في واقع ما بعد 7 أكتوبر عام 2023، فقد أدى سعي إسرائيل إلى تحقيق التفوق العسكري الإقليمي بلا ضابط أو رابط، وما يترتب على ذلك من إنشاء إسرائيل الكبرى، إلى نشوء واقع جديد في جنوب لبنان قد يرقى إلى مستوى التطهير العرقي إذا لم يتم كبح جماحه!

تشير الحقائق الحالية على الأرض إلى هذا الاتجاه، وهو ما يتوافق مع الطموحات والسياسات الاستعمارية الصهيونية القديمة التي يعود تاريخها إلى أكثر من قرن من الزمان.

إخلاء القرى

كشفت التقارير الأخيرة الصادرة عن المنظمات الإنسانية الدولية ووكالات حقوق الإنسان عن مدى التدمير الممنهج والغاشم الذي ألحقه الجيش الإسرائيلي بالمنطقة الحدودية في جنوب لبنان منذ بدء التصعيد في العام الماضي، حيث أشار عدد من التقارير إلى اتجاهات مثيرة للقلق تتعلق بالتهجير القسري ونزع الملكية، وهو أمر يصعب تبريره من وجهة نظر عسكرية بحتة.

وفقاً لمنظمة أطباء بلا حدود، فإن الهجمات الإسرائيلية المتكررة منذ اتفاق نوفمبر 2024 قد حالت دون عودة أكثر من 82 ألف من السكان النازحين، فيما لا تزال العديد من المستشفيات ومرافق الرعاية الصحية الأولية التي تضررت بسبب الهجمات الإسرائيلية خلال الحرب مغلقة وبعضها يحتاج إلى إعادة تأهيل.

وفقاً للتقرير، فقد قتل ما لا يقل عن 57 شخصاً أثناء محاولتهم العودة إلى منازلهم، كما أعلنت إسرائيل رسمياً بأن تحرك أي شخص جنوب الخط الموازي تقريباً للحدود، والذي يتراوح عمقه بين 3-11 كيلومتراً، يعني أنه ” يعرض نفسه للخطر”.

وتكشف صور الأقمار الصناعية واللقطات الإعلامية التي حللتها منظمة العفو الدولية أنه في الفترة ما بين 1 أكتوبر 2024 -26 يناير 2025، فقد دمرت إسرائيل أكثر من 10,000 مبنى، بما فيها أماكن عبادة وأراضٍ زراعية وحتى ملعب لكرة القدم، وفي العديد من البلديات، فقد كانت الأضرار شبه كاملة، حيث أثرت على 70% من جميع المباني.

من الجدير بالذكر أنه قد تمت مهاجمة معظم هذه المواقع بعد انتهاء القتال الفعلي وليس قبله، بالمتفجرات والجرافات المزروعة يدوياً، ولم تجد منظمة العفو الدولية أي دليل على وجود مقاتلين من حزب الله وقت التفجير. 

وبدلاً من ذلك، تُظهر أدلة الفيديو الإسرائيليين وهم يحتفلون بالدمار، ويرددون شعارات بغيضة مثل “قريتك تحترق”، في سلوك يشبه اللقطات التي خرجت من غزة، وغالباً ما ترتبط هذه الإشارات بنية الإبادة الجماعية أو رغبات في التطهير العرقي. 

إن المخاوف من التطهير العرقي في جنوب لبنان لا ترتكز فقط على الحقائق الحالية والمخاطر المستقبلية، بل على إرث الماضي مثل القصة المأساوية “للقرى السبع المفقودة”!

في عام 1923، أعاد الاتفاق الأنجلو-فرنسي الذي رسم الحدود بين لبنان الكبير الذي تم إنشاؤه حديثاً وفلسطين الانتدابية، تخصيص 7 قرى كانت تعتبر في الأصل لبنانية للانتداب البريطاني، رغم أن هذه القرى كانت تعتبر، مثل غيرها من القرى الممتدة بين جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة، جزءاً من مناطق عثمانية غير مقسمة.

في عام 1948، واجهت القرى السبع مصير القرى الفلسطينية بعد النكبة، فتعرضت للتطهير العرقي على يد الميليشيات الصهيونية وتم استبدال أسمائها بأسماء المستوطنات اليهودية وطرد معظم سكانها إلى لبنان، وقد حرم العديد من الناجين وأحفادهم من أوراقهم اللبنانية ولم يتم الاعتراف بهم كلاجئين فلسطينيين، فهم ما زالوا يعيشون في مأزق قانوني حتى اليوم.

استعمار جنوب لبنان

كان من الممكن أن يكون التطهير العرقي الصهيوني في منطقة جبل عامل في جنوب لبنان أكثر اتساعاً لولا المنافسات الإمبريالية في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى. 

بالنسبة للصهاينة الأوائل، فقد كان استيطان فلسطين يعني الاستيطان على أكبر منطقة ممكنة تتداخل مع رؤيتهم الدينية للأرض المقدسة، حيث تظهر الخرائط التي قدمتها المنظمة الصهيونية العالمية إلى مؤتمر باريس بوضوح أن الصهاينة سعوا إلى ضم جنوب لبنان إلى أراضيهم من نهر الليطاني حتى مدينة صيدا الساحلية، وذلك على بعد ما يقدر بنحو 60 كيلومتراً من الحدود الحالية.

علاوة على ذلك، فقد حرص الصهاينة، مثل جميع المستوطنين الأوروبيين، على تأمين أخصب الأراضي ومصادر المياه العذبة، ولذلك فقد تضمنت الحدود الشرقية للخريطة المقترحة مساحات واسعة من الأراضي السورية والأردنية لتبتلع بالكامل بحيرة طبريا ونهر الأردن، ولكن الخطط الفرنسية المضادة الصهاينة أجبرتهم على حصر أنشطتهم بعد الحرب العالمية الأولى في ما يشار إليه الآن بفلسطين التاريخية.

إذا استمر الوضع الراهن، فمن المرجح أن تستأنف المقاومة المسلحة، وإلا فإن التحرير الكامل والسلام في الجنوب سوف يظل بعيد المنال حتى يتم تحرير فلسطين، وهذه حقيقة تاريخية واستشراف للمستقبل

لقد تم وضع الطموحات الأولية لاستعمار جنوب لبنان على الرف، لكنها لم تنطفئ أبداً، فخلال الحرب الأخيرة، ادعى مايكل فرويند، الذي شغل سابقاً منصب نائب مدير الاتصالات لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بأن “جنوب لبنان، من الناحية التاريخية، هو في الواقع شمال إسرائيل”، مستشهداً بسفر يشوع على أنه يذكر “صيدون صراحةً على أنها موعودة للشعب اليهودي”، كما أدرج فرويند العديد من الأضرحة في الجنوب على أنها يهودية ودليل على الحق في الأرض. 

إن استحضار المواقع الدينية كمبرر للغزو الاستعماري هو أسلوب صهيوني قديم ومفضوح، فأحد علماء الآثار الإسرائيليين، زئيف إرليخ، كان منخرطاً في الجيش الإسرائيلي أثناء الغزو الأخير للبنان، حين قامت القوات الإسرائيلية بإحراق وتدمير أجزاء من الضريح، وقبل الانسحاب، هدموا المباني التاريخية المحيطة بالحي القديم في القرية وهو نفس المكان الذي زعموا أنه ملك لهم. 

بحسب ما ورد، فقد أصرت إسرائيل على بقاء القرى الحدودية خالية من السكان كجزء من المنطقة العازلة.

المقاومة والعودة

رغم سياسة الأرض المحروقة التي تنتهجها إسرائيل وتواطؤ الحكومة اللبنانية في رفض تمويل إعادة الإعمار في الجنوب، فقد أظهر سكان جبل عامل تصميماً هائلاً على المقاومة. 

في يناير الماضي، تحدى آلاف اللبنانيين الأوامر الإسرائيلية بعدم العودة إلى قراهم، فعادوا إلى قراهم ودخلوها، حيث استشهد أكثر من 10 أشخاص بنيران إسرائيلية. 

منذ ذلك الحين، انطلقت مبادرات عديدة لإنشاء مدارس مؤقتة وإعادة بناء ساحات القرى ودور العبادة وإنعاش الإنتاج الزراعي.

ومع ذلك، فإن العودة إلى الحياة الطبيعية لا تزال بعيدة المنال، فمن دون توفير الأمن واستعادة بعض الردع العسكري، فإن خطر النزوح على المدى الطويل آخذ في الارتفاع. 

بعد مرور عام تقريباً على صمت مدافع حزب الله، فشل الجيش اللبناني فشلاً ذريعاً في حماية شعب الجنوب، والحقيقة أن بقاء الجيش تحت نفوذ الولايات المتحدة وتمويلها، فإنه لن يكون مجهزاً أبداً للوقوف في وجه إسرائيل، وهذا ما قاله المبعوث الأمريكي توم باراك عندما استبعد إمكانية تزويد الجيش اللبناني بأسلحة تمكنه من محاربة إسرائيل.

وتعكس “حزمة المساعدة الأمنية” الأخيرة التي قدمتها واشنطن للبنان، والتي تقدر قيمتها بـ 14 مليون دولار، هذه السياسة، حيث تشمل المواد المذكورة عبوات هدم وأسلاك تفجير وأجهزة إشعال فتيل تفجيرية وأدوات أخرى مصممة بشكل واضح، كما ينص الإعلان صراحة على “تفكيك مخابئ الأسلحة والبنية التحتية العسكرية للجماعات غير الحكومية بما في ذلك حزب الله”.

إذا استمر الوضع الراهن، فمن المرجح أن تستأنف المقاومة المسلحة، وإلا فإن التحرير الكامل والسلام في الجنوب سوف يظل بعيد المنال حتى يتم تحرير فلسطين، وهذه حقيقة تاريخية واستشراف للمستقبل.

للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة