ركود عالمي وشيك… كيف يمكن للعالم أن يتعافى؟!

ركود عالمي وشيك… كيف يمكن للعالم أن يتعافى؟!

بقلم طه اوزهان

انتهى عام 2022 مخلفاً وراءه فوضوية مخيبة للآمال، وفيما يبدو أن عام 2023 سيستمر على ذات النهج الفوضوي، فهناك مجموعة من التحديات العالمية التي لا تفتأ تذكرنا بأن آثار جائحة كوفيد-19 لا تزال قائمة، بما في ذلك التضخم المرتفع وضعف النمو واحتمالات الركود والحروب التجارية ونقص سلاسل التوريد، وبنفس الوقت، تستمر الحرب بين روسيا وأوكرانيا، وتتجه بكين إلى مسار جديد بعد مؤتمر الحزب الشيوعي في 2022، كما أن الكوارث الطبيعية المتزايدة عدداً وحدة، سارعت في دفع الآثار الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عنها إلى تغيرات المناخ.

وصلنا إلى مرحلة أصبحت فيها التحالفات الأمنية المشتركة والعلاقات الاقتصادية في مواجهة مباشرة

لقد دخلنا 2023، عام تزداد فيه تجزئة العولمة وضوحاً، في ظل اشتداد التنافس بين الولايات المتحدة والصين من جهة، وتقلص أفق النظر لمعالجة أزمات متعددة في شمال العالم وجنوبه من جهة أخرى، فالتكاليف قصيرة المدى التي تخلفها المعركة ضد التضخم العالمي لا يمكن مقارنتها بالدمار الذي يمكن أن يسببه إهمال التعامل مع هذه التكاليف على المدى المتوسط والبعيد.

في 2022، تحددت ملامح الأجندة الجيوسياسية العالمية للعام 2023، والتي كان من أبرزها الاتجاه الذي يتدحرج نحوه التنافس الأمريكي الصيني، وما نتج عن الغزو الروسي لأوكرانيا، فالعام الماضي اتسم بكونه عام سياسة الخطابات والغموض، أما هذا العام فسيكون عام الاختبار العملي لتلك السياسات.

في 2023، سنرى حدود السياسة الأمريكية في مواجهة بكين، ففي الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة إلى الحد من التوسع الصيني من خلال الحروب التجارية، تظهر علامات مبكرة لاستسلام واشنطن لحالة دفاعية لا تختلف كثيراً عن العلامات ذاتها في الصين.

إضافة إلى ذلك، تستمر سياسة “أمريكا أولاً” التي عبر عنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، بينما تعمل إدارة بايدن على “محاربة التضخم”، وربما تتجه أوروبا أيضاً نحو سياسة “أوروبا أولاً”، ففي الوقت الذي تحاول فيه إحياء التحالف الغربي ما بعد الحرب العالمية الثانية وسط ما تسميه التهديد الروسي، يتزايد التوجه نحو سياسة الحماية الصناعية والإعانات، وكأن المنطق الذي بني عليه النظام النقدي الدولي في “بريتون وودز” البريطانية في 1944 قد تم نسيانه.

يبدو أنه سيتم جر الاتحاد الأوروبي، آخر المناصرين للتجارة الحرة، إلى حروب تجارية مؤلمة هذا العام أيضاً، فقد أصبحت المفوضية الأوروبية ووحدتها التجارية المتماسكة أقرب إلى الولايات المتحدة وخط سياستها تجاه الصين أكثر من أي وقت مضى، مما يعني أن على العالم أن يستعد في السنوات القادمة، لحقيقة أن النظم الاقتصادية العالمية والجيوسياسية سوف يتم تشكيلها من قبل واشنطن والصين وبروكسل.

عولمة مجزأة

في الوقت الذي تتحول فيه الصين من التركيز على الاقتصاد نحو موقف “الأمن أولاً”، تشارف استراتيجية الغرب لإدراج الصين في نظام التجارة الحرة متعددة الأطراف على الانتهاء، خاصة أنها أثبتت عدم فعاليتها، ذلك أن نموذج الاقتصاد الصيني المركزي قد نما بشكل متسارع بعد تأميم قطاعات التكنولوجيا الرئيسية في البلاد، مما جعل الاتحاد الأوروبي يرى الصين بشكل جديد في مواجهة واشنطن التي تتوجه بوضوح نحو سياسة الحماية الصناعية.

لن تزول العولمة موحدة كما جاءت إلى العالم من قبل، وإنما سوف تستمر بالتجزء على عدة محاور، منها أن شبكات المال والعمالة المستحدثة سوف تساهم في  تنظيم حدود جديدة في الاقتصاد العالمي وأنظمة التجارة المعقدة، ولكننا وصلنا إلى مرحلة أصبحت فيها التحالفات الأمنية المشتركة والعلاقات الاقتصادية في مواجهة مباشرة، ومما لاشك فيه أن تلك التحالفات الأمنية المشتركة سوف تسبب توترات اقتصادية فيما بينها.

من المؤكد أن كل ذلك لن يكون له تأثير إيجابي على الأمن العالمي والمصالح الجيوسياسية، ولن يقلل من مخاطر الصراع، ناهيك عن عدم خلق بيئة ردع متوازنة، في الحقيقة، ستتحول الأزمات التجارية إلى وقود يشعل الأزمات الجيوسياسية، وبالتالي إضعاف التعاون الأمني وسياسات الضمان الأمني التي تنشأ عن التبعيات المتبادلة بطبيعة الحال.

أعتقد أن أول اختبار يتعلق بصلابة واستمرار التعاون العسكري بين الولايات المتحدة وأوروبا، بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، فعلى الرغم من وقوفهما معاً ضد موسكو، إلا أن هناك توترات اقتصادية تتزايد شيئاً فشيئاً، ربما يتمكنون من الفصل بين الاقتصاد والواقع الجيوسياسي لفترة من الزمن، ولكن في مرحلة ما، قد تؤدي هذه التوترات الاقتصادية إلى شرخ خطير في علاقة الطرفين.

تصدرت الأحداث الجيوسياسية حول العالم أهم القضايا في 2022، الأمر الذي أثر بشكل كبير على أسواق المال والتجارة العالمية، وفي الوقت نفسه، ظهرت كثافة في النشاط الأمني لدى أبرز دولتين من بين أكبر خمس اقتصادات حول العامل وتوصفان بالهدوء الجيوسياسي والعسكري عموماً، ألمانيا واليابان، حيث قامت كل منهما بزيادة إنفاقها الدفاعي، ومن جانب آخر، يحاول حلف الناتو العمل على ترسيخ حد أساسي للإنفاق الدفاعي يبلغ 2% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي في جميع الدول الأعضاء فيه.

من السابق لأوانه التنبؤ بمسار تطور سباق التسليح هذا، إلا أنه مما لا شك فيه أنه يساهم في إشعال أزمات جيوسياسية موجودة أصلاً.

القوى المتوسطة حجماً ترى في ما يحدث من تسارع وتنافس بين القوى الكبرى، فرصة لتحقيق مكاسب قصيرة المدى، أما القوى الكبرى التي تقود العالم، فعليها التنبه لتوجهاتها القادمة، فالصين والولايات المتحدة وأوروبا تفقد أرضية التعاون التي يمكنها أن تكون سبباً في حل مشكلات عالمية، لأن العمى الجيوسياسي الأمريكي منذ 11 سبتمبر عام 2000 باقٍ ويتمدد حول العالم!

القوى المهيمنة

لم تفقد الولايات المتحدة دور المهيمن والوسائل الواضحة لاستعادته رغم رغبتها بذلك فحسب، بل فشلت حتى بطرح منظور يمكنها من تحمل المسؤوليات المرتبطة بدور المهيمن في ظل ما يحدث من تغيرات جيوسياسية، وعلى صعيد محلي، فقد تزايدت التوترات الداخلية لدرجة تجاوزت فيها المشاكل السياسية التي تواجه دولاً ديمقراطية أخرى، الأمر الذي مهد الطريق لمزيد من الاستقطاب السياسي.

من جانب آخر، تعتقد الصين أن لديها فرصة لتصبح قوة عالمية مهيمنة، من دون أن تأخذ على عاتقها مسؤولية في أي أجندة سياسية تنشأ من ذلك، أما الاتحاد الأوروبي، وبرغم نجاحه في إصدار عملة مشتركة، إلا أنه قد فقد هو الآخر فرصته في أن يصبح قوة جيوسياسية بعد فشله في تتويج إنجازاته بقبول تركيا عضواً في الاتحاد، يضاف إلى ذلك كله الضربة الأكبر وهي خروج بريطانيا من الاتحاد قبل سنوات.

أضف إلى كل ذلك ما يواجهه العالم اليوم من تحديات أكثر تدميراً من الحروب التقليدية، من هرمجدون النووية ونهاية العالم لأسباب بيئية إلى الأوبئة واحتكار التكنولوجيا لأغراض فاشية، بل ما يثير القلق أكثر هو التبخر التدريجي للتيارات الفكرية والحركات الاجتماعية والسياسية البناءة حول العالم، لصالح تأثير أقوى وأكثر بشاعة تمارسه موجات الشعبوية والقومية التي تتمدد.

من المرجح أن تسود الموجات الشعبوية والقومية المتطرفة في السنوات القادمة مع تصاعد الضغوط التضخمية، مما سيؤدي إلى اضطراب حركة رأس المال والعمال والسلع، وبالتالي زيادة الضغط على الأسعار والأجور، الأمر الذي سيجر العالم إلى نتيجة جيوسياسية أكثر وضوحاً نحو تقلص حجم التعاون الدولي وزيادة المخاطر الأمنية.

في 2022، شهد العالم، الذي راقب أفعال موسكو بصمت على مدى العقدين الماضيين في الشيشان وجورجيا وأوكرانيا وسوريا، كيف أصبحت أحلام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين طموحة للغاية وأبعد عن الواقع، فبعد أن احتدمت النقاشات الأمنية حول المصالح الجيوسياسية، وجدت موسكو أن الغرب، وليس كييف فقط، نشط في قتالها، وفي حال بقي الدعم الأمريكي العسكري لأوكرانيا مستمراً، فإن فرص روسيا في إحداث تغيير جذري للخارطة الجيوسياسية على الأرض تظل محدودة.

اضطرابات جيوسياسية

رغم الحلقة المفرغة التي يدور فيها العالم اليوم، إلا أن عام 2023 سوف يشهد بعض الكسور الهيكلية، فبعد تحويل بوتين الطاقة إلى سلاح، اتجهت أوروبا إلى مصادر طاقة بديلة، الأمر الذي نتج عنه تنمية علاقات هيكلية و ترابطات جيوسياسية جديدة.

سوف تساهم هذه الخطوة الأوروبية في تعزيز البنية التحتية لنقل إمدادات الغاز الطبيعي المسال، الأمر الذي سيؤدي إلى عواقب جيوسياسية كبيرة، منها توجه الخليج نحو مزيد من الاستقلال الجيوسياسي والاستراتيجي دون الاستجابة للضغوط، ومحاولة روسيا دخول أسواق جديدة، فيما تمارس واشنطن ضغوطاً معاكسة، وتتأثر علاقة روسيا بإيران التي فقدت حصتها في السوق بعد دخول النفط الروسي في المنافسة.

عندما يتعلق الأمر بتقليل المخاطر الجيوسياسية في 2023، يتساوى الحديث عن عقبات شديدة وفرص كبيرة كذلك

ومع ذلك، لا يظهر لدى أوروبا ملامح استراتيجية واضحة للمستقبل في مواجهة التهديد الروسي، فأوروبا تحتاج إلى تطوير رؤية جيو سياسية وأمنية  شاملة على طول حدودها الجنوبية الشرقية، إلا أنها لا تدرك ذلك، بل تقوم بتأجيل الاستثمار والاستفادة من ضعف  الاستقرار في منطقة البحر الأسود، وتأثير ذلك على  أسعار السلع الغذائية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لابد لها من توجه أمني أكثر صرامة.

بالنظر إلى الصورة العامة، لا يبدو أن هناك أي احتمال لخروج العالم من كساده الجيوسياسي العميق في 2023، بل سيدخل العالم في اضطرابات جيوسياسية أكثر حدة، تخلق المزيد من الأزمات المتزامنة مثل تتابع قطع الدومينو في عدد كبير من المناطق التي تواجه تضخماً حول العالم.

ومع مرور الوقت، تقترب الولايات المتحدة من انتخابات 2024، ومع وجود رئيس أمريكي مثل جو بايدن، الوسطي الذي تشكلت عقليته بالكامل بناء على القرن العشرين والذي يبتعد عن تجربة سياسات بديلة وقت الأزمات، سوف يتفاقم الكساد الجيوسياسي بالتأكيد، فمع اقتراب الركود، قد تواجه الولايات المتحدة، مثل غيرها من الاقتصادات الكبرى، هبوطاً حاداً، عليها أن تدرك فيه حاجتها إلى المساعدة لتأدية دورها في الأجندة الجيوسياسية العالمية، ومع تصاعد تهديد بلقنة الاقتصاد العالمي، قد تصل المخاطر الجيوسياسية حد الغليان!

الخلاصة أنه عندما يتعلق الأمر بتقليل المخاطر الجيوسياسية في 2023، يتساوى الحديث عن عقبات شديدة وفرص كبيرة كذلك، فإذا قدمت واشنطن استراتيجية تعاونية واضحة، قد يتمكن العالم من الهروب من الكساد الجيوسياسي العالمي بشكل أسرع مما كان عليه في الماضي، ولكن السؤال هنا، هل تقف الولايات المتحدة اليوم في موضع يمكنها من قيادة هذا الدور؟ هذا هو التساؤل الجوهري.

مقالات ذات صلة