كيف تجاهلت الــ بي بي سي الأدلة؟ انهيار رواية بريسكوت أمام الحقائق

بقلم بيتر أوبورن

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

قبل أسابيع قليلة، تنحّى مايكل بريسكوت، المستشار السابق المستقل للجنة إرشادات ومعايير التحرير في هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي عن منصبه، ووجّه مذكرة داخلية طويلة عبّر فيها عن قلقه تجاه طريقة تغطية الهيئة للأحداث.

وبعد تسريب مذكرة بريسكوت هذا الشهر، أثارت محتوياتها عاصفة داخل المؤسسة الإعلامية، أدّت إلى استقالة اثنين من كبار مسؤولي الـ بي بي سي، أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فوصف المسؤولَين المستقيلَين بأنهما “شديدا الخداع”، وهدّد بمقاضاة كبيرة ضد الهيئة.

وتضمّنت المذكرة مقطعًا مطوّلًا يهاجم تغطية الـ بي بي سي للعدوان على غزة، إذ عرض بريسكوت ما اعتبره “أدلة واسعة” على انحياز المؤسسة ضد دولة الاحتلال، وخلص في نهاية تقريره إلى القول أن “من الصعب للغاية في رأيي أن يقدم أي مراقب مؤيّد للفلسطينيين حجة مقنعة بأن الـبي بي سي منحازة لإسرائيل”.

لقيت هذه الخلاصة الترحيب من بعض داعمي دولة الاحتلال، معتبرين أنها دليل على أن الهيئة مؤيدة لحركة حماس، وفي السياق نفسه، قالت وزارة خارجية الاحتلال إن استقالة المدير العام تيم ديفي “تؤكد الانحياز العميق الذي ميّز تغطية الـبي بي سي لإسرائيل طويلًا”.

أما سفارة الاحتلال في لندن فقالت إنها حذّرت لسنوات من “فشل الـبي بي سي المستمر في الالتزام بمعايير الدقة والحياد والنزاهة المفترض أن تلتزم بها مؤسسة إعلامية عامة”.

لقد اطّلعت ميدل إيست آي على القسم المطوّل من مذكرة مايكل بريسكوت المتعلق بالاحتلال وغزة، ووجدنا أنه مليء بالأخطاء في الوقائع والتفسيرات، إضافةً إلى غياب لافت لعدد من الحقائق الجوهرية.

وقد وجّهنا رسالة إليك يا سيد بريسكوت نعرض فيها أدلة نعتقد أنها دامغة، تُظهر أن مذكرتك تعاني من ثغرات كبيرة وتحريفات عديدة، وأتحنا لك فرصة للرد، لكنك فضّلت عدم التعليق علنًا، وبغياب ردّك، نقرر نشر نص الرسالة هنا كرسالة مفتوحة (مع بعض التعديلات الطفيفة والحجب التحريري).

تغطية الفلسطينيين

عزيزي مايكل، نحن نعدّ تقريرًا حول مذكرتك الموجّهة إلى أعضاء مجلس إدارة الـبي بي سي، وقد عملنا على تحليل دقيق لأبرز ما ورد فيها، خصوصًا ما يتعلق بتغطية المؤسسة للأحداث في غزة.

ونودّ الإشارة إلى أن هناك عدة مشكلات جوهرية في مذكرتك، ونطرحها عليك أولًا كي يكون لديك الوقت للرد عليها.

لقد عرضتَ في مذكرتك عددًا من المواضع التي تزعم أن تغطية الـبي بي سي باللغة الإنجليزية انخفضت عن “أعلى المعايير” عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، ولكن، وبوصفك مستشارًا مستقلًا سابقًا للجنة إرشادات ومعايير التحرير في الـبي بي سي، لماذا لم تُشِر أيضًا إلى الانتقادات الواسعة والمتماسكة التي تقول إن الـبي بي سي منحازة ضد الفلسطينيين؟

على سبيل المثال، في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عرضت الـبي بي سي لقطات لمشجعي فريق مكابي تل أبيب يهاجمون أشخاصًا هولنديين، وقدّمتها على أنها هجمات يرتكبها “عنصريون هولنديون ضد يهود”، وقد اعترفت الـبي بي سي لاحقًا بأن استخدام اللقطات “كان من الممكن أن يعطي انطباعًا مضلّلًا”.

لماذا لم تُبرز هذا المثال، الذي ظهر فيه الفلسطينيون أو المتعاطفون معهم كالمعتدين، بينما قُدِّم مشجعو كرة القدم الإسرائيليون الذين يعرف بعضهم بسلوكيات عنيفة كضحايا؟ هذا المثال لا يقل خطورة عن فضيحة تحرير تقرير بانوراما عن ترامب، التي أشرتَ إليها.

ولماذا لم تعرب عن قلقك بشأن وجود روبي جيب الذي كان لسنوات المالك الوحيد لصحيفة Jewish Chronicle  ضمن لجنة إرشادات ومعايير التحرير في الـبي بي سي؟

هذا السؤال مهم بشكل خاص، إذ لم يكن هناك أي شخصية ذات توجه مؤيد للفلسطينيين ضمن اللجنة، ولو من باب التوازن.

كذلك، لم تُبدِ أي قلق من أن آفي شلايم المؤرخ اليهودي الإسرائيلي، وزميل كلية سانت أنتوني المتقاعد، وأستاذ العلاقات الدولية بجامعة أكسفورد، وأحد أهم الخبراء في النزاع الفلسطيني مع الاحتلال لم يُدعَ يومًا للظهور في أي برنامج رئيسي على الـبي بي سي.

والأمر ذاته ينطبق على إيلان بابِه، المؤرخ الإسرائيلي اليهودي المعروف، وأستاذ كلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكستر، وبالمثل، يشير الباحث في دراسات الإبادة الجماعية مارتن شو إلى أنه يتلقى طلبات للتعليق من وسائل إعلام عالمية عديدة باستثناء الـبي بي سي.

في مراجعتك، لماذا لم تأخذ في الاعتبار هذه الحالات الواضحة من “التحيّز عبر الإغفال”؟ وهل تتفق معنا في أن السبب الوحيد الممكن لاستبعادك لها هو أنّ هؤلاء الخبراء يوجّهون انتقادات صريحة للمعاناة التي يعانيها الفلسطينيون وللسياسات الإسرائيلية تجاههم؟

السبب الوحيد المعقول لاستبعادك لهذه الأمثلة هو أن أصحابها ينتقدون معاملة الاحتلال للفلسطينيين.

لغة مُحَمَّلة بالتحيّز 

عند تقييم السنة الأولى من تغطية الـ بي بي سي للحرب على غزة، وجد مركز رصد الإعلام أنه “وعند القياس بما يتناسب مع معدل الخسائر البشرية البالغ 34 فلسطينياً مقابل إسرائيلي واحد، منحت الـ بي بي سي الوفيات الإسرائيلية تغطية تزيد بـ 33 مرة في المقالات و 19 مرة في التلفزيون والراديو مقارنة بالوفيات الفلسطينية” (انظر الصفحة 155 من التقرير)، فلماذا لم تذكر ذلك؟

لقد تجاهلت الـبي بي سي إلى حد كبير مبدأ الضاحية، الذي يجيز لجيش الاحتلال استخدام القوة المفرطة واستهداف البنية التحتية المدنية، وكذلك توجيهات هنيبال، التي تسمح لجيش الاحتلال بقتل الإسرائيليين الذين يتم أسرهم من قبل قوات معادية، وهي التوجيهات التي نُفِّذت بالفعل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

أما الاحتلال نفسه، وهو عنصر أساسي لفهم سياق حملة التدمير في غزة، فلا يرد إلا نادرًا في تغطية الـبي بي سي، فلماذا لم تُشِر إلى هذه الأمثلة الواضحة على انحياز الـبي بي سي ضد الجانب الفلسطيني؟

لقد وجد مركز رصد الإعلام أيضًا أن الـبي بي سي استخدمت مصطلحات عاطفية بمعدل يصل إلى 3.6 مرات أكثر لصالح الضحايا الإسرائيليين، كما استخدمت كلمة “مجزرة” بمعدل يزيد تقريبًا 18 مرة عند الحديث عن الضحايا من طرف الاحتلال، واستخدمت كلمة “قتل” 220 مرة عندما يتعلق الأمر بالمحتلين، مقابل مرة واحدة فقط للفلسطينيين.

وكانت احتمالات المقابلة للمحتل عبر الـ بي بي سي أكثر من ضعفَي احتمالً مقابلة الفلسطيني، ولم تغطّ سوى 6% فقط من حالات قتل الصحفيين الفلسطينيين في خدمة بي بي سي English، في حين غطّت 42% من حالات قتل الصحفيين في أوكرانيا، فلماذا لم تتطرق إلى هذه الأمثلة كشواهد على الانحياز المؤسسي لصالح الاحتلال؟

لقد جرى توثيق ملاحظة واسعة الانتشار مفادها أن الـ بي بي سي تستخدم باستمرار لغة مبنية للمجهول تُخفي مسؤولية الاحتلال مثل: “غارة على مدرسة في غزة تقتل 15 شخصًا على الأقل”، كما لوحظ أنها تستخدم مصطلحات أكثر عاطفية عند الحديث عن قتلى الاحتلال، مع منحهم حضورًا إنسانيًا أكبر من خلال ذكر الأسماء والخلفيات العائلية وغير ذلك، فلماذا تجاهلت هذه الظاهرة الواضحة والمستمرة من الانحياز في تغطية الـ بي بي سي؟

وبحسب ما قاله مقدم الـ بي بي سي والصحفي المخضرم ديفيد آرونوفيتش، فإن أكثر أدلتك تفصيلًا ضد قسم بي بي سي Arabic يتعلق بـ “مسائل كانت قد عولجت بالفعل قبل وقت طويل من إرسال مذكرتك”، فما هو ردك على هذه الملاحظة الأساسية؟

ويشير آرونوفيتش أيضًا إلى أنك لم تذكر أن “تغطية الـ بي بي سي لم تكن سهلة في ظل منع الاحتلال الكامل لدخول الصحفيين إلى غزة”، فلماذا لم تشر إلى ذلك؟

المقابر الجماعية

ننتقل الآن إلى عدد من الأخطاء الجوهرية في الوقائع التي أوردتها في أمثلتك حول ما اعتبرته “انحيازًا ضد إسرائيل” في تغطية خدمة الـ بي بي سي الإنجليزية.

ففيما يتعلق باكتشاف المقابر الجماعية في مستشفيي الشفاء وناصر عام 2024، ذكرتَ ما يلي: “يبدو أن التفسير الأكثر ترجيحًا هو أن المقابر في كلا المستشفيين حفرها فلسطينيون، وأن الأشخاص المدفونين فيها ماتوا أو قُتلوا قبل وصول القوات البرية الإسرائيلية”.

غير أن هذه القوات كانت مسؤولة عن فرض حصار كامل على مستشفى ناصر عبر الدبابات والقناصة وخلال هذا الحصار، وبسببه، توفي الأشخاص الذين دُفنوا لاحقًا في المقابر الجماعية خارج المستشفى.

لقد كانت قوات الاحتلال البرية تُطوّق المستشفى من جميع الجهات، وبسبب ممارساتها بما فيها قطع الكهرباء والإمدادات الطبية، وإطلاق النار والقصف انتهى الأمر بالشهداء الفلسطينيين إلى أن يُدفنوا في مقابر جماعية.

وقد أكّد هذه الرواية الدكتور عاطف الحوت، مدير مستشفى ناصر، بقوله: “خلال أسابيع حصار الاحتلال والهجمات على المستشفى، اضطررنا إلى دفن نحو 250 جثة، معظمهم من المرضى الذين قضوا نحبهم نتيجة انعدام العلاج الطبي، أو أشخاص استشهدوا برصاص أو نيران جيش الاحتلال، ورغم ذلك، قام جيش الاحتلال بفتح القبور وخطف 80 جثة بدعوى فحصها بحثًا عن الأسرى الإسرائيليين، ثم أعاد الجثامين عبر معبر رفح إلى مستشفى النجار”، فلماذا لم تُشر إلى هذه الشهادة؟

تجاهل الأدلة

ننتقل الآن إلى ما حدث في مستشفى الشفاء مرة أخرى، حيث كتبت: “يبدو أن التفسير الأكثر ترجيحًا هو أن المقابر في كلا المستشفيين حفرها فلسطينيون، وأن الأشخاص المدفونين ماتوا أو قُتلوا قبل وصول القوات البرية الإسرائيلية”.

لكن Forensic Architecture حققت في ما جرى داخل مستشفى الشفاء، ووجدت أدلة على أن جيش الاحتلال دفن أشخاصًا في مقابر جماعية باستخدام الجرافات، وقد استند التحقيق إلى أدلة بصرية تشير إلى أن اثنتين على الأقل من المقابر الجماعية خارج مستشفى الشفاء قد حفرتها قوات الاحتلال، فلماذا تجاهلت هذا التحقيق بالكامل؟

ولماذا تجاهلت تقرير هيومن رايتس ووتش الذي يورد أدلة على جرائم حرب ارتكبها الاحتلال في مستشفيي الشفاء وناصر؟ ولماذا تجاهلت تقرير مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان (OHCHR)، وفي الوقت نفسه لم تستشهد بأي “أدلة” مزعومة تزعم أن دولة الاحتلال “كشفتها” حول وجود نشاط لحماس داخل مستشفى ناصر؟

لقد كتبت أن الـبي بي سي “لم تغطِّ الأدلة التي كشفتها إسرائيل حول نشاط حماس داخل المستشفى”، في إشارة إلى مستشفى ناصر، لكن كما أوضح نِمر سلطاني، أستاذ القانون في جامعة SOAS فإن “المشكلة الجوهرية في تكرار سردية الاحتلال حول الأدلة هي أنها ببساطة غير موثوقة”.

وقد أشارت مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى أن ادعاءات الاحتلال بوجود قوى فلسطينية مسلحة تعمل من داخل المستشفى لم تُدعَم بأي معلومات كافية، وأنها غامضة وعامة، وبعضها يتناقض مع معلومات منشورة للعامة.

وأصدرت المفوضية هذا الموقف في ديسمبر/كانون الأول 2024، بينما المقال الذي تنتقد الـبي بي سي بسببه يعود إلى مارس/آذار 2024، وبالتالي، وحتى نهاية العام، لم يظهر أي “دليل” على وجود نشاط لحماس داخل مستشفى ناصر، فلماذا تجاهلت إذن تقرير المفوضية، بينما اعتمدت على “أدلة” لم يثبت وجودها أصلاً؟

الخبرة الطبية

لقد كتبت: “في الشهر الماضي (أغسطس/آب 2025)، اضطرت الـبي بي سي لتصحيح عنوان جاء فيه أن (امرأة غزية تعاني من سوء التغذية تُنقل إلى إيطاليا وتتوفى في المستشفى)، وقد استُبدل العنوان بعبارة (امرأة غزية نُقلت إلى إيطاليا تتوفى في المستشفى بعد أن اتضح أنها كانت تعاني من أمراض سابقة خطيرة) ولم يصدر التصحيح إلا بعد يومين، فأين دليلك على أنها كانت “تعاني من أمراض سابقة خطيرة”؟

صحيح أن مكتب منسق أعمال حكومة الاحتلال (كوغات) زعم أن مرح أبو زُهري كانت تعاني من اللوكيميا، لكن “الدليل” الوحيد كان صورة لتقرير من مستشفى ناصر يقول إن: “فحص الدم أظهر وجود العديد من الخلايا الأولية، بما يتوافق مع احتمال اللوكيميا الحادة”.

غير أن هذا التقرير لا يقول قطعًا إنها مصابة باللوكيميا بل يذكر فقط أن النتائج “تتوافق” مع احتمال الإصابة، وهو ما لا يشكل تشخيصًا نهائيًا.

وقد فند الصحفي الفلسطيني محمد شحادة هذا الادعاء، ونشر صورة من صحيفة La Nazione الإيطالية تتضمن تصريح الطبيبة التي عالجتها هناك، وهي البروفيسورة سارة غاليمبيرتي، رئيسة قسم أمراض الدم في مستشفى جامعة بيزا، والتي قالت بوضوح: “وصلت إلينا بافتراض إصابتها بلوكيميا حادة جدًا، لكننا، بعد الفحوصات اللازمة، أثبتنا أنها لا تعاني من اللوكيميا”.

وهذا يتسق مع حقيقة أن تقرير مستشفى ناصر لم يؤكد إصابتها، بل تحدث عن “فرضية” فقط تمامًا كما أشارت غاليمبيرتي التي أضافت: “كانت المريضة طريحة الفراش بالكامل منذ فترة طويلة، وليست حالة طارئة ليوم أو يومين، كانت تعاني من اضطراب حاد في عوامل التخثر، ونقص شديد في البروتينات، ولذلك استشرنا اختصاصيي التغذية وبدأنا فورًا خطة تغذية عالية السعرات”.

ويؤكد تقرير La Nazione أن أبو زُهري وصلت إلى إيطاليا وهي في “حالة يائسة بسبب سوء التغذية الحاد”، ويربط ذلك بشكل مباشر بـ حصار الاحتلال على غزة، فلماذا تجاهلت شهادة مديرة قسم أمراض الدم في مستشفى جامعة بيزا؟

مع خالص التحية،

بيتر أوبورن وإرفان شودري

إرفان شودري طالب دكتوراه في جامعة برايتون، وقد ساهم بجزء كبير من البحث الوارد في هذه الرسالة.

 للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة