بقلم جنان عبده
ترجمة وتحرير مريم الحمد
“بين الأصفاد والظلام: لحظة نفس في لقاء مع محامي”، هكذا عنون أحد الأسرى الفلسطينيين، والذي سأشير إليه باسم ر.ز، رسالة تعبر عن أهمية زيارتي له في سجن عوفر العسكري.
كان الفلسطيني ر.ز، والذي تم إطلاق سراحه منذ ذلك الحين، معزولاً تماماً عن العالم أثناء وجوده في السجن، وقد تعرض للتعذيب الشديد لعدة أشهر بعد أن اعتقلته القوات الإسرائيلية من غزة.
لم يكن يعرف شيئاً عن مكان سجنه أو لماذا أو حتى متى، ولم يكن لديه معلومات عن عائلته، رغم وجود شقيقه الذي اعتقل معه في جناح مختلف بالمنشأة.
كان قد تم احتجازهما في الأصل في معسكر سدي تيمان، ولكن بعد أن قدمت طلباً لزيارتهما هناك، تم نقلهما بسرعة إلى عوفر، وهو تكتيك أعتقد أنه يهدف إلى تأخير زيارتي ومنع محامٍ خارجي من رؤية الانتهاكات المروعة في سدي تيمان.
كتب ر.ز في رسالته: “كنت مجرد رقم جديد في دفاتر الاعتقال، رقم يُسحب معصوب العينين إلى ظلمات المجهول، منسياً في سدي تيمان الذي ابتلعني 3 أشهر كاملة، لم يكن فيها نهار ولا ليل، بل سلسلة متواصلة من التعذيب والتقييد والصراخ والركل والضرب، عزلنا خلالها عن أي معلومات أو همس يهدئ القلب، فقد كنا معلقين بين الأرض والسماء، لا نعرف إذا كانت غزة لا تزال قوية، أو إذا كان أطفالنا لا يزالون على قيد الحياة، أو قد ابتُلعوا تحت الأنقاض”.
“قطعة من شيء منسي”
بعد انتقاله إلى عوفر، أكد ر. ز بأنه تعرض لنفس القمع والتعذيب، وفي أحد الأيام، يتذكر جره “مثل قطعة من شيء منسي” مكبل اليدين ومعصوب العينين ومقيداً بالأغلال على أرضية حادة مغطاة بالحجارة الصغيرة.
يقول: “لساعات أُجبرت على الجلوس في وضعية الركوع وظهري يتنهد من الألم وصدري يختنق، وكانت أفكاري تدور في سحابة من الخوف: هل سيتم أخذي إلى جولة أخرى من الاستجواب؟ إلى “حفلة” تعذيب أخرى؟ أم سيتم نقلي إلى مكان مجهول؟”.
يعتبر المحامون الأشخاص الحقيقيين الوحيدين الذين يستطيع الأسرى مقابلتهم، وليس من قبيل الصدفة أن معظم الأسرى يقولون بأن ذلك المحامي هو أول “إنسان” يراهم منذ دخولهم السجن
في نهاية المطاف، أحضرته السلطات الإسرائيلية إلى غرفة صغيرة وأزالت العصابة عن عينيه، وجلست أمامه امرأتان، أنا وزميلتي من اللجنة العامة لمناهضة التعذيب في إسرائيل.
يقول ر.ز: “تردد قلبي: هل هذين هما المحققين يرتديان ملابس مختلفة؟”، ولكن بعد أن قدمت نفسي كمحامية، قال بأنه بدأ يشعر ببصيص من الأمل، فقال: “كنت هادئاً ومتوتراً وأحدق بها بعينين متعبتين، لكنني شعرت أن سياج الشك قد انهار، لم أعد أراها غريبة، بل مثل وميض ضوء في منتصف الليل المظلم كله، ماء بارد يسكب على روحي العطشى”.
لن أنسى أبداً نظرة ر. ز عندما رآنا خلف الحاجز البلاستيكي الصلب الذي يقسم الغرفة، كان ينظر إلينا وكأننا سقطنا من السماء وعلمنا لاحقاً أنه كان معزولاً تماماً منذ لحظة اعتقاله.
أوضحت له بأنني حصلت على توكيل رسمي من عائلته وأظهرت له وثيقة تحمل توقيع زوجته، وبذلك بدأت بنيل ثقته، إذ بدأ يفتح قلبه ويكشف تفاصيل المضايقات والمعاملة اللاإنسانية والظروف المعيشية التعذيبية التي تعرض لها.
شرحت وضعه القانوني باعتباره معتقلاً بموجب قانون المقاتلين غير الشرعيين الإسرائيلي وقدمت له المشورة، فقانون المقاتلين غير الشرعيين هو أداة قانونية قاسية تُستخدم لاحتجاز الفلسطينيين من غزة رهن الاعتقال الإداري، دون تهمة أو محاكمة، لفترات قابلة للتمديد مدتها ستة أشهر، ومنذ 7 أكتوبر عام 2023، اعتقلت إسرائيل أكثر من 4000 شخص بموجب ذلك القانون.
“الحقيقة يمكن أن تخترق جدران سجن عوفر”
بعد زيارة ر.ز في ذلك اليوم، غادرت السجن على أمل أن تعيد محادثتنا بعضاً من إنسانيته المحطمة، فقد منحته الشرعية للتحدث ومشاركة شهادته وكشف ما عاناه ووفرت له فرصة للمتابعة القانونية.
وتؤكد كلمات ر. ز على ذلك بوضوح حين كتب: “45 دقيقة، لا أكثر، لكنها كانت بمثابة شريان الحياة بالنسبة لي، فهي اللحظة التي استعدت فيها إنسانيتي التي كان الحراس يحاولون دفنها وشعرت أنني مازلت إنساناً، كان لدي عائلة وقضية ووطن يذبح ويحترق، لكنه لم يمت”.
تم إطلاق سراح ر.ز من السجن بعد عام، لكن شقيقه لا يزال أسيراً، ولا يزال غير مدرك لحجم المأساة التي حدثت في غزة، فكتب ر.ز: “لا يعلم أن أمهاتنا وأخواتنا وإخوتنا وأبناءهم قتلوا تحت الأنقاض وأن بيوتنا تهدمت وسويت بالأرض وأننا اليوم نتنقل من خيمة إلى أخرى في وطن لم يبق منه إلا الغبار”.
شدد ر.ز مرة أخرى على مدى أهمية زيارتنا بالنسبة له، واصفاً إياها بأنها “دليل على أن الحقيقة يمكن أن تخترق جدران سجن عوفر السميكة وأن صوت الإنسان يمكن أن يتغلب على الصمت الذي يفرضه الحراس”.
تسلط هذه الكلمات الضوء على كيفية استخدام مبدأ تجريد المعتقلين من إنسانيتهم كجزء من نظام التعذيب العاطفي وعزلهم عن العالم وعن أي معلومات عن عائلاتهم.
وهنا تظهر القيمة المضافة لزيارات المحامين، فهي توفر شكلاً من أشكال المراقبة الخارجية والمراجعة القانونية، ولا يزال العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان وحقوق الإنسان ممنوعين من زيارة السجون الإسرائيلية.
ووفقاً للشهادات التي جمعناها، غالباً ما يلتقي القضاة بالمعتقلين عبر شاشة الهاتف المحمول. ربما تستمر هذه التفاعلات لمدة دقيقة، مما يؤدي إلى تمديد احتجازهم مرة أخرى، دون محاولة الاطمئنان على سلامتهم.
يعتبر المحامون الأشخاص الحقيقيين الوحيدين الذين يستطيع الأسرى مقابلتهم، ولذلك فإن أي تأخير أو إلغاء لهذه الاجتماعات بين الأسرى والمحامين إنما تخدم نفس السياسة التي تسعى إلى محو إنسانية الأسرى وإخفاء الانتهاكات الممنهجة، وليس من قبيل الصدفة أن معظم الأسرى يقولون بأن ذلك المحامي هو أول “إنسان” يراهم منذ دخولهم السجن.
للاطلاع على النص الأصلي من (هنا)







