من العزلة إلى السجادة الحمراء: زيارة بن سلمان التي غيّرت معادلة النفوذ السعودي–الأمريكي

بقلم محمد المصري

ترجمة وتحرير موقع بالعربية

في زيارة وُصفت بأنها من بين أكثر الاستقبالات بهرجة في تاريخ البيت الأبيض، عاد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى واشنطن يوم 18 نوفمبر/تشرين الثاني، لكن ليس كمسؤول يسعى لترميم صورته، بل كقائد إقليمي تمت إعادة تأهيله بالكامل داخل مركز صنع القرار الأمريكي.

لقد استقبله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بما يشبه عروض الدول العظمى: فرقة البحرية الأمريكية، استعراض خيالة، تحليق عسكري، وإطلاق 21 طلقة ترحيبياً.

لم يكن المشهد مجرد بروتوكول رسمي، بل إعلانًا مدويًا بأن الأمير الذي اعتُبر يومًا ما “منبوذًا” بعد جريمة اغتيال جمال خاشقجي، قد عاد إلى واشنطن مكرّمًا يلقى الحفاوة، بل وممسكًا بأوراق قوة جديدة.

ما حملته الزيارة كان أبعد من مجرد الرمزية وتجاوز البهرجة الشكلية، فقد مثلت الزيارة لحظة مفصلية في إعادة تشكيل ميزان القوة بين الرياض وواشنطن عبر حزم من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية غير المسبوقة، في تحولٍ قد يُعيد صياغة طبيعة العلاقة بين البلدين لعقود قادمة.

طي صفحة خاشقجي نهائيًا

شكّلت الزيارة إعلانًا رسميًا، وربما نهائيًا، عن إسدال الستار على قضية اغتيال الصحفي جمال خاشقجي داخل قنصلية بلاده في إسطنبول عام 2018، رغم تأكيد تحقيقات وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بأن ولي العهد هو من أعطى الأمر بالعملية.

وبعد وعود انتخابية من جو بايدن بأن يجعل السعودية “منبوذة” وأن يدفعها ثمن الجريمة، عاد المشهد اليوم ليظهر أن البوصلة الاستراتيجية لواشنطن تغيّرت تمامًا، فالمصالح قبل المبادئ، والصفقات قبل العدالة.

أحد المشاهد الأكثر دلالة وقع خلال المؤتمر الصحفي المشترك في المكتب البيضاوي، فقد سألت مراسلة ABC الإخبارية، ماري بروس، الأمير مباشرة عن خاشقجي، لكن ترامب قاطعها بغضب وراح يجيب بدلاً منه.

لقد هاجم ترامب القناة واصفًا إياها بـ”الأخبار المزوّرة”، واعتبر خاشقجي شخصية “مثيرة للجدل”، وأن “أشياء تحدث”، قبل أن يؤكد أن ابن سلمان “لم يكن يعلم شيئًا عن الأمر”.

كان ذلك التصرف رسالة واضحة: البيت الأبيض يعلن رسميًا أن مرحلة خاشقجي أصبحت من الماضي، وأن المصالح الجديدة أهم من المحاسبة.

مال ونفوذ سعودي 

ولطالما كانت أموال السعودية حاضرة في شوارع وول ستريت وهوليوود، لكن ما قُدم هذه المرة كان مختلفًا، ففي مايو/أيار، تعهد محمد بن سلمان باستثمار 600 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي، وفي ذروة اللقاء، رفع المبلغ إلى تريليون دولار، وسط ابتهاج ترامب الذي رأى في ذلك فرصة ذهبية لتمويل وعوده الانتخابية وتحريك عجلة الوظائف.

لكن وراء هذه المبالغ الضخمة معادلة سياسية جديدة، فمن يمول اقتصاد الولايات المتحدة، يشتري جزءًا من نفوذها السياسي.

ومع أن الكفة الراجحة في ميزان القوة ظلت تميل في صالح واشنطن، إلا أن الاستثمارات السعودية بهذا الحجم، حتى لو لم تُنفذ بالكامل، تمنح الرياض نفوذًا اقتصاديًا يولّد تأثيرًا في المؤسسات والشركات والمشرّعين، ويجعل أي ضغط أمريكي على ملف حقوق الإنسان أو السياسات الإقليمية للسعودية أكثر تعقيدًا وأقل احتماليةً.

يحاول ولي العهد منذ سنوات بناء قوة سعودية في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، خاصة الذكاء الاصطناعي.

وتأتي زيارته لتمنح هذا الطموح دفعة غير مسبوقة بعد إعلان ترامب موافقته على بيع رقاقات حوسبة متطورة لتغذية مراكز البيانات الضخمة التابعة لشركة “Humain”، في خطوة تنافس ما يقوم به الإماراتيون الذين يشترون بدورهم شرائح متقدمة من شركة “إنفيديا”.

إلى جانب ذلك، وُقع اتفاق نووي مدني قد يمكّن الرياض من تطوير برنامج نووي واسع يشمل جوانب الدورة النووية كافة من إنتاج الكعكة الصفراء إلى تخصيب اليورانيوم وصناعة الوقود النووي للاستخدام المحلي أو التصدير.

ولا يزال السؤال مفتوحًا: هل ستمنح واشنطن السعودية حق التخصيب المحلي أم ستفرض عليها “اتفاقية 123” التي تمنع ذلك؟ وأياً كان الجواب، فإن السعودية خرجت رابحة في كل السيناريوهات.

أما بخصوص الجانب العسكري في زيارة محمد بن سلمان إلى واشنطن فإنه لم يكن مجرد تفصيل في قائمة طويلة من الاتفاقيات، بل كان أهم ما غادر به ولي العهد من العاصمة الأمريكية، إذ نجح في انتزاع مكاسب دفاعية غير مسبوقة، تقود إلى تغيير ميزان القوى في المنطقة، وتمنح السعودية قدرات لم تقترب منها في السابق.

تحالف دفاعي غير مسبوق

فقد أعلن ترامب خلال الزيارة منح السعودية صفة “حليف رئيسي من خارج الناتو” (MNNA)، وهي صفة لا تُمنح إلا لعدد محدود من الدول التي تحظى بثقة استراتيجية خاصة لدى واشنطن.

وإلى جانب ذلك، وقّع الجانبان اتفاقية دفاعية استراتيجية (SDA)، يُرجّح أن تشبه الاتفاق الذي وُقّع مع قطر قبل أشهر، لكن دون وضوح بشأن ما إذا كانت تلزم الولايات المتحدة بالدفاع المباشر عن السعودية في حال تعرضها لهجوم.

ورغم غياب التفاصيل، فإن الرسالة السياسية كانت واضحة: البيت الأبيض يمنح الرياض مقامًا لا تقدمه واشنطن إلا لحلفاء الصف الأول فقط.

صفقة F-35… الصدمة الإقليمية

أحد البنود الأكثر حساسية كان اتفاق بيع مقاتلات F-35 للسعودية، المقاتلة الأحدث في العالم، التي تعد جوهرة الطيران الأمريكي والتي تنفرد دولة الاحتلال وحدها في المنطقة بامتلاكها، بحكم شرط “التفوق العسكري النوعي” الذي تفرضه واشنطن لصالح تل أبيب.

لكن ترامب أكد أن المقاتلات التي ستحصل عليها السعودية ستكون “من أعلى مستوى”، بل إن التقارير تحدثت عن رغبة الرياض في الحصول على 48 طائرة وهو عدد يفوق أسطول دولة الاحتلال نفسها.

ورغم تسريبات عن إمكانية “خفض مواصفات” النسخة المقدمة إلى السعودية لحماية التفوق النوعي لدولة الاحتلال، فإن كلام ترامب بدا حاسمًا: لا تخفيض، ولا ربط للصفقة بتطبيع العلاقات.

هنا بالتحديد ارتفعت مخاوف تل أبيب، التي كانت تضغط على ترامب لربط الصفقة باتفاق تطبيع مع الرياض، لكن البيت الأبيض بدا مستعدًا لتجاوز تلك الحسابات.

هنا بالتحديد ارتفعت مخاوف تل أبيب، التي كانت تضغط على ترامب لربط الصفقة باتفاق تطبيع مع الرياض، لكن البيت الأبيض بدا مستعدًا لتجاوز تلك الحسابات.
تبدو تداعيات الاتفاق الدفاعي واضحة، ذلك أن إيران سوف تنظر إليه بوصفه تهديدًا مباشرًا وتعزيزًا لقوة منافستها الخليجية، أما الإمارات فستقلق من التفوق التقني السعودي في الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا السلاح، خصوصًا أن أبو ظبي تتنافس مع الرياض على أدوار النفوذ الإقليمي والاقتصادي.
من طرفها، ستستشعر دولة الاحتلال خطر تقلّص الهوّة العسكرية التي تميّزها عن محيطها العربي، خاصة مع دخول السعودية إلى نادي الدول المالكة للتكنولوجيا العسكرية الأحدث.

انتصار سعودي كامل وارتدادات عربية وفلسطينية

يغادر محمد بن سلمان واشنطن وهو في موقع أقوى سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا مما كان عليه قبل الزيارة، فقد استعاد شرعيته الدولية، وأعاد رسم صورة السعودية باعتبارها قوة إقليمية لا يمكن تجاهلها، واشترى بشكل مباشر نفوذًا داخل الاقتصاد والسياسة الأمريكية، وحرّك رؤية 2030 خطوة كبرى إلى الأمام عبر اتفاقيات الذكاء الاصطناعي والطاقة النووية والتسليح.

في المقابل، يعود ترامب إلى قاعدته الانتخابية محمّلًا بوعود إنجازات: تريليون دولار استثمارات، فرص عمل جديدة، وتوسيع تحالفات واشنطن الشرق أوسطية، وهي أوراق انتخابية ثمينة.

عربياً، هناك انقسام إلى فريقين من حيث المواقف، فريق المهتمين بالحرية وحقوق الإنسان الذين يرون في الزيارة تكريسًا لنفوذ “الثورة المضادة” التي دعمتها السعودية بعد الربيع العربي.

أما الفريق الثاني فهم الفلسطينيون الذين يعيشون بين أملٍ وحذر، فرفض السعودية للتطبيع يبقى مكسبًا سياسيًا، لكن انخراط ابن سلمان في مناقشة “خطة ترامب لغزة” يثير مخاوف من تراجع مركزية القضية الفلسطينية في الحسابات الإقليمية.

وبكل الأحوال، فإن القضية الفلسطينية اليوم تقف أمام مفترق طرق، فهل تدفع القوة السعودية الجديدة باتجاه الضغط لقيام دولة فلسطينية كاملة السيادة؟ أم يغطي بريق الصفقات على جوهر القضية، لتُستبدل الحقوق بالوعود، والحرية بالحسابات الاستراتيجية؟

بالنهاية، تقف زيارة محمد بن سلمان كعلامة فارقة، لقد انتهت مرحلة النبذ، وبدأت مرحلة القوة، ولم يكن الاحتفاء الذي ناله في البيت الأبيض مجرد بروتوكول، بل إعلانًا واضحًا بأن واشنطن ولأسباب اقتصادية وجيوسياسية باتت مستعدة للتعامل مع ولي العهد بوصفه أحد أهم اللاعبين في المنطقة، وربما العالم.

ومع كل صفقة وابتسامة رسمية، كان يتأكد أن الفصل الأخير من ملف خاشقجي قد طُوي، وأن المستقبل يُكتب الآن بحبر القوة والنفوذ والمصالح المتبادلة، لقد عاد النفوذ السعودي وها هو ابن سلمان يخرج من ظل خاشقجي ويعود لاعبًا مركزيًا في واشنطن.

وبعد يومٍ واحد من الاحتفالات الواسعة في البيت الأبيض، تبدو الصورة أوضح: محمد بن سلمان خرج من الزيارة ليس فقط كرجل استعاد مكانته، بل كشريك كامل في صياغة مستقبل العلاقة الأمريكية–السعودية، ومهندسٍ لمرحلة جديدة من القوة الخليجية التي تمتد من الاستثمار إلى التسليح والتكنولوجيا.

يُجمع المراقبون على أن ولي العهد عاد من واشنطن محمّلًا بأرباح سياسية واستراتيجية جعلته يتجاوز تمامًا إرث جريمة اغتيال جمال خاشقجي، فملف خاشقجي الذي كان يلاحق الرياض في المحافل الدولية اختفى من المشهد الرسمي الأمريكي، في لحظة يمكن وصفها بأنها “إعادة تأهيل كاملة” لزعيمٍ كانت واشنطن نفسها تُشهِر الاتهامات في وجهه قبل سنوات قليلة.

واليوم، تتعامل الولايات المتحدة مع ابن سلمان بوصفه رجل المرحلة، إنه شريك اقتصادي ضخم، وحليف دفاعي يتجه ليصبح من أعمدة الترتيبات الأمنية الأمريكية في الشرق الأوسط.

وها هي الاستثمارات تشتري النفوذ وتعيد رسم السياسة الأمريكية، ذلك أن الالتزام السعودي باستثمار تريليون دولار في الاقتصاد الأمريكي، إلى جانب ضخ الأموال في التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والطاقة النووية، يعيد خلق شبكة نفوذ سعودية عميقة في المؤسسات الاقتصادية والسياسية الأمريكية.

هذه الاستثمارات ستتحول إلى مصالح لشركات وأطراف ضغط داخل واشنطن، ما يجعل أي محاولة لمساءلة السعودية في ملف حقوق الإنسان أو الحرب في اليمن أو غيره أكثر تعقيدًا، وربما مستحيلة سياسيًا.

إن هذا بحد ذاته يعد تحوّلًا في ميزان القوة، ذلك أن نفوذ واشنطن التقليدي على الرياض آخذ بالتراجع فيما تنجح الأخيرة في صناعة نفوذ مضاد داخل المؤسسات الأمريكية نفسها.

فوائد داخلية متبادلة

على المستوى الداخلي، سيعود محمد بن سلمان إلى المملكة محمّلًا بحزمة إنجازات يمكن توظيفها مباشرة في تسويق “رؤية 2030” ومن بينها تعزيز القدرات العسكرية وشراء مقاتلات F-35، توسيع الحضور في الذكاء الاصطناعي عبر صفقات شرائح الحوسبة، إطلاق برنامج نووي مدني يمكن أن يتطور إلى قاعدة صناعية ضخمة، ضخ استثمارات أمريكية مباشرة تفتح أسواقًا ومشاريع جديدة.

بهذه المكاسب، يستطيع ولي العهد تقديم نفسه لشعبه بوصفه القائد الذي استطاع إخراج السعودية من منطقة النفوذ المحدود إلى صفوف القوى التي تمتلك أوراق تأثير على القرار الدولي. أما ترامب، فإنه سيتحصل على مكاسب انتخابية بلا كلفة سياسية، وهو الذي خرج من الزيارة رابحًا أيضًا، فهو سيذهب إلى قاعدته الانتخابية مدعومًا بالأرقام التي يحب أن يتباهى بها، تريليون دولار من الاستثمارات الأجنبية، توقعات بخلق آلاف الوظائف، اتفاقيات دفاعية تعزز مكانة الولايات المتحدة كقوة عسكرية لا غنى عنها، تحالف معلن مع إحدى أثقل القوى الإقليمية.

هذه المعطيات تمنح ترامب فرصة لعرض الزيارة كـ”نصر اقتصادي وسياسي”، يضاف إلى سلسلة تعهداته الانتخابية.
وسط هذه الاحتفالات، يبقى المشهد الأكثر قتامة هو سهولة دفن ملف خاشقجي، فقد بدا واضحًا أن الصحفي الذي قُتل وقُطّعت جثته داخل قنصلية بلاده في إسطنبول، أصبح صفحة طُويت لصالح التحالفات والصفقات.

يشير الكاتب إلى أن كثيرًا من الصحفيين والحقوقيين يشعرون بالصدمة والغضب من الطريقة التي تعاملت بها واشنطن مع الجريمة، لما تمثله من انتكاسة أخلاقية وسياسية، لكن لغة المصالح كانت أقوى من لغة العدالة. في تل أبيب، تلقت النخبة الأمنية والسياسية الأخبار بقلق بالغ، ذلك أن دولة الاحتلال التي سعت لتقييد الصفقة وربطها بالتطبيع، فوجئت بإعلان ترامب أن الصفقة ستتم “بدون شروط”، وأن الطائرات المقدمة إلى السعودية ستكون “من أعلى مستوى”.

هذا التحول يعني شيئًا واحدًا وهو أن السعودية تقترب من تقليص الفجوة العسكرية مع دولة الاحتلال، وتتجاوز باقي القوى الإقليمية، بما فيها إيران والإمارات. ورغم بقاء “التفوق النوعي” قائمًا من حيث المبدأ، فإن إدخال F-35 إلى القوات الجوية السعودية يغيّر قواعد اللعبة لسنوات مقبلة.

بدورهم يعيش الفلسطينيون بين الأمل والخشية، ذلك أن الزيارة تحمل تأثيراً مزدوجاً على القضية الفلسطينية، إنهم يشعرون بالأمل لأن الرياض لا تزال ترفض التطبيع دون دولة فلسطينية كاملة السيادة، ويحسون بالقلق لأن الدعم السعودي لخطة ترامب بشأن غزة قد يعني تراجعًا لمركزية القضية، أو نقلها إلى مسار جديد تتحكم به واشنطن.

وبين الموقفين، يتساءل الفلسطينيون عما إذا كانت السعودية قد تستثمر هذا النفوذ الجديد لتحريك ملف الدولة الفلسطينية؟ أم أن واشنطن ستقوم بدفن هذه الملفات في دهاليز المفاوضات التي لا تنتهي؟

لحظة انتصار كبرى للثورة المضادة

ما حدث في واشنطن لم يكن مجرد زيارة، بل احتفال صريح بانتصار الثورة المضادة التي دفعت نحو إجهاض موجات التغيير في المنطقة بعد الربيع العربي.

فقد مثّل الاحتفاء بمحمد بن سلمان “رقصة نصر” لقوى الاستبداد العربية، ولشراكة أمريكية–سعودية تعلو فيها المصالح على الديمقراطية وعلى حقوق الإنسان. ومع صعود نفوذ ابن سلمان، تعود المنطقة إلى مرحلة تتقدم فيها السياسات الصلبة على حساب الشعوب، وتُدار فيها ملفات الشرق الأوسط وفق معادلات القوة التجارية والعسكرية، وليس وفق القيم أو القوانين الدولية.

بعد كل ما حملته زيارة البيت الأبيض من رسائل ودلالات، لا بد من إجراء تقييم شامل لطبيعة التحولات التي ستصنعها هذه الزيارة في السياسة الإقليمية والدولية، وفي مستقبل النفوذ السعودي داخل الولايات المتحدة، وفي موازين القوى داخل الشرق الأوسط.

واشنطن تعيد رسم قواعد اللعبة

خرجت الولايات المتحدة من المشهد وهي تؤكد من دون تصريحات مباشرة أنها عادت لتراهن على محمد بن سلمان كشريك طويل الأمد.

ورغم كل الانتقادات، تعاملت الإدارة الأمريكية مع الزيارة بوصفها محطة لإعادة بناء شراكة استراتيجية لا يقيّدها ملف حقوق الإنسان ولا حسابات الكونغرس، ولا حتى صدمة اغتيال جمال خاشقجي.

لقد بدا واضحًا أن واشنطن مستعدة لتجاهل الحالة الاستثنائية التي عاشتها علاقتها مع الرياض منذ 2018، وأنها اليوم تقف على أرضية جديدة تمامًا، أرضية براغماتية صِرفة، ومعادلة قوة تتشكل حول الاقتصاد، والاستثمارات، والتكنولوجيا، والسلاح.

إن الاتفاقيات العملاقة التي وقعها ولي العهد من الاستثمارات إلى النووي إلى الذكاء الاصطناعي تُظهر رغبة سعودية في صياغة دور جديد يتجاوز الدور التقليدي للمملكة في سوق النفط، نحو موقع فاعل في التكنولوجيا الدفاعية والمدنية والتصنيع العسكري.

وها هي السعودية اليوم تبحث عن تنويع اقتصادها بعيدًا عن النفط، وامتلاك بنى تحتية عميقة في الذكاء الاصطناعي، وتأسيس برنامج نووي مدني يمكن أن يتحول إلى قاعدة صناعية تنافسية، وتعزيز القوة العسكرية بما يجعلها قوة إقليمية أولى.

وبذلك، تتحول المملكة من شريك يعتمد على الدعم الأمريكي إلى لاعب يمتلك أوراق تأثير مباشرة داخل الولايات المتحدة نفسها.

إن المنطقة برمتها تستعد لتوازنات جديدة، ذلك أن الاتفاقيات العسكرية وخاصة صفقة F-35 والتحالف الدفاعي ستفضي إلى إعادة رسم المشهد العسكري في الشرق الأوسط. فمع أن دولة الاحتلال ستبقى الأقوى عسكريًا، إلا أن السعودية ستقترب من مستويات تفوق نوعي لم تكن ممكنة سابقًا.

وهذه التحولات تخلق سلسلة من ردود الفعل، حيث ستعتبر إيران ذلك تهديدًا مباشرًا، وقد تخشى الإمارات من تقليص مساحات نفوذها التكنولوجي في الذكاء الاصطناعي، أما دولة الاحتلال فهي تخشى على تراجع امتياز التفوق العسكري المطلق. وهناك أيضاً قطر التي تراقب بقلق توسيع السعودية لأدوارها الأمنية، فيما تتوجس مصر والأردن من تحولات الموازين الإقليمية.

إن دخول السعودية في مرحلة تكنولوجية عسكرية جديدة سيغيّر معادلة الردع، وسيجعل مملكة ابن سلمان طرفًا مباشرًا في تحديد شكل الأمن الإقليمي لعقود قادمة. وفي خضم مباهج الصفقات والاحتفاء الأمريكي، تبقى القضية الفلسطينية حاضرة فقط في الهامش، حيث يعيش الفلسطينيون اليوم بين شعورَين متناقضَين هما أمل حذر في أن تستخدم الرياض هذا النفوذ لفرض حلّ سياسي قائم على دولة مستقلة كاملة السيادة، زخشية عميقة من أن تصبح القضية ورقة تفاوض ثانوية في سوق النفوذ الأمريكي–السعودي–الإقليمي.

والأخطر من ذلك كله، هو أن تبنّي السعودية لبعض ملامح خطة ترامب المتعلقة بغزة قد يؤشر إلى مسار جديد تُحدَّد فيه حقوق الفلسطينيين وفق اعتبارات جيوسياسية، وليس باعتبارهم شعبًا يطالب بحقه في الحرية وتقرير المصير.
لقد كان ما جرى في واشنطن إعلانًا لمرحلة جديدة تهيمن عليها “الواقعية السياسية” التي تتجاهل الحقوق والحريات لصالح الصفقات والمصالح. لقد بدا الاحتفال بمحمد بن سلمان كأنه احتفال بقوة الدولة السعودية الجديدة، واحتفال بعودة التحالف الأمريكي–السعودي دون شروط، واحتفال بانتصار الثورات المضادة في العالم العربي.

لكن خلف هذا الاحتفال، يلوح مشهد أكثر تعقيدًا، فنحن إزاء منطقة تتغير بسرعة، شعب فلسطيني يخشى أن تُدفن قضيته تحت الطاولة، ومشهد عربي يرى في صعود الأمير القوي دليلاً على أن الزمن يميل لصالح الاستبداد المدعوم بالقوة المالية والعسكرية.

وبينما يواصل العالم الاحتفاء بالصفقات والأموال، تبقى الأسئلة الكبرى حول العدالة والحرية وحقوق الإنسان بلا إجابة، وربما بلا من يجرؤ على طرحها في واشنطن.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة