بقلم جريجوري شوباك
ترجمة وتحرير نجاح خاطر
تعيش دولة الاحتلال حالياً أسوأ أزماتها الدعائية في الولايات المتحدة منذ عقود، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى انهيارٍ واضح في التأييد الشعبي لها، وتزايد الغضب من دور واشنطن في تمويل حرب الإبادة على غزة.
وفي مواجهة هذا التحوّل، تتحرك النخبة الأمريكية المهيمنة في المجالات السياسية والمالية والإعلامية للاستحواذ على أدوات الخطاب والتواصل مع الجمهور، في محاولة لوقف هذا الانحدار الحاد.
ففي يوليو/تموز الماضي، وجد استطلاع غالوب أن نسبة الأمريكيين الذين يؤيدون عدوان دولة الاحتلال على غزة لا تتجاوز 32%، فيما عبّر 60% عن رفضهم للحرب.
أما استطلاع بيو، فكشف أن ثلث الأمريكيين تقريبًا يرون أن بلادهم تقدّم مساعدات عسكرية مفرطة لدولة الاحتلال، وهي نسبة تفوق بكثير أولئك الذين يرون أن الدعم “مناسب” أو “غير كافٍ”.
وباتت الأغلبية الساحقة من الأمريكيين تحمل نظرة سلبية لدولة الاحتلال، وتشعر بقلق بالغ من المجازر بحق المدنيين الفلسطينيين ومن تجويع السكان في غزة.
وحتى استطلاع نيويورك تايمز/سيينا أظهر أن عدد الأمريكيين الذين يتعاطفون مع الفلسطينيين بات يفوق أولئك المتعاطفين مع دولة الاحتلال، وهو تحوّل تاريخي في المشهد الأمريكي.
لكن الانهيار الأكثر لفتًا للانتباه يظهر بين الشباب، ففي الفئة العمرية بين 18 و34 عامًا يدعم 9% فقط العدوان العسكري على غزة، بينما يرى 42% من الشباب الواقعة أعمارهم في الفئة 18–29 عامًا أن الولايات المتحدة تمنح دولة الاحتلال دعماً عسكريًا مبالغًا فيه.
ورغم وضوح المعطيات، تصر شخصيات نافذة مثل هيلاري كلينتون وبعض كبار المستثمرين وأعضاء في الكونغرس على إلصاق هذا التحوّل بتطبيق “تيك توك”، وكأن ملايين الشباب غير قادرين على تكوين موقف أخلاقي مستقل تجاه مشاهد القصف، وخيام النازحين التي تُحرق مرارًا.
وبينما يتراجع التأييد لدولة الاحتلال، وهو في جوهره تراجع للدعم الشعبي للهيمنة الأمريكية في المنطقة، تُسرع الطبقة الحاكمة في واشنطن للهيمنة على المؤسسات الإعلامية الكبرى ومنصات التواصل، في محاولة لصياغة رواية جديدة تُنقذ ما يمكن إنقاذه.
السيطرة على الرواية
في 25 سبتمبر/أيلول، أصدر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مرسومًا تنفيذيًا يشترط أن تنتقل ملكية أغلبية أسهم “تيك توك” إلى جهة أو أكثر من المستثمرين الأمريكيين كي يُسمح للتطبيق بالاستمرار داخل الولايات المتحدة.
وقد جاءت خطوة ترامب امتدادًا لنهج إدارة بايدن، التي سبق وأن طالبت بوضع التطبيق تحت السيطرة الأمريكية الكاملة، في ظل إجماع حزبي داخل الكونغرس على ضرورة إحكام هذا النفوذ.
وبحسب هذا الترتيب الجديد، فإن تجمعاً من المستثمرين الأمريكيين بقيادة شركة البرمجيات “أوراكل” سيستحوذ على 65% من التطبيق.
وسوف تتولى “أوراكل” وفقاً للتغييرات إدارة عمليات “تيك توك” داخل الولايات المتحدة، وتوفير الخدمات السحابية لتخزين بيانات المستخدمين، والحصول على الترخيص اللازم للتحكم بخوارزمية المنصة.
لكن ما يثير الانتباه أن مؤسس “أوراكل” الملياردير لاري إليسون، يُعد من أكبر الممولين لجمعية “أصدقاء الجيش الإسرائيلي” (FIDF)، وهي منظمة أمريكية توفر دعمًا مباشرًا لجيش الاحتلال.
وقد صرّح إليسون علنًا بأنه يشعر “برابط عاطفي عميق تجاه دولة الاحتلال”، وأنه وموظفيه “سيفعلون كل ما بوسعهم لدعمها”.
الهيمنة ذاتها تتكرر داخل الإعلام التقليدي، ففي أغسطس/آب استحوذت شركة “سكاي دانس” المملوكة لعائلة إليسون والمدعومة ماليًا منه على شركة “باراماونت”، وهي المؤسسة الإعلامية الضخمة التي تضم شبكة “سي بي إس” وعددًا من القنوات الكبرى.
ولم تتوقف التغييرات عند هذا الحد، إذ جرى تعيين الصحفية اليمينية الشهيرة بمعاداتها لحرية التعبير ولأي مساحة للرواية الفلسطينية، باري وايس، رئيسة لتحرير “سي بي إس نيوز”.
واليوم، تتطلع عائلة إليسون لانتزاع السيطرة على “وارنر براذرز ديسكفري” المالكة لقنوات مثل “إتش بي أو” و “سي إن إن”.
الاستحواذ الإعلامي
ورغم أن “تيك توك” يتيح مساحة لروايات مناصرة لفلسطين، إلا أن الشبكات التقليدية وفي مقدمتها “سي بي إس” لم تكن يومًا منابر منحازة للعدالة الفلسطينية.
ذلك أن الانتاج الإعلامي لهذه القنوات، أسوة ببقية الشبكات الكبرى، يميل إلى تكريس خطاب يتماهى مع أهداف واشنطن ودولة الاحتلال في غرب آسيا.
وتكشف مراجعة بسيطة لأرشيف الموقع الإلكتروني لشبكة “سي بي إس نيوز” أن الشبكة نشرت 2,575 مادة تتضمن ذكر غزة خلال العام الماضي، بينما لم يرد ذكر كلمة “إبادة جماعية” سوى في 388 مادة فقط، أي بنسبة 15% فحسب.
يأتي ذلك في وقت خلص فيه خبراء قانونيون وهيئات أممية وباحثون مستقلون العام الماضي إلى أن ما يجري في غزة يرتقي إلى إبادة جماعية.
إن تجاهل توصيف “الإبادة الجماعية”، أو إنكارها عبر إغفال الحديث عنها يعدّ أحد أكثر أشكال التضليل الإعلامي خطورة، لأنه يحجب عن الجمهور حقيقة أن حكومته شريكة مباشرة في جريمة إبادة، ويقلل من احتمالات بروز معارضة سياسية قادرة على إيقافها.
أما شبكة “سي إن إن”، فقد لعبت دورًا أكبر في صناعة القبول الشعبي للحرب، عبر إتباع خط تحريري يروّج لرواية الاحتلال باعتبارها “الرواية الرسمية” للشبكة.
وما نشهده اليوم هو تعبير صارخ عن مرحلة سياسية جديدة في زمن ترامب، مرحلة تتجلى فيها القوة الغاشمة بلا أقنعة، وتتراجع فيها، ربما إلى الأبد، الواجهة الديمقراطية الزائفة التي كانت الولايات المتحدة تتشدق بها لعقود.
فقدان الشرعية
تدرك الدولة الأمريكية، ومعها المليارديرات الذين تخدمهم، أنها باتت عاجزة عن الفوز بالسجال السياسي والأخلاقي حول فلسطين.
كما ترى بوضوح أن موقعها الاستعماري في المنطقة ينهار سريعًا في أعين الشعوب، وأن الرواية الرسمية القديمة لم تعد تقنع أحدًا، خصوصًا في عصر باتت فيه الصور المباشرة من غزة تتحدى كل سردية مصنّعة.
ولا يمكن اعتبار محاولات خنق المحتوى الذي يفضح جرائم دولة الاحتلال ويكشف تواطؤ واشنطن مؤشر قوة، بل علامة ذعر.
إنها محاولة يائسة للتحكم بالمشهد الإعلامي، عبر إخفاء لمحات ولو جزئية من الوحشية الأمريكية-الصهيونية في فلسطين.
ومع ذلك، فإن هذه الاستراتيجية محكومة بالفشل، فالمنظومات الإعلامية لا تعمل في فراغ، والجمهور ليس كتلة صامتة يمكن صبّ الروايات فيها بلا مقاومة.
لقد تغيّرت المعادلات، فلم تعد دولة الاحتلال قادرة على تلميع صورتها، ولا الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة قادرة على استعادة هيبتها، وخصوصًا لدى الأجيال الشابة التي تحمل ذاكرة حية عن القمع المرتبط بمواقفها السياسية.
لن تنسى هذه الأجيال كيف جرى تعليق دراسة طلاب وتهديدهم بالطرد وحتى ملاحقتهم بالإبعاد القسري، فقط لأنهم وقفوا مع العدالة في فلسطين.
ولن تنسى أيضاً أن جامعات أمريكية استدعت قوات مكافحة الشغب لقمع اعتصامات الطلاب، ولن تنسى أن القناصة تمركزوا فوق أسطح المباني لاستهداف احتجاجات الطلبة الرمزية.
ولن تنسى الأجيال أيضاً أن وسائل الإعلام الكبرى كذبت عليهم مرارًا، بينما كان الصحفيون الفلسطينيون يعرضون عليهم مشاهد الفجيعة الحقيقية: آباء وأمهات يبحثون عن أشلاء أطفالهم تحت الركام.
وفي حال صمد وقف إطلاق النار الهش في غزة، فإن الحراك التضامني مع الفلسطينيين قد يفقد شيئًا من زخمه في الشارع الغربي، لكن ذلك لا يعني أن البنية التنظيمية والسياسية التي نشأت بعد 7 أكتوبر ستتلاشى.
فالتحالفات التي تشكلت، والشبكات التي توسعت، والمؤسسات التي ترسّخت خلال هذه المرحلة لن تختفي بسهولة.
بل إن الكثير من هذه الكيانات سبق وجوده عام 2023 بسنوات طويلة، فمنذ إطلاقها عام 2005، رسخت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS) حضورًا عالميًا وحققت نجاحات معتبرة في الأوساط الأكاديمية والنقابية والثقافية والسياسية.
هذه الذاكرة المؤسسية التي تراكمت عبر عشرين عامًا لا يمكن محوها بتغييرات ملكية في شركات التقنية أو بتحولات في غرف الأخبار.
كما أن الخبرات التنظيمية، والصلابة النفسية، والثقة السياسية التي اكتسبها النشطاء الداعمون لفلسطين خلال عامين من مقاومة الإبادة الجماعية، وقبلها سنوات طويلة من العمل العالمي، كلها عناصر ستبقى فاعلة في المرحلة المقبلة.
إن معركة الرواية بالنسبة للطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة لم تعد قابلة للربح، فالدعم الشعبي لدولة الاحتلال بات يتآكل، والوعي العام يتغير، والجيل الجديد يرى بعيونه ما حاولت وسائل الإعلام طمسَه لعقود.
ومع هذا الانكشاف، لم يعد من السهل على دعاة الهيمنة الأمريكية استعادة المبادرة، مهما ضخّوا من الأموال، أو اغتصبوا منابر الإعلام.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







