بقلم عوني المشني
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
 
ربما يختلف المفكرون حول دور الفرد في صناعة التاريخ، لكن الفيلسوف الروسي جورجي بليخانوف قد يكون الأقدر على الموازنة بين الحتمية التاريخية وتأثير الأفراد في مسارها، واليوم، تمثل حالة مروان البرغوثي مثالًا حيًا على هذا التوازن، خاصة بعد أن ألمح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب علنًا إلى إمكانية الدفع نحو الإفراج عن القائد الفلسطيني الأسير.
فقد أعادت تصريحات ترامب اللافتة تسليط الضوء على المكانة الاستثنائية التي يحتلها البرغوثي في تشكيل ملامح المشهد السياسي الفلسطيني القادم، لكن الفلسطينيين أنفسهم كانوا قد أدركوا منذ زمن طويل أهمية هذا الرجل، وتوقعوا أن يلعب دورًا محوريًا في مستقبلهم الوطني.
كان البرغوثي قد ترشح في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها محمود عباس قبل نحو عقدين، لكنه انسحب بطلب من زملائه في حركة فتح، كما كان يخطط للترشح في انتخابات عام 2021 التي أُلغيت لاحقًا، ويُجمع المحللون على أن أحد أسباب الإلغاء كان الخشية داخل السلطة الفلسطينية من فوزه المحتمل.
وليس من المستبعد أن تؤثر تصريحات ترامب الأخيرة في طبيعة تعاطي واشنطن مع القضية الفلسطينية مستقبلًا.
البرغوثي ليس مجرد أسير فلسطيني قضى ثلث عمره في سجون دولة الاحتلال، فهناك المئات ممن أمضوا مددًا أطول، لكن قلّ من نال مكانته الرمزية والسياسية الواسعة.
تحول البرغوثي إلى رمز للوحدة الفلسطينية وسط انقسامات طاحنة، واكتسب ثقة شعبية راسخة بفضل تاريخه الطويل في النضال وتضحياته الجسيمة وعمقه الفكري، ما مكّنه من صياغة مفهوم التحرر الوطني بلغةٍ تستوعب تعقيدات النظام الدولي.
يمتاز البرغوثي بقدرته على تحقيق التوازن، فهو مبدئي عندما تتطلب المبادئ موقفًا، وبراغماتي عندما تتيح الظروف، وحذر حين تقتضي المصلحة، ومنظم عند الحاجة، كما يمتلك عقلية نقدية قادرة على إحداث التغيير دون التسرع.
يؤمن البرغوثي بالمقاومة كحق وخيار مشروع لشعبٍ يرزح تحت الاحتلال، لكنه في الوقت ذاته يسعى لسلام عادل ودائم يحقق للفلسطينيين حريتهم واستقلالهم وكرامتهم، أي إنه يجمع بين الحلم بالتحرير والسعي الواقعي نحو الدولة، كما فعل حين دعم مساعي الرئيس الراحل ياسر عرفات للسلام، ثم قاد انتفاضة شعبية واسعة ضد الاحتلال عندما تبخرت آمال أوسلو.
في إحدى لقاءاتي معه، سألته: “مروان، كيف توفق بين القيمة العاطفية والتاريخية للوطن، والمفهوم السياسي للدولة؟ وهل يمكنك أن تقنع نفسك، قبل أن تقنع شعبنا، بهذا التوازن؟”.
أجاب دون تردد: “الوطن قيمة سامية، جزء من كينونة شعبنا، أما الدولة فهي التعبير السياسي عن واقعٍ معاش، فحتى الدول يمكنها أن تصنع أوطانًا، فسويسرا مثلًا هي اتحاد لبلدانٍ ألمانية وفرنسية وإيطالية، لكن الواقع السياسي أوجد وطنًا واحدًا اسمه سويسرا، لم يتخلّ الفرنسيون هناك عن هويتهم، لكنهم صاروا أيضًا سويسريين، ولا تناقض في ذلك، إذ يمكن للإنسان أن يحمل أكثر من هوية واحدة، وعلينا أن نعلّم شعبنا أن تعدد الهويات ليس صراعًا بل إثراءً”.
وليس من المستغرب أن يُطلق على مروان البرغوثي لقب “مانديلا فلسطين”، إذ تضاهي رمزيته رمزية الكوفية التي توّجت رأس عرفات، وتحولت لاحقًا إلى أيقونة عالمية للهوية والرواية الفلسطينية.
مقاتل من أجل السلام
البرغوثي هو مقاتل من أجل السلام، رجل ينحني أمام نسمة الأمل، لكنه لا يُقتلع أمام أعاصير القمع، إنه منفتح على أي مبادرة سلام تحمل بصيص رجاء، كما فعل مع اتفاق أوسلو، لكنه لا يتردد في قيادة انتفاضة كاملة حين يُخدع الأمل.
بل ولعل البرغوثي هو الشخصية الوحيدة القادرة على حشد الفلسطينيين خلف مسار سياسي محدد، كما فعل عرفات ذات يوم، مستندًا إلى تاريخه النضالي وثقة الناس به.
لقد أنبتت سنوات أَسْر البرغوثي الطويلة أملاً كبيرًا في قلوب الفلسطينيين، لكنها أفرزت في المقابل أيضًا غيرةً وخصومة داخل بعض أروقة السلطة، حيث يخشى منافسوه أن يؤدي الإفراج عنه إلى تهميشهم سياسيًا، وقد بلغت هذه الغيرة ذروتها خلال الإضراب الجماعي عن الطعام الذي قاده عام 2017، حين حاول البعض إضعافه أو منع الأسرى من الانضمام إليه.
وهنا يقول الأسير السابق عبد القادر بدوي، الذي قضى سنوات بجوار مروان في السجن ونال درجة الماجستير على يديه، في بودكاست “تقارب”: “كان هناك داخل السلطة من عمل بجدٍّ لمنع الإفراج عن مروان البرغوثي، لأنهم كانوا يدركون أنه منافس لا يُقهر”.
حين يحين اليوم الذي يتنفس فيه البرغوثي الحرية ويرى نور الشمس، ستقف كراهية اليمين المتطرف في دولة الاحتلال عائقًا أمامه، فحكومة الاحتلال وضعت خطًا أحمر حول الإفراج عنه، حتى لو أدى ذلك إلى إفشال الجهود الدولية لوقف الحرب على غزة.
ولا علاقة لذلك بالأمن، بل بالسياسة، لأن عودة البرغوثي إلى الساحة الفلسطينية ستعني خطوة حقيقية نحو إنهاء الانقسام الداخلي، من خلال شخصية تحظى بإجماع شعبي واسع وهو تحديدًا ما لا تريده دولة الاحتلال.
فطوال عقدين حرص رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو على تغذية الانقسام الفلسطيني لإضعاف التماسك السياسي، ومن الطبيعي أن يرفض إطلاق سراح من يشكل تهديدًا لتلك الاستراتيجية.
لكن ما يغيب عن بال نتنياهو هو أن تعميق الانقسام، لا سيما بعد حربٍ أشعلت الكراهية، سيؤدي إلى نشوء عشرات وربما مئات المجموعات المسلحة الخارجة عن السيطرة، تندفع نحو العنف غير المنضبط عندما تمتزج المرارة باليأس.
من عرفات إلى البرغوثي
ولهذا، فإن بروز قائد موحِّد للفلسطينيين، أو الإفراج عنه، قد يكون الحل وليس المشكلة ليس للفلسطينيين وحدهم، بل لدولة الاحتلال نفسها، فعندما وُضع المفاوضون الفلسطينيون أمام خيارين: الإفراج عن البرغوثي أو وقف الحرب الإباديّة على غزة، كانت الأولوية الطبيعية وقف المجازر.
وقد أدركت دولة الاحتلال هذه الحسبة جيدًا، وربما زاد ذلك من إصرارها على إبقائه في الأسر، لأنها تعلم أن إنهاء الإبادة عرضٌ لا يمكن للفلسطينيين رفضه، حتى وإن لم يشمل الإفراج عن رموزهم الوطنية.
وأتذكر أن جيش الاحتلال داهم منزلي خلال الانتفاضة الثانية، ضمن حملة تفتيش لمنازل عدة في الحي، وبعد أن عرف الضابط بموقعي السياسي، جرى بيننا نقاش طويل أشبه بالمناظرة، حينها قال لي أن دولة الاحتلال تريد التخلص من ياسر عرفات بأي وسيلة، فقلت له بوضوح: “تلك ستكون أكبر خطيئة سترتكبونها، أجل، قد يكون عرفات خصمًا صعبًا، لكنه الوحيد القادر على قيادة شعبه نحو سلام حقيقي”.
واليوم يمكن قول الشيء ذاته عن مروان البرغوثي: هو خصم عنيد في نظر الاحتلال، لكنه قد يكون الوحيد القادر على تحقيق سلام حقيقي ووضع حد لدائرة العنف، إن استمرار اعتقاله لا يمثل خسارة للفلسطينيين وحدهم، بل لكل من يتطلع إلى سلام واستقرار دائمين في المنطقة.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)







