ترامب يُعري فشل الديمقراطيين الأخلاقي والسياسي عبر إيقافه للحرب في غزة

بقلم ميتشل بليتنيك

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

بينما يتباهى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه جلب “السلام” إلى الشرق الأوسط، في مبالغة يراها كثيرون فادحة، لا يمكن إنكار أنه نجح ولو مؤقتًا في وضع حدٍّ لمجزرة دولة الاحتلال في غزة، التي استمرت عامين متواصلين من الإبادة والتدمير.

وظّف ترامب أدوات سلطته ليضغط على دولة الاحتلال ويجبرها على قبول شروطه لوقف إطلاق النار وهي شروط وُصفت بأنها “مريحة” نسبيًا لحكومة الاحتلال، لكنها في ذات الوقت أقلّ من طموحاتها اليمينية المتطرفة. 

ومهما كانت دوافع هذا الموقف، فإنه يُسلِّط الضوء على عجز سلفه جو بايدن ومنافسته الديمقراطية كامالا هاريس عن اتخاذ أي خطوة جادة لإنهاء الإبادة، رغم تحذيرات داخل الحزب الديمقراطي من أن استمرار الدعم الأعمى للاحتلال سيكلفهم الخسارة في الانتخابات.

ومع أن الكثيرين يشكّكون في إمكانية صمود هذا الهدوء، فإن من الصعب إنكار أن ترامب فعل ما لم يفعله بايدن، لقد استخدم ثقل البيت الأبيض ليجبر رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو على إنهاء المجزرة.

صفقة مدعومة عربيًا ودوليًا

لم يقتصر دور ترامب على إصدار التعليمات، بل إنه نجح في جمع زعماء عرب ومسلمين ضمن شراكة دولية، حشدت دعمًا شبه شامل للمرحلة الأولى من خطته التي تضمنت تبادل الأسرى وإنهاء الإبادة، وحتى إيران منحت الخطة دعمًا جزئيًا وإن كان على مضض.

وكما يحدث دائمًا عندما تفرض واشنطن سلطتها على شريكتها في التحالف، اضطُر نتنياهو في النهاية إلى الانصياع.
لكن ما كشفه هذا التحرك لم يكن فقط قدرة ترامب على فرض وقف إطلاق النار، بل أيضًا فشل الديمقراطيين الأخلاقي والسياسي في التعامل مع واحدة من أكثر المآسي الإنسانية فظاعة في العصر الحديث.

 فقد تجاهل بايدن الأصوات الصادرة من داخل حزبه والتي نادت بموقف حازم من دولة الاحتلال، وواصل دعمه غير المشروط لآلة القتل في غزة، بينما تبنّت هاريس النهج ذاته دون تردّد، وهو ما أثبت لاحقًا أنه قرار سياسي كارثي.

الديمقراطيون ومأزق الصمت

ورغم أن كثيرين لا يرون في ترامب “صانع سلام” كما يحب أن يُقدّم نفسه، فإن المقارنة مع الديمقراطيين تجعله يبدو أكثر جرأة. 

فقد رفض بايدن ممارسة أي ضغط حقيقي على دولة الاحتلال، وهاريس بدت أسيرة حسابات انتخابية ورضا المتبرعين المؤيدين لتل أبيب، حيث حذّر محللون مبكرًا من أن هذا التواطؤ السياسي مع الإبادة في غزة سيُنفّر القاعدة الديمقراطية التقدمية، ويقود إلى الهزيمة في الانتخابات.

ومع أن معظم المجازر ارتُكبت في المراحل الأولى من الحرب، إلا أن بعض الإجراءات التي اتخذتها حكومة الاحتلال بعد تولي ترامب الحكم ـمثل وقف المساعدات الإنسانية بشكل كامل لشهرين ـزادت من عمق الكارثة الإنسانية، ومع ذلك، فإن وقف الإبادة، إذا ثبت، يُعدّ الحدّ الأدنى مما كان يمكن للولايات المتحدة القيام به منذ البداية.

واللافت أن المفاوض الإسرائيلي المخضرم غيرشون باسكين كشف أن اتفاقًا مشابهًا كان مطروحًا قبل أكثر من عام، لكن بايدن رفض حتى مناقشته. 

لقد كتب باسكين على فيسبوك: “وافقت حماس على الشروط نفسها في سبتمبر/أيلول 2024، لكن ردّ المفاوضين الإسرائيليين حينها كان أن رئيس الوزراء لا يوافق على إنهاء الحرب، ورغم وصول الاتفاق المقترح إلى مكتب الرئيس بايدن، فإن مبعوثه بريت ماكغورك رفض الإشارة إلى الصفقة الرديئة التي كان يتفاوض عليها”.

إن هذا الاعتراف وحده كافٍ لتأكيد أن بايدن لم  يكن يرفض الإبادة فقط بل رفض أيضًا أي فرصة لوقفها حين كانت ممكنة.

بين المكاسب السياسية والانكشاف الأخلاقي

صحيح أن خطة ترامب ذات العشرين بندًا ترسّخ نظام الفصل العنصري وتُبقي على خضوع الفلسطينيين، لكنها في الوقت نفسه أنهت ولو مؤقتًا مجزرة جماعية، إنها مفارقة قاسية تُظهر أن ما رفض الديمقراطيون فعله باسم “الاعتدال” أنجزه خصمهم الجمهوري بأدوات القوة الفجة.


فلو أن أياً من بايدن أو هاريس تجرآ على كسر الخطاب التقليدي الأمريكي بشأن “حق دولة الاحتلال في الدفاع عن نفسها”، لكانا استطاعا إنقاذ عشرات الآلاف من الأرواح، وربما مستقبلهما السياسي أيضًا. 

إلا أن الخوف من خسارة دعم جماعات الضغط المؤيدة للاحتلال شلّ إرادة الحزب الديمقراطي وأفقده بوصلته الأخلاقية، ليقف ترامب اليوم متباهياً بأنه “أنهى حرب غزة”، بينما يبقى السؤال الحقيقي: لماذا لم يفعل الديمقراطيون ذلك من قبل؟

هل تعلّم الديمقراطيون الدرس بعد فوات الأوان؟

في الوقت الذي يحاول فيه الديمقراطيون ترميم صورتهم بعد الهزيمة الانتخابية المدوية أمام دونالد ترامب، يبدو أنهم بدأوا متأخرين جدًا في إدراك خطورة خطأهم الأخلاقي في التعامل مع مجزرة غزة. 

فقد أظهرت تصريحات كامالا هاريس الأخيرة تحولًا نسبيًا في خطابها تجاه ما حدث، لكنها لا ترقى إلى مراجعة حقيقية أو إلى اعتراف صريح بالمسؤولية السياسية.

ففي مقابلة أُجريت في 12 أكتوبر/تشرين أول الجاري، سُئلت هاريس عمّا إذا كانت تعتبر ما جرى في غزة إبادة جماعية، فأجابت: “عندما تنظر إلى عدد الأطفال الذين قُتلوا، وعدد المدنيين الأبرياء الذين قُتلوا، ورفض تقديم المساعدات والدعم، علينا أن نتراجع جميعًا ونسأل أنفسنا هذا السؤال ونتعامل معه بصدق، نعم”.

ورغم أن هذا التصريح لا يحمل إقرارًا واضحًا بالإبادة، فإنه يعكس بداية إدراك داخل الحزب الديمقراطي بأن الاستمرار في دعم دولة الاحتلال بلا شروط بات عبئًا انتخابيًا وأخلاقيًا ثقيلًا.

أزمة داخلية وانقسام متعمّق

لقد بات من الواضح أن الديمقراطيين لن يتمكنوا من تجاوز خسارتهم أو استعادة ثقة قواعدهم ما لم يغيّروا جذريًا موقفهم من القضية الفلسطينية. 

فقد كشف استطلاع للرأي أجراه مركز “بيو” في 3 أكتوبر/تشرين الأول أن ثلث الأمريكيين تقريبًا يعتقدون أن بلادهم تقدّم مساعدات مفرطة لدولة الاحتلال، بينما يرى 23% أن الدعم “مناسب”، و8% فقط يعتقدون أنه غير كافٍ، والأهم أن 18% فقط من الديمقراطيين باتوا ينظرون إلى حكومة الاحتلال نظرة إيجابية.

هذا التحوّل في المزاج العام يُبرز فجوة عميقة بين قيادة الحزب وقاعدته الشابة التقدمية، التي أصبحت ترى في ممارسات دولة الاحتلال تجسيدًا للظلم التاريخي، لا نموذجًا لـ”الديمقراطية في الشرق الأوسط” كما يروّج الإعلام الأمريكي الرسمي.

ولعلّ السبب الأهم في هزيمة هاريس الانتخابية كان يكمن في عزوف شرائح واسعة من الناخبين الشباب والأقليات عن التصويت، احتجاجًا على موقف الحزب من غزة، فالداعمين لحقوق الفلسطينيين لم يصوّتوا لترامب بالطبع، لكنهم رفضوا أيضًا التصويت لهاريس التي تجاهلت معاناتهم وتواطأت مع الإبادة عبر صمتها.

جيل جديد يغيّر قواعد اللعبة

يواجه الحزب الديمقراطي اليوم انقسامًا واضحًا بين الأجيال لم يعد ممكنًا تجاهله، فالأجيال الجديدة، خصوصًا من الأمريكيين ذوي الأصول الإفريقية والعربية واللاتينية، ينظرون إلى ما يجري في فلسطين من منظور العدالة وحقوق الإنسان، لا من زاوية التحالفات الاستراتيجية أو المزايدات الانتخابية.

وتشير دراسات “مؤسسة بروكينغز” إلى أن أقل من ربع الأمريكيين تحت سن الثلاثين لديهم رؤية إيجابية تجاه حكومة دولة الاحتلال، مقابل نسب أعلى بكثير بين الناخبين الأكبر سنًا. 

ولا تعد هذه الفجوة مجرد تباين في المواقف، بل تحوّلًا في الوعي السياسي داخل القاعدة الديمقراطية، التي باتت تعتبر دعم الاحتلال موروثًا سياسيًا فاسدًا يجب تغييره.

وبينما تحاول القيادات القديمة التمسك بلغة “التحالف الاستراتيجي”، تتزايد الأصوات الشبابية المطالبة بإعادة صياغة السياسة الخارجية الأمريكية على أساس الحقوق والعدالة، لا المصالح فحسب. 

ومن اللافت أن هذا التحول لم يعد حكرًا على الناشطين التقدميين، بل بدأ يتسلل إلى صفوف المشرّعين الجدد في الكونغرس ممن يتحدثون صراحة عن ضرورة إنهاء دعم الاحتلال وإنهاء نظام الفصل العنصري في فلسطين.

فرصة الديمقراطيين الأخيرة

من الناحية السياسية، لا تزال أمام الديمقراطيين فرصة لاستعادة زمام المبادرة في ملف الشرق الأوسط، لكن هذه الفرصة مرهونة بمدى استعدادهم للاعتراف بخطئهم السابق، وتبنّي نهج جديد يعترف بحقوق الفلسطينيين في الحرية وتقرير المصير.

وحتى لو ثبت وقف إطلاق النار الحالي، فإن الخطة التي صاغها ترامب لغزة ستنكشف سريعًا بوصفها رؤية قصيرة النظر لا تستند إلى أي أساس سياسي أو أخلاقي متين، فهي خطة أُعدّت من دون أي مشاركة فلسطينية حقيقية، وتعكس نظرة استعلائية تسعى إلى “إدارة” الصراع لا إنهائه.

غير أن الديمقراطيين لن يتمكنوا من استثمار هذا الفشل الجمهوري إلا إذا قدّموا بديلًا حقيقيًا، يقوم على مساءلة الذات أولًا، وتحمّل المسؤولية عن الصمت المطبق إزاء الإبادة التي ارتكبها جيش الاحتلال بحق سكان غزة.

إن أنصار العدالة لفلسطين لا يثقون بترامب، كما لا يتوهمون أن الجمهوريين سيصبحون حماة للحقوق الفلسطينية، لكنهم ينتظرون من الديمقراطيين أن يتصرفوا بما يتناسب مع قيمهم المعلنة، فقد سلّط ترامب الضوء على الفشل الأخلاقي والسياسي للديمقراطيين، وباتت الكرة الآن في ملعبهم.

فإما أن يراجع الحزب موقفه جذريًا، فيجعل من العدالة لفلسطين ركيزة لأي سياسة شرق أوسطية مستقبلية، وإما أن يواصل الغرق في تناقضاته بين الخطاب الليبرالي والممارسة المتواطئة، وفي الحالتين، لن يكون الصمت خيارًا ممكنًا بعد اليوم.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة