ديفيد هيرست: مسرحية شرم الشيخ كشفت ضعف إسرائيل وانقسام العرب

بقلم ديفيد هيرست

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

في كلمته الأخيرة أمام الكنيست، خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن النص المكتوب، كاشفًا ما لم يكن في صالحه ولا في صالح دولة الاحتلال. كان يفترض أن تكون المناسبة جولة نصر مشتركة له ولمستشاره الأقرب، رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، في مشهد احتفالي صاخب لرجلين يظنان أنهما تغلبا ليس فقط على حماس في غزة، أو حزب الله في لبنان، أو الحرس الثوري الإيراني، بل على “تاريخ البشرية” ذاته، بكل سردياته الدينية والسياسية الممتدة لآلاف السنين.

لكن ترامب، الذي لطالما اعتاد الخروج عن النص، أفشى أسرارًا تكشف حجم التبعية بين واشنطن وتل أبيب، ففي لحظة صراحة نادرة، تذكّر كيف توسّل إليه نتنياهو للحصول على أسلحة “لم يكن يعلم أن الولايات المتحدة تمتلكها أصلًا”، مؤكّدًا هشاشة دولة الاحتلال أمام الرأي العام العالمي، وضعفها الذاتي رغم ترسانتها الضخمة.

وقال ترامب في خطابه: “قلت له، بيبي، ستُذكر من أجل هذا القرار أكثر مما لو واصلت القتل، والقتل، والقتل”، بهذا المقطع تحديدًا، أراد الرئيس الأميركي أن يُظهر أنه هو من فرض وقف العدوان على غزة، بعد أن “أدار اللعبة” بذكاء على المسرح الدولي.

كما كشف ترامب أن المليارديرين اليهوديين مريام وشيلدون أديلسون كانا من أكثر الزوار تكرارًا للبيت الأبيض، وأن شيلدون – الذي وصفه بأنه “رجل عدواني للغاية” – كان هو من أقنعه في ولايته الأولى بالاعتراف بضم الجولان المحتل.

واشنطن والكنيست.. تحالف بلا أقنعة

لو قال شخص آخر ما قاله ترامب عن نفوذ أديلسون في القرار الأميركي، لاعتُبر كلامه “معاداة للسامية”، لكن ترامب نفسه ومعه أعضاء الكنيست صفقوا بحرارة لتلك الاعترافات التي تمس جوهر العلاقة بين المال والسياسة في تشكيل السياسة الأميركية تجاه دولة الاحتلال.

لقد انكشفت اللعبة بوضوح: لا فصل بين اللوبيات اليهودية الثرية والقرارات الكبرى في البيت الأبيض، ومن المفارقات أن هذا التصريح الذي كان كفيلًا بإشعال أزمة دبلوماسية في أي إدارة أخرى، مرّ مرور الكرام لأن قائله هو ترامب نفسه، ولأن الجمهور الذي استمع إليه – من نواب الاحتلال – كان شريكًا في المسرحية ذاتها.

فوضى شرم الشيخ

بعد ساعات قليلة، حطّ ترامب في شرم الشيخ متأخرًا عن موعده، لتبدأ فصول المسرحية الثانية من “اتفاق السلام” المزعوم. هناك، تصدعت الواجهة العربية التي حاول ترامب تلميعها في الكنيست، إذ إنّ اثنين من القادة العرب والمسلمين كادا يقاطعان القمة – أحدهما وهو في الجو – بعدما تسربت أنباء بأن نتنياهو سيحضر اللقاء بنفسه.

لم يكن اسم نتنياهو مدرجًا على قائمة المدعوين، لكن حين شاع أن ترامب ضغط على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لدعوته، أبقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان طائرته محلّقة في الجو بانتظار القرار النهائي، فيما واجه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني غضبًا شعبيًا متصاعدًا في بلاده.

سرعان ما تمّ إلغاء الدعوة، وأعلن مكتب نتنياهو أنه لن يحضر بسبب “عطلة دينية يهودية”، في تبرير بدا أقرب إلى الغطاء السياسي منه إلى الحقيقة.

وغاب أيضًا ولي العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس دولة الإمارات محمد بن زايد عن القمة، فيما تباينت التحليلات حول سبب غيابهما: هل كان احتجاجًا على بروز الدور القطري والتركي في مفاوضات التهدئة مع حماس؟ أم اعتراضًا على تجاوز مصر لهما؟ أم رفضًا ضمنيًا لأن تكون حماس طرفًا مباشرًا في أي تسوية؟

أياً يكن السبب، فإن الرسالة كانت واضحة: التطبيع لا يزال هشًّا، والمشهد الإقليمي لم يستقر على “تحالف أبراهيمي” جديد كما يتوهم ترامب وكوشنر.

بين الرفض الشعبي وهواجس الأنظمة

الأنظمة العربية التي طبّعت علاقاتها مع دولة الاحتلال تخشى مواجهة شعوبها أكثر مما تخشى واشنطن نفسها، فما زال شبح الربيع العربي حاضرًا في وعيها، وتدرك أن مجرد الوقوف علنًا إلى جانب نتنياهو كفيل بإشعال الشارع العربي مجددًا.

هذا الوعي الشعبي هو ما جعل التطبيع “جسرًا بعيد المنال” رغم المناورات السرية والتدريبات العسكرية المشتركة التي كشفت عنها الصحافة الأميركية.

فالخوف ليس من الفلسطينيين أو مقاومتهم فحسب، بل من الانكشاف السياسي أمام الرأي العام الذي يرى في كل تلك الاتفاقيات خضوعًا جديدًا للهيمنة الأميركية – الصهيونية.

السعودية تحديدًا، التي تسعى لقيادة العالم السني، تجد نفسها في منافسة مباشرة مع دولة الاحتلال التي تطمح لأن تكون القوة الإقليمية العليا، ومع إدراك ولي العهد السعودي لهذا التهديد لمكانته الشخصية، يصبح من الصعب عليه المضي علنًا في تحالف يضعه في مرتبة التابع.

قمة من الفوضى والإهانة

تحولت قمة شرم الشيخ إلى ما يشبه السيرك السياسي الذي سعى ترامب لقيادته، فحتى القادة الأوروبيون، مثل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، بدوا كالتلاميذ الذين حضروا الصف فقط ليتم تسجيل حضورهم.

اللحظة الأكثر إحراجًا كانت عندما دعا ترامب ستارمر إلى المنصة ثم تجاهله كليًا، في مشهد تناقلته وسائل الإعلام البريطانية بوصفه “إهانة علنية”، وفي الوقت نفسه، التقطت الميكروفونات مكالمة جانبية بين الرئيس الإندونيسي برابوو سوبينتو وترامب، حيث طلب الأول لقاءً مع ترامب وابنه إيريك، فرد الرئيس الأميركي ضاحكًا: “سأتصل بإيريك، إنه ولد طيب!”.

في غضون ساعات قليلة، أهان ترامب الجميع، بمن فيهم مضيفه الرئيس السيسي، الذي مدّ يده لمصافحته فاستدار عنه أمام الكاميرات.

هكذا انتهت “قمة السلام” إلى صورة مكرّرة من عبث ترامب المألوف: استعراض أجوف، فوضى في البروتوكول، ومشهد يعيد تذكير الجميع بأن ما يجري ليس سوى عرض انتخابي على حساب دماء الفلسطينيين.

ما إن غادر زعماء “قمة شرم الشيخ” أجواء مصر على متن طائراتهم الخاصة، حتى عادت قوات الاحتلال إلى “العمل كالمعتاد” في قطاع غزة.

فلم تتوقف الطائرات المسيّرة والدبابات عن إطلاق النار على الفلسطينيين، في خرقٍ يومي لوقف إطلاق النار المعلن، وفي الوقت ذاته، أعلنت دولة الاحتلال إغلاق معبر رفح مع مصر وقطع المساعدات الإنسانية مجددًا، بذريعة أن حماس لم تُسلّم جثامين جميع المحتجزين الذين قضوا خلال الحرب.

لكن المفاوضات كانت قد تناولت هذه المسألة بدقة، وأدرجت آليةً دولية للمساعدة في العثور على الجثث المفقودة، فالقصف الإسرائيلي المكثف دمّر مناطق بأكملها وقتل بعض المحتجزين مع حراسهم، بل إن بعض وحدات حماس التي كانت تحتفظ بالجثامين قُطِع الاتصال بها نهائيًا تحت الأنقاض.

وأكدت عائلة الجندي الأسير تمير نمرودي، الذي أعيدت جثته مؤخرًا، أن نجلها قُتل بفعل غارات جيش الاحتلال نفسه، وكانت هذه الشهادة وحدها كفيلة بتقويض دعاية نتنياهو القائلة بأن حماس “أُجبرت على التراجع بفعل استمرار الحرب”.

حرب فشلت في تحقيق أهدافها

فماذا تبقّى من كل هذا المسرح السياسي؟ فالحرب توقفت بعد عامين دون أن تحقق دولة الاحتلال هدفها الاستراتيجي الرئيس: تهجير نصف سكان غزة على الأقل بشكل دائم لتغيير التوازن الديمغرافي بين اليهود والعرب في كامل الأرض الممتدة بين نهر الأردن والبحر المتوسط.

لم تفلح في القضاء على حماس عسكريًا، بل إن الحركة استعادت السيطرة على كل المناطق التي انسحب منها جيش الاحتلال، وبموافقةٍ ضمنية من ترامب نفسه.وخلال عمليات تبادل الأسرى، أظهرت حماس قدرتها على ضبط الميدان والتفاوض من موقع قوة، وهو ما أحبط محاولة الاحتلال إشعال حربٍ أهلية داخل القطاع.

كما أجبر ترامب نتنياهو على وقف العدوان رغم معارضة الأخير لذلك، إذ كان يرى في استمرار الحرب طوقَ نجاةٍ سياسيًا له في الداخل، ومطيةً لمشروعه الأيديولوجي الرافض لأي كيان فلسطيني مستقل، والآن يجد نفسه أمام مأزق: كيف يواصل عرقلة إقامة الدولة الفلسطينية في ظل “التهدئة” التي فرضها راعيه الأميركي؟

لذلك، من المرجّح أن يُعوّل نتنياهو على انهيار مفاوضات “نزع سلاح حماس” ليستأنف الحرب مجددًا، ولو بشكل محدود.

من غير المرجح أن يعود العدوان إلى حجمه الكارثي السابق، لكن غزة مرشحة لأن تشهد نسخة جديدة من نموذج الجنوب اللبناني: غارات إسرائيلية متقطعة على أهداف تزعم تل أبيب أنها “مشروعة”، وحصار دائم يُخنق من خلاله الإعمار والإغاثة.

بهذا الشكل، يبقى القطاع في حالة نزيف بطيء، بينما تُستثمر المعاناة كأداة ابتزاز سياسي، غير أن هذا الحصار، كما يرى الكاتب، سيؤدي حتمًا إلى نتيجة عكسية: إبقاء غزة في مركز الاهتمام الدولي بوصفها رمزًا للظلم المستمر، لا “قضية منسية” كما حدث بعد اتفاق أوسلو.

فبينما أغلق أوسلو باب النقاش العالمي حول فلسطين بحجة أن “المفاوضات جارية لإقامة دولة”، لا توجد اليوم أي مفاوضات حقيقية، كل ما هو قائم الآن هو سعي الاحتلال لاستئناف الحرب متى سنحت الفرصة.

ارتدادات على الوسطاء

هذا الوضع لن يضرّ الاحتلال وحده، بل سيُحرج الوسطاء الذين تبنّوا الاتفاق، فالدوران القطري والتركي في التهدئة لم يكن نابعًا من قناعة بالمبادئ، بل من حسابات المصلحة الوطنية المباشرة – أي الحفاظ على علاقاتٍ وثيقة بترامب لضمان صفقة طائرات “إف-35”.

لكن هذا التوجه يتعارض مع المزاج الشعبي في تركيا وقطر، فأردوغان، الذي كاد يخسر السلطة عام 2016، يدرك أن تجاهله للغضب الشعبي إزاء جرائم الاحتلال قد يُفقده قاعدته الإسلامية مجددًا، خاصة إذا استؤنف العدوان على غزة.

أما مصر، التي استضافت القمة، فتتحمل جزءًا من مسؤولية هذا المسار، إذ تسعى لتقديم نفسها كوسيط “موثوق” لدى واشنطن، حتى وإن كان الثمن هو تجاهل معاناة الفلسطينيين اليومية تحت الحصار.

الفلسطينيون أمام لحظة الحقيقة

إن ما جرى في شرم الشيخ سيُذكر بوصفه نهاية مرحلة وبداية أخرى في الصراع، فكما أنهت “أوسلو” الانتفاضة الأولى، قد يكون مؤتمر شرم الشيخ شرارة لولادة مشروع فلسطيني جديد أكثر استقلالًا.

بعد عامين من الإبادة المنظمة في غزة، يدرك الفلسطينيون أن الخطر الأكبر يكمن في عجز قيادتهم، فقد حضر الرئيس محمود عباس القمة كـ”ملحقٍ بروتوكولي”، لا كممثلٍ لقضية شعبه، أما وريثه المعلن حسين الشيخ، فلا يملك أي شرعية شعبية أو رؤية سياسية.

في المقابل، ما زالت دولة الاحتلال ترفض الإفراج عن القادة القادرين على توحيد الصف الفلسطيني، لأنّ بقاء الانقسام يخدمها، ومع ذلك، توجد في الداخل والخارج كفاءات وطنية كثيرة يمكن أن تشكل نواةً لقيادة بديلة، شرط أن تتوحد المؤسسات الفلسطينية من جديد – سواء في رام الله أو غزة أو القدس أو في الشتات.

“لا فرسان بيض في الميدان”

إنّ أول مهمة أمام الفلسطينيين اليوم هي فرض التغيير الداخلي بأنفسهم: إجبار القيادات الهرمة على التنحي، وإعادة بناء منظمة التحرير والمؤسسات الوطنية لتصبح ممثلًا فعليًا لشعبٍ موحّد، لا أداة بيد المانحين.

لقد رأوا بأعينهم أن لا أحد سيأتي لإنقاذهم، فالعالم العربي غارق في مصالحه، والغرب غارق في ازدواجيته.


والضفة الغربية تُبتلع بواسطة المستوطنات يومًا بعد يوم، والحدود العربية تُرسم وفق إيقاع القوة الأميركية – الإسرائيلية لا وفق الإرادة الوطنية، فلا فارس أبيض قادم على صهوة جواده لإنقاذ الفلسطينيين، إذ علمتهم غزة أن لا أحد سيحررهم سوى أنفسهم.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة