هدنة بلا حقيقة.. كيف تحوّل الإعلام البريطاني إلى درعٍ يغطّي إبادة غزة؟

بقلم حمزة يوسف 

ترجمة وتحرير نجاح خاطر 

ما هو المنطق الذي يمكن فيه الحديث عن “وقف لإطلاق النار” إذا كانت نيران دولة الاحتلال لم تتوقف؟ من واجب الإعلام أن يروي الحقائق بموضوعية ودقّة، لا أن يشارك في تضليل الرأي العام.

خلال الأسابيع الأخيرة، تحوّل انتباه العالم بعيدًا عن غزة، وكأن المأساة الفلسطينية فقدت أهميتها، فبعد أكثر من عامين على هجوم 7 أكتوبر، ومع استمرار حملة الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال بلا هوادة، جرى الإعلان عن “اتفاق لوقف الحرب” بوساطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

وفي 13 أكتوبر/تشرين الأول، شهدت مصر احتفالًا رسميًا وصفه ترامب بأنه “يوم تاريخي”، مؤكداً أنه “حقق ما كان الجميع يراه مستحيلًا”.

لكن بعد أيام قليلة فقط، شنّ جيش الاحتلال سلسلة من الغارات على غزة، أسفرت عن استشهاد أكثر من مئة فلسطيني، بينهم سبعة وأربعون طفلًا، وفجأة، كما نقلت وسائل الإعلام البريطانية، بدا أن “الهدنة” التي صمدت أسبوعين بدأت تتداعى.

سردية الإعلام البريطاني

لقد تبنت القنوات والصحف البريطانية الكبرى من “بي بي سي” و “الغارديان” و”التايمز” و”سكاي نيوز” إلى “فايننشال تايمز”، الخطاب ذاته تقريبًا، ووصفت قصف الاحتلال بأنه “اختبار” لوقف إطلاق النار أو “علامة على هشاشته”.

وهكذا، بالنسبة للمشاهد أو القارئ البريطاني، بدا أن حالة من الهدوء كانت سائدة وأن “الاحتلال ربما يختبر الاتفاق”، لكن الحقيقة أن العنف المنهجي لم يتوقف يومًا، ما توقف هو التغطية الصادقة له.

في الواقع، بقي الفلسطينيون في غزة يعيشون تحت القصف والتجويع والترويع، صحيح أن حدة القصف خفّت قليلًا، لكن الاحتلال لم يرفع سطوته ولا قبضته، وما يُسوّق له كـ”سلام” لم يكن سوى استراحة قاتل يلتقط أنفاسه.

كما كتب الصحفية الفلسطينية سارة عوض من غزة: “نجونا من الحرب، لكننا قد لا ننجو من الهدنة، لم يمر يوم واحد دون سقوط ضحايا، العنف لا يتوقف أبدًا.”

خلال أول أسبوعين من “الهدنة” المزعومة، استشهد 94 فلسطينيًا على الأقل، وسجّلت منظمات ميدانية 125 خرقًا من جانب جيش الاحتلال، بينها 52 حادث إطلاق نار مباشر على مدنيين، وتسعة توغلات بالدبابات داخل الأحياء السكنية، و55 غارة جوية، و11 عملية هدم لمبانٍ مدنية، إلى جانب اعتقال 21 فلسطينيًا في مناطق مختلفة من القطاع.

لكن هذه الأرقام غابت عن تغطية الإعلام البريطاني، الذي اختار أن “يطمس الصورة” ويقدّم مشهدًا ضبابيًا.

خيانة المهنة

في 19 أكتوبر/تشرين الأول، وبعد تسعة أيام فقط من إعلان الهدنة، قتلت دولة الاحتلال 11 فردًا من عائلة واحدة في حي الزيتون بمدينة غزة، بينهم سبعة أطفال، تمزقت أجسادهم بفعل القصف، وفي اليوم نفسه، أوقعت غارات الاحتلال أكثر من أربعين شهيدًا في رفح.

ومع ذلك، جاء عنوان تقرير “بي بي سي” في اليوم ذاته: “إسرائيل تقول إنها ستعود إلى وقف إطلاق النار بعد الغارات”.


لقد كان ذلك عنواناً وصفه الكاتب بأنه أشبه بوعد حارق بأن “يتوقف عن إشعال النار بعد أن تنتهي ألسنتها من ابتلاع البيت”.

ولم تكتفِ “بي بي سي” بالعنوان، بل نقلت رواية دولة الاحتلال كما هي، متحدثة عن “استهداف بنية تحتية إرهابية”، دون أي تحقق أو تفنيد.

وعلى مدى عامين من ادعاءات الاحتلال غير المسنودة بالأدلة، وسط أرشيف من الجرائم الموثقة والدمار اللامحدود، ما زالت وسائل الإعلام البريطانية تتعامل وكأنها ناطقة باسم جيش الاحتلال.

“شاهدت الحقيقة، لكنني اخترت بناء الوهم”، بهذه العبارة يمكن تلخيص أداء الإعلام البريطاني الذي واصل تزييف المشهد: المعتدي يُقدَّم كضحية، والإبادة تُباع للجمهور كـ”دفاع عن النفس”.

لقد وصفت بي بي سي سابقًا جريمة قتل شاب فلسطيني مصاب بمتلازمة داون بعدما نهشته كلاب جيش الاحتلال بأنها “الموت الوحيد لرجل من غزة يعاني من إعاقة”، وها هي تُعيد اليوم الأسلوب ذاته، لكن على نطاق أوسع.

تواطؤ الصحافة المكتوبة

في 20 أكتوبر/تشرين الأول، وصفت صحيفة “التايمز” غارات الاحتلال على مدرسة تؤوي نازحين بأنها جزء من “هدنة ما زالت صامدة”! بل أضافت أن “إسرائيل تسعى إلى الحفاظ على وقف إطلاق النار”، في الوقت الذي كانت فيه تمحو حياً كاملاً من الوجود.

أما “سكاي نيوز”، فقد نشرت خبرًا عن قتل فلسطينيين قرب ما يُعرف بـ”الخط الأصفر” الذي رسمه الاحتلال كحدّ فاصل مؤقت، مستخدمة عبارة: “قال جيش الدفاع الإسرائيلي إنه أطلق النار على إرهابيين”.

مرة أخرى، يُسمح لدولة الاحتلال بتصحيح ورقة امتحانها بنفسها، فيما يُعامَل بيانها على أنه حقيقة مطلقة.

ذلك “الخط الأصفر”، الذي يفترض أنه يفصل بين القوات المحتلة ومناطق المدنيين، تحوّل إلى منطقة قتل مفتوحة، حيث يُستهدف كل من يقترب. 

وهذا الخط في جوهره رمز لاستمرار الاحتلال، إذ يفصل الفلسطينيين عن أراضيهم الزراعية ومصادر المياه، ويكرّس الحصار عبر إبقاء السيطرة على المعابر بما فيها معبر رفح مع مصر، لتبقى غزة سجناً مفتوحاً.

الدعاية بالتغافل

حتى حين تناولت “بي بي سي فيرفاي” هذا الأمر في تقرير بعنوان “خط السيطرة الإسرائيلي داخل غزة أعمق مما كان متوقعًا”، استخدمت لغة تقنية باردة: “حدود”، “علامات”، “إجراءات تحكم”، لكنّ كلمة واحدة لم تَرِد: الاحتلال.

أما في مسألة المساعدات الإنسانية، فواصلت الصحف تلطيف الجريمة، فرغم أن اتفاق الهدنة نصّ على دخول 600 شاحنة مساعدات يوميًا، لم يسمح الاحتلال إلا بدخول أقل من ألف شاحنة خلال ثلاثة أسابيع.

وقد وصفت المنظمات الإغاثية الوضع بأنه “كارثي”، لكن الصحف البريطانية، مثل “الغارديان”، وصفت المنع بأنه “خلاف” حول المساعدات، و”إغلاق مؤقت” لمعبر رفح، ولم تذكر كلمة “عقاب جماعي” ولا “انتهاك للقانون الدولي”.

بهذا الشكل، يواصل الإعلام البريطاني، تحت ستار الحياد، دوره في تبييض الجرائم وإعادة إنتاج سردية دولة الاحتلال. 

فكل خبر يتم تفريغه من مضمونه السياسي والإنساني، وكل مصطلح قانوني يُستبدل بتعبير ملتبس، يضيف طبقة جديدة من الضباب، ويمنح القاتل مساحة أوسع للإنكار.

لا “وقفًا لإطلاق النار” بالنسبة للفلسطينيين، ولا راحة من القصف، ولا توقفًا عن الحصار، كل ما تغيّر هو لهجة المراسلين الغربيين.

أما دولة الاحتلال فما زالت ماضية في مشروعها القديم: تهجير، تجويع، محو، وضمّ، بينما يواصل الإعلام البريطاني لعب دوره المألوف: التغطية على الجريمة لا كشفها.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة