تُعدّ مدينة نيويورك موطنًا لأكبر تجمع يهودي خارج دولة الاحتلال، إذ يقطنها ما يقرب من مليون يهودي، ولا يمكن لأي سياسي طامح لتولّي منصب عام في المدينة أن يتجاهل هذه الكتلة السكانية ذات التنوع الإثني والديني والسياسي والثقافي الكبير.
في الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي على منصب عمدة نيويورك، صوّت 67% من اليهود ممن هم دون سن 44 عاماً لصالح المرشح زهران ممداني، فيما حصد نحو 43% من أصوات اليهود إجمالاً، وفقًا لاستطلاع للرأي.
وقد شكّل بعض هؤلاء الناخبين مجموعة داخل القاعدة الداعمة لممداني، وأطلقوا على أنفسهم اسم “يهود من أجل زهران”، وهي مجموعة باتت تضم أفرادًا وأعضاء من منظمات مثل “يهود من أجل العدالة العرقية والاقتصادية” و”الصوت اليهودي من أجل السلام”، حيث تسعى هذه المجموعات إلى تعبئة قواعدها والانخراط في النقاش العام داخل المدينة دعماً للمرشح.
ومع اقتراب موعد الانتخابات النهائية، تحدث موقع ميدل إيست آي إلى عدد من اليهود الذين اختاروا دعم ممداني رغم حملات التشويه التي تصفه بـ “معاداة السامية”.
يقول جاكوب بلومفيلد، أحد المتطوعين الذين انضموا إلى آلاف المشاركين في الحملة، إنه يدعم ممداني لأنه يؤمن بأن “لكل إنسان في مجتمعنا الحق في أساسيات العيش الكريم وهي السكن، والرعاية الصحية، والتعليم، والمواصلات، والغذاء الصحي، والأمان”.
ويضيف: “هذه المقومات الأساسية لحياة مستقرة أصبحت بعيدة المنال لكثيرين، حتى لأولئك الذين كانوا يُعتبرون من الطبقة المتوسطة قبل ثلاثين عامًا، وهذا أمر غير مقبول، ممداني هو المرشح الوحيد الذي يتعامل بجدية مع مأساوية هذا الواقع”.
ويشرح بلومفيلد أنه يشارك في الحملة لأن “الحديث المباشر مع الناس وجهًا لوجه حول الأفكار هو جوهر السياسة وأهم عناصرها”، مشيرًا إلى أن اليهود الشباب يدعمون ممداني لأنهم لا يرون في دولة الاحتلال ممثلاً عنهم، ولأنهم مثل غيرهم من سكان المدينة، يواجهون أزمات السكن وتكاليف المعيشة.
ويتابع أن دولة الاحتلال “تدّعي أنها تمثل اليهود في كل مكان لتبرير جرائمها البشعة، رغم أن مسؤوليها يهاجمون اليهود الأمريكيين، بل إنه لا يُسمح لليهود غير الأرثوذكس من الخارج بممارسة شعائرهم بحرية في إسرائيل”.
ويضيف: “اليهود المناهضون للصهيونية يشعرون بمسؤولية أخلاقية لرفع صوتهم ضد القتل والاحتلال والدمار البيئي والتجويع والتهجير، وكل الجرائم التي تُرتكب باسمهم”.
“أحب مبادئه وأفكاره”
ومن بين المتطوعين في الحملة الانتخابية لممداني الممثل والكوميدي مات كيتاي (36 عامًا) الذي يقول: “أحب البرنامج الذي يترشح على أساسه زهران، وأحب طاقته ومبادئه وأفكاره، إنه شخص نادر يريد ببساطة أن يجعل مدينته مكانًا أفضل، لا أرى هذا في أي سياسي آخر”.
وأعرب كيتاي عن قلقه من المرشح المستقل وحاكم نيويورك السابق أندرو كومو، ومن آخرين يروّجون لروايات إسلاموفوبية عن زهران ويصفونه بمعاداة السامية.
وقال: “كل هذا الخطاب المعادي للإسلام، والاتهامات الزائفة بمعاداة السامية، يجعلني أشعر بعدم الأمان كيهودي، لأنهم يروّجون لأفكار ومفاهيم غير حقيقية تمامًا”.
ويرى الممثل الكوميدي مات كيتاي أن الخطر الحقيقي لا يكمن في المرشح المسلم زهران ممداني، بل في الخطاب التحريضي الذي يتبناه خصومه.
“في الحقيقة، الخطاب الذي يتبناه أندرو كومو هو ما يجعل الناس أقل أمانًا، إنه يضخّم فكرة معاداة السامية ويجعلها أكثر حضورًا وخطورة” – مات كيتاي، ممثل كوميدي
ويضيف أن أمن المسلمين واليهود مترابط، قائلاً: “أشعر أن زهران سيقدّم الكثير لكلٍّ من المجتمع اليهودي ومدينة نيويورك، بطريقة تجعلنا جميعًا أكثر شعورًا بالأمان”.
ويشير كيتاي إلى أنه لاحظ أشخاصًا يستخدمون حججًا معادية للإسلام لتبرير مخاوفهم من احتمال فوز ممداني برئاسة البلدية، قائلاً: “من المثير فعلاً سماع ذلك، لأنني أشعر مع زهران بأمان أكبر مما أجده مع كومو، الذي يستخدم الإسلاموفوبيا سلاحًا انتخابيًا رغم فساده الواضح”.
من جانبه، يرى الصحفي المقيم في نيويورك كاليب إسبيريتو-بلومفيلد أن ما يجذب الناس إلى ممداني هو حيويته الاستثنائية وقدرته على إلهام الناخبين، ويقول: “أشعر بنوع من المشاعر التي راودتني عندما كان أوباما في صعوده السياسي”.
ويضيف أنه متحمّس لأن يرى شخصًا مثل ممداني يتمكن من تحدّي التوقعات وكسر احتكار النخبة السياسية، رغم أن ماكينة الحزب الديمقراطي لا ترغب في تمثيله لها.
ولا يعتقد بلومفيلد أن ممداني سيتمكن من تنفيذ جميع وعوده، مثل تجميد الإيجارات أو توفير الحافلات مجانًا، لكنه يؤمن بأنه سيبذل جهدًا حقيقيًا لتحقيقها، ويقول: “أعتقد أنه يدرك جيدًا هموم جميع سكان نيويورك، بغضّ النظر عن خلفياتهم العرقية، وأؤمن بأنه سيحاول بصدق تحقيق هذه الأهداف”.
انقسام الأجيال حول دولة الاحتلال
ويقول بلومفيلد إن دعم بعض اليهود لممداني يعكس انقسامًا جيليًا واضحًا داخل المجتمع اليهودي حول الموقف من دولة الاحتلال، معتبراً أن “الجيل الأكبر سنًا ما زال يحمل تلك النظرة التقليدية تجاه إسرائيل، ويصعب عليه التخلّي عنها أو ألا يرى في نقدها تهديدًا لأمنه الشخصي، أينما كان في العالم”.
غير أن بلومفيلد لا يرى على الرغم من ذلك أن ممداني “معادٍ صارخ لإسرائيل”، موضحًا: “لا أعتقد أنه يمكن وصف زهران بأنه ضد إسرائيل بشكل صريح، والمفارقة أن هذا الرأي قد يثير استياء الجانبين، فالمناهضون للصهيونية يعتبرونه واحدًا منهم، بينما يراه الصهاينة خصمًا لهم”.
ويتابع بابتسامة: “القول إنه ليس ضد إسرائيل قد يكون التصريح الوحيد الذي يوحّد الطرفين، لأن كلا الجانبين الصهاينة والمناهضين للصهيونية متفقان على اعتباره معاديًا لإسرائيل”.
ويقول الصحفي كاليب إسبيريتو-بلومفيلد إن الحاكم السابق أندرو كومو “يتصرف وكأنه يهودي، رغم أنه ليس كذلك”، ويضيف ساخرًا: “عندما يتحدث عن إسرائيل، يبدو وكأنه يهودي مزيف، يتصرّف كما لو كان ملك اليهود! يستخدم كلمات يديشية عشوائية خلال المناظرات، كنت أصرخ في الشاشة: أنت لست يهوديًا”.
ويتابع بلومفيلد قائلاً إنه يشعر بالارتياح لكون ممداني مسلمًا، لأن اليهودية والإسلام منبعُهما واحد، مبينا أن “كليهما ديانتان ساميتان، اللغة متشابهة، والطعام متشابه، والعديد من المبادئ اليهودية قريبة جدًا من أركان الإسلام الخمسة، وفي نهاية المطاف، أؤمن أن جميع اليهود بغضّ النظر عن توجهاتهم الفكرية هم جزء من رؤيته لمستقبل نيويورك”.
تضامن الأقليات في وجه الانقسام
أما أحد سكان الجانب الشرقي الأعلى من مانهاتن، وهو رجل يهودي يبلغ من العمر 66 عامًا فضّل عدم ذكر اسمه، فيقول إن المجتمع اليهودي يعيش “انقسامًا مؤلمًا” يتمحور شقه الأول حول دولة الاحتلال، أما الثاني فهو حول ممداني، الذي تحوّل بدوره إلى رمز أو مرآة تكشف موقفك الحقيقي من الدولة العبرية.
ويضيف أنه كان قد صوّت في الانتخابات التمهيدية لصالح المرشح براد لاندر، لكنه قرر دعم ممداني في الانتخابات المقبلة، ما أثار ردود فعل غاضبة من بعض أفراد مجتمعه.
ومضى يقول: “تلقيت تعليقات كريهة بسبب دعمي لزهران، أنا أرتاد كنيسًا في حي ثري من المدينة، وسمعت أناسًا يقولون إنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان وإنهم سيضطرون للانتقال، هؤلاء يعيشون في منازل بملايين الدولارات ولديهم بيوت ثانية! لا أفهم مما يخافون”.
ويؤكد أن الكثير من اليهود يشعرون بالاشمئزاز من موجة الإسلاموفوبيا السافرة، سواء داخل المجتمع غير اليهودي أو على نحو أكثر صدمة داخل بعض الأوساط اليهودية نفسها.
ويضيف: “زهران يبذل جهدًا حقيقيًا للتواصل مع الجاليات اليهودية، وهو يفهم تمامًا ما يعنيه أن تكون يهوديًا أو مسلمًا تعيش كأقلية داخل مجتمع أغلبيته من المسيحيين”.
ويشير إلى أن بعض اليهود الذين يؤيدون ممداني يفضلون التزام الصمت خوفًا من ردود الفعل قائلاً: “هناك يهود يصوتون له لكنهم لا يصرّحون بذلك علنًا، لأنك ببساطة تتعرض لهجوم قاسٍ إذا فعلت”.
ورغم كل ذلك، يبدو هذا الناخب متفائلًا وهو يقول: “عندما ينقشع الغبار، أعتقد أن الآلاف من اليهود سيصوّتون لممداني”.
للإطلاع على النص الأصلي من (هنا)







