بقلم ديفيد هيرست
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
رحل جيفري بندمان، أحد أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان في بريطانيا، تماماً مثلما عاش: رجلًا مبدئيًا لا يساوم على ضميره.
وفي الظروف الطبيعية، فإن موته كان سوف يستدعي فيضًا من التكريم والاحتفاء، فهو مؤسس شركة المحاماة الشهيرة بندمان وشركاه، والرئيس السابق للمعهد البريطاني لحقوق الإنسان، كما أنه حائز على جائزة نقابة المحامين المئوية لحقوق الإنسان عام 2003، إضافة إلى أنه نال لقب (فارس) تقديرًا لإسهاماته في هذا المجال
لكن هذه ليست أوقاتًا طبيعية، فرغم مسيرته الطويلة والمشرّفة، إلا أن رحيل بندمان قوبل بصمتٍ لافت، خصوصًا من شخصٍ كان يومًا قريبًا منه، إنه المحامي كير ستارمر، زعيم حزب العمال الحالي.
كان الرجلان صديقين قديمين، جمعهما الإيمان بحقوق الإنسان وموقعهما في الجناح اليساري المعتدل من الحزب، لكن صداقتهما تصدّعت حين وقف بندمان إلى جانب جيرمي كوربن، الرئيس السابق لحزب العمال، في وجه الاتهامات التي لاحقته بشأن ما وُصف بأنه “تفشٍ لمعاداة السامية” داخل الحزب في عهده.
كانت تلك المحطة فاصلة، فبينما انحاز ستارمر إلى الرواية الرسمية، رأى بندمان أن ما جرى بحق كوربن هو حملة سياسية قاسية لا تشبه شيئًا مرّ به طوال حياته المهنية والحزبية.
وكما قالت جيني مانسون، الرئيسة المشاركة لحركة “الصوت اليهودي من أجل حزب العمال” التي كان بندمان أحد أعضائها: “لم يكن جيفري من الجناح اليساري المتشدد، وكان ليكون سعيدًا بزعيمٍ نزيه مثل كير ستارمر، لكن ليس بالزعيم الذي أصبح عليه ستارمر اليوم”.
تلخص كلمات مانسون تلك الجرح الإنساني الذي حمله بندمان حتى أيامه الأخيرة، جرحٌ سببه الإقصاء من حزبٍ أفنى عمره في خدمته، والخذلان من صديقٍ كان يرى فيه حليفًا في الدفاع عن العدالة.
كان بندمان يهوديًا، وقد عانى في شبابه من التمييز في مهنة القانون، وهو يتذكر تلك التجربة بوضوح حين قال في مقابلةٍ أُجريت معه قبل ثلاث سنوات.
في تلك المقابلة قال بندمان: “كنت قد تخرجت من أكسفورد وبدأت عملي في مكتب محاماة، سألت عمي، وهو محامٍ أيضًا، إن كان ربّ عملي الجديد يعلم أنني يهودي؟ فقال لي: عليك أن تتأكد بنفسك”.
وأضاف متابعاً روايته للقصة: “سألت مديري أثناء لقائنا: هل تعلم أنني يهودي؟ فأجابني بابتسامةٍ باردة: بالطبع أعلم، ولكن طالما ذكرت ذلك، ينبغي أن أوضح شيئًا: لن يمكنك أبدًا أن تصبح شريكًا في هذه الشركة، عندها غادرت المكتب ولم أعد إليه بعدها أبدًا”.
كانت تلك الحادثة نقطة تحوّل في وعي بندمان، إذ دفعته لمقاومة أي شكل من أشكال الإقصاء، سواء على أساس الدين أو العرق أو الانتماء السياسي.
ومنذ سبعينيات القرن الماضي، كان بندمان أحد المهندسين الرئيسيين لقوانين المساواة وحقوق الإنسان في بريطانيا، فقد عمل مستشارًا قانونيًا لمجلس العلاقات العرقية بين عامي 1966 و1976، ثم في لجنة المساواة العرقية من 1976 إلى 1983.
وفي عام 1974 أسس شركته (بندمانز) على مبادئ واضحة قوامها “حماية حقوق وسمعة سكان لندن المحليين، والدفاع عن المنظمات والأعمال التقدمية”.
في عام 2007، قامت الدولة بتكريمه ومنحه لقب (فارس) تقديرًا لخدماته في ميدان حقوق الإنسان، ثم مُنح لقب (مستشار الملك الفخري) عام 2011، وحصل على جائزة (الإنجاز مدى الحياة) عام 2023 تكريمًا لإسهاماته الممتدة في القانون العام والحريات المدنية.
لكن قلب بندمان ظل، رغم كل تلك الأوسمة، معلّقًا بحزب العمال الذي نشأ فيه سياسيًا، فقد كان عضوًا نشطًا، وعضو مجلس بلدي، ونائبًا لرئيس بلدية كامدن، ورئيسًا لجمعية محامي الحزب قبل أن تصطدم تلك المسيرة المزدوجة، القانونية والسياسية، لاحقًا بأزمة اتهامات “معاداة السامية” التي هزت الحزب في عهد كوربن.
كان بندمان يرى في تلك الأزمة أكثر من مجرد سوء إدارة، كان يراها انحرافًا أخلاقيًا وسياسيًا عن قيم العدالة التي نذر نفسه لها.
ضمير لا يساوم
وفي خضم الجدل الذي هزّ حزب العمال حول اتهامات “معاداة السامية” خلال قيادة جيرمي كوربن، كان جيفري بندمان يرى أن الحقيقة تتعرض للتشويه المتعمد، وبوصفه محاميًا متمرسًا درس التمييز والعنصرية بعمق فقد كان حساسًا جدًا لما يختبئ خلف الخطاب من إشاراتٍ غير مرئية تعكس إقصاء اليهود أو النظر إليهم كغرباء.
ومع ذلك أكّد بندمان بحزم: “لقد شاركت في حزب العمال سنوات طويلة، ولم أشهد يومًا معاداةً للسامية بين أعضائه أو في اجتماعاته”.
كان صوت بندمان في هذا الملف نادرًا وصادقًا في آن واحد، فقد عرف الحزب من الداخل، وعرف القانون من جذوره، ولذلك لم يقبل أن يرى العدالة تُستبدل بالمزايدات السياسية.
وحين خلصت لجنة المساواة وحقوق الإنسان البريطانية إلى أن حزب العمال انتهك قانون المساواة لعام 2010 بسبب “التحرش غير القانوني والتمييز غير المباشر” في معالجة شكاوى معاداة السامية، كان بندمان غاضبًا.
فهو الذي عمل مستشارًا قانونيًا للمؤسسات السابقة لتلك اللجنة، وهو الذي يعرف تمامًا كيف تُبنى القضايا القانونية ومتى تُستخدم كأداة ضغط.
وعن ذلك قال محتداً: “إذا اعتبروا أن كين ليفينغستون وأحد أعضاء المجالس المحلية ارتكبا تحرشًا غير قانوني، فهذا لا يجعل الحزب مسؤولًا وكأن كل عضو فيه أصبح وكيلًا عنه، هذا هراء قانوني”.
كان بندمان يرى أن استنتاجات اللجنة كانت مليئة بالتناقضات، وكان يعتبر أن التقرير الذي أعدّه المحامي مارتن فورد، المكلّف من قبل كير ستارمر بالتحقيق في تسريب تقرير داخلي، قد أشار إلى أن تدخل مكتب كوربن في معالجة الشكاوى لم يكن تدخّلًا لإخفاء الحقائق، بل محاولة لتسريع الإجراءات.
لقد قال بندمان عن ذلك: “لقد كانوا يُسألون من الجهة المسؤولة عن التحقيق لتقديم المساعدة، واستجابوا لذلك، وهذا لم يكن تدخلاً للتأثير على النتائج، بل لتسريع العدالة”.
لكن الحقيقة بالنسبة إليه لم تكن قانونية فقط، بل أخلاقية أيضًا، فقد رأى أن الأزمة كلّها كانت عملية تلاعب سياسي هدفها تشويه كوربن وإقصاؤه.
وقال بوضوح: “أعتقد أن ما حدث كان تلاعبًا سياسيًا، وأن الاتهامات كانت في معظمها باطلة، نعم، هناك معاداة للسامية في كل مكان، لكنها لم تكن مبررًا لاستهداف حزب العمال أو جيرمي كوربن وفتح تحقيق خاص به”.
لم يكن بندمان من أتباع كوربن فكريًا، لكنه كان يؤمن بالعدل وبضرورة حماية سمعة الحزب من الاستغلال السياسي، ولهذا السبب وقف إلى جانب الرجل الذي انقلب عليه حزبه ووسائل الإعلام معًا، متحديًا السردية السائدة التي جعلت من كل انتقاد لدولة الاحتلال علامةً على “كراهية اليهود”.
ومع مرور الوقت، دفع بندمان ثمن مواقفه باهظًا، لقد أصبح منبوذًا في أروقة الحزب الذي أحبّه، بينما احتفظ خصومه بالمناصب والعطايا، ومع ذلك، ظل وفيًا لقناعته بأن “العدالة لا تُقاس بالانتماء السياسي، بل بالصدق مع النفس”.
وحتى أيامه الأخيرة، بقي بندمان صوتًا للضمير في زمنٍ ندر فيه الصدق، لم يطلب شهرةً ولا مديحًا، بل سار ببوصلةٍ واحدة: أن يتبع ضميره مهما كانت الكلفة، وربما لهذا السبب تحديدًا، غاب صوته الجريء في زمنٍ يحتاج إلى رجالٍ مثله أكثر من أي وقت مضى.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







