بعد مرور عام على انهيار حكم عائلة الأسد، لا تزال سوريا تعيش واحدة من أكثر مراحلها التاريخية تعقيدًا، إنها ترزح في مزيجٌ من التحرر والانفجار، من الانفتاح الدبلوماسي والانهيار الأمني، من الأمل بالعدالة والعودة المؤلمة لذكريات السجون والتغييب.
في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، انهار النظام الذي حكم البلاد بقبضة أمنية امتدت نصف قرن، سقط فجأة، من دون معركة فاصلة، ومن دون لحظة درامية كما تخيل كثيرون، لقد كان أشبه بستار يُسحب على مسرحٍ ظلّ يخنق البلاد لعقود.
اختفت صور بشار الأسد من جدران المدارس والطرقات، وتلاشت حواجز المخابرات التي كانت تطوّق المدن، ورفعت أعلام ثورة سوريا الجديدة، وامتلأت الساحات بجماهير تحتفل بحدثٍ بدا للكثيرين أقرب إلى المعجزة.
لكن خلف هذا الانفراج، بقيت ذاكرة ثقيلة ترزح على قلوب السوريين قوامها عشرات آلاف المعتقلين والمفقودين، وملفات الدم التي لم تُفتح بعد، وأقليات خائفة من المستقبل، وبلاد ممزقة بقوى مسلحة لم تخضع بعد لسلطة الدولة.
انهيار غير متوقع وفرحة ممزوجة بالصدمة
لم يشهد سقوط دمشق اشتباكات شرسة ولا حصارًا يمتدّ لأيام، بل بدأ كل شيء بشائعات متلاحقة، دبابات تغيّر اتجاه مدافعها، وحدات تنسحب نحو الشمال، وضباط يهربون من مقارهم.
وعند الفجر، انتشر الخبر: “موكب الأسد غادر القصر، دمشق حرة”، وعن ذلك الموقف، يروي باسل الخطيب، وهو شاب دمشقي، اللحظة التي عاشها بالقول: “كان الناس يطلقون النار في الهواء، يرقصون، ويبكون، رأيت جنودًا يسيرون بملابس مدنية لا يعرفون أين يذهبون، المعدات العسكرية ملقاة في الشوارع، لم أصدق أن يوم الخلاص قد جاء أخيراً”.
في تلك الساعات، فُتحت أبواب السجون، خرج معتقلون أشبه بظلال بشرية، كانت عيونهم تحاول التأقلم مع ضوء الشمس بعد سنوات قضوها تحت الأرض، وبقيت آلاف العائلات تنتظر كي تعرف مصير أبنائها إن كانوا أحياء أو تحت التراب.
وكان من بين هؤلاء عبد الهادي الصافي، الذي ظلّ ينتظر منذ 2012 أي خبر عن شقيقه فادي، الذي اعتقلته أجهزة الأسد أمام عينيه عندما كان في السادسة عشرة من عمره، حيث يقول الصافي: “سقوط النظام نصف انتصار، فبشار يعيش اليوم في روسيا مع عائلته، يجب أن يعود ويحاكم كقاتل، لن تكتمل القصة دون تحقيق العدالة”.
مرحلة انتقالية دامية.. مجازر الساحل وانفجار السويداء
بعد سقوط الأسد، سارعت حكومة أحمد الشرع، قائد هيئة تحرير الشام سابقًا، إلى فرض السيطرة على المؤسسات، ودمج المجالس المحلية، وإزالة رموز البعث، لكن علاقة النظام السابق بالطائفة العلوية جعلت المخاوف تتصاعد سريعًا.
وفي مارس/آذار، انفجرت هذه المخاوف على شكل مجازر حقيقية في الساحل وأجزاء من حمص وحماة، حيث وثّقت منظمات حقوقية مقتل مئات وربما آلاف المدنيين لمجرد انتمائهم الطائفي.
أما الكارثة الأكبر فكانت في السويداء، المحافظة ذات الغالبية الدرزية من السكان والتي بقيت طوال الحرب خارج الاستقطاب الطائفي.
ففي 15 يوليو/تموز 2025، نفذت قوات تابعة للحكومة الانتقالية ما سمّته “حملة أمنية”، لكن مشاهد إذلال المعتقلين الدروز عبر حلق شواربهم، التي ترمزٌ للمكانة الاجتماعية، فجّرت غضبًا عارمًا.
اندلعت معارك شرسة، وتدخلت مجموعات درزية بقيادة “رجال الكرامة”، ثم تحوّلت الأحداث إلى اقتحامات لبيوت البدو ووقوع إعدامات ميدانية.
ومع تزايد الفوضى، شنّت دولة الاحتلال غارات استهدفت مواقع الجيش السوري الجديد، بزعم حماية الحدود والدروز، ما أدى إلى انهيار الحملة الأمنية وتوسع الفوضى.
وردًا على تلك الانتهاكات، تدفقت مجموعات مسلحة من عشائر البدو من الشرق والبادية إلى مشارف السويداء، لتشتعل معارك ثأرية امتدت أسابيع قبل التوصل إلى هدنة هشة.
وحتى اليوم، مازالت السويداء خارج سيطرة الشرع، وظلت عمليات الخطف والاشتباكات المتقطعة تهدد كل محاولة للاستقرار.
الشمال الشرقي: تسوية غير مكتملة مع الأكراد
وفي مارس/آذار، حقق الشرع ما بدا أنه اختراق سياسي كبير عبر اتفاق عقده مع قوات سوريا الديمقراطية يقضي بدمج مؤسسات وحقول النفط والمطارات التي تسيطر عليها تحت سلطة الدولة السورية، مقابل الاعتراف بالهوية والثقافة الكردية.
لكن تنفيذ الاتفاق تعثر سريعًا، فالأكراد يخشون خسارة مكاسبهم، والعشائر العربية تخشى صعود النخب الكردية وتغلغل أجهزة الأمن الجديدة، بينما تعجز دمشق عن دمج عشرات آلاف المقاتلين ضمن الجيش الجديد.
أما في الشمال الشرقي، فلا يزال المشهد يتأرجح على رمال سياسية متحركة، فقد ألغت وزارة الداخلية ملايين أوامر المنع التي قيّدت حركة السوريين لأعوام، وراجعت ما يقارب عشرة ملايين سجل أمني، كما اعتقلت بعض الضباط المتورطين بالتعذيب، وبدأت لجان للعدالة الانتقالية العمل على ملفات السجون.
لكن عائلات المفقودين ترى أن هذه الخطوات لا تكفي، فالعديد من كبار الضباط فرّوا إلى الخارج، ولم تُكشف بعد سجلات المعتقلين، ولم تُفتَح ملفات المقابر الجماعية.
وعن هذا يقول عبد الهادي الصافي: “نعم، الحياة أفضل، يمكننا السفر، ولم يعد هناك تجنيد إجباري، والاقتصاد يتحسن قليلاً، لكن مصير المعتقلين ليس ثانوياً، لا يمكن بناء سوريا جديدة فوق قبور تحوي جثثاً مجهولة الهوية”.
اختراق دبلوماسي غير مسبوق
أما على الصعيد الدولي، فقد تبدو الحكومة الانتقالية أكثر نجاحًا مما هي عليه محليًا، فقد رعت السعودية محادثات إقليمية خلقت إجماعًا على دعم استقرار سوريا ما بعد الأسد ومنع انهيارها الكامل.
فقد أوقفت دمشق تجارة الكبتاغون، وضيّقت على فصائل فلسطينية مسلحة، واستهدفت خطوط إمداد حزب الله.
وبعد أشهر قليلة، أصبح أحمد الشرع أول رئيس سوري يزور البيت الأبيض رسميًا، مُكرّسًا علاقة جديدة مع واشنطن، حيث استقبله الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وبدورها، رفعت الولايات المتحدة أجزاء من عقوباتها تدريجيًا، وربطت إعفاءات واسعة بالتعاون الأمني وضبط الحدود، كما خففت أوروبا معظم قيودها، وبدأت المصارف الدولية تبحث في العودة إلى السوق السورية.
ويشرح الباحث كمال علم هذا التحول بقوله: “الشرع قدم نفسه نقيضًا لنهج الأسد، رئيس مرن، براغماتي، يحاول الاندماج في النظام الدولي بدل تحدّيه، وهذا ما فتح الأبواب أمامه”.
واليوم، امتلأت روزنامة دمشق الدبلوماسية بالزيارات والقمم، في مشهد لم تشهده البلاد منذ أوائل الألفية.
التحوّل المفاجئ لأحمد الشرع
يرى محللون أن نجاح الشرع الخارجي يرتبط بقدرته على التكيف بسرعة مع متطلبات الدولة، حيث يقول الباحث كمال علم إن الرئيس الجديد أدرك أن النظام السابق “دفع ثمن العناد السياسي والرفض المطلق لأي تسوية”، فاختار عكس هذا النهج تمامًا.
وأضاف: “الشرع محاط بمستشارين متمرّسين في دوائر القرار الغربية، ولديه خبرة شخصية وحضور دولي ساعداه في الانتقال من قائد فصيل سابق إلى رجل دولة”.
ومع ذلك، تبقى مخاوف داخلية من أن تغطّي الاندفاعة الدبلوماسية على تعثّر الإصلاحات، وأن يتحول الدعم الدولي إلى بديل غير معلن عن العدالة الانتقالية التي يطالب بها السوريون.
طريق لم يكتمل
بعد عام على سقوط الأسد، يتضح أن لحظة التحرّر لم تعنِ نهاية الانقسام أو الألم، فبينما تتنفس البلاد لأول مرة منذ عقود بعيدًا عن سلطة المخابرات، ما تزال جراح الطوائف مفتوحة، ومصير المفقودين معلقًا، والعدالة مؤجلة، والسلاح منتشرًا دون سلطة رادعة.
تخطو سوريا خطواتٍ كبيرة في السياسة الخارجية، لكنها تتقدم ببطء شديد على جبهة المصالحة والحوكمة والعدالة.
فقد سقط الديكتاتور، لكن النظام الذي خلّفه لم يسقط بعد، وما يزال السوريون يبحثون عن دولة جديدة تُبنى على أنقاض الماضي، على ألا تعيد إنتاجه بثوبٍ مختلف.
وبعد عامٍ على سقوط الأسد، تقف سوريا في لحظةٍ نادرة تتداخل فيها مشاعر التحرّر مع مرارة الكلفة البشرية والسياسية لهذا التحوّل.
فقد نجح السوريون في إسقاط النظام الذي حكمهم لعقود، لكنهم لم ينجحوا بعد في تفكيك المنظومة التي مكّنته من البقاء طوال نصف قرن.
وما تزال البلاد تعيش على خطوط تماسٍ سياسية وطائفية وعسكرية، تتأرجح بين انفراجات محدودة وتوترات قابلة للاشتعال في أي لحظة.
في المقابل، حقّقت الحكومة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع اختراقات دبلوماسية غير مسبوقة، فتقدّمت سوريا خطوات واسعة نحو إعادة الاعتراف الدولي بها، وبدأت ترتسم ملامح مشروع سياسي مختلف، أكثر ليونة وانفتاحًا على الشركاء الإقليميين والدوليين.
غير أن نجاح هذا المشروع يبقى رهناً بقدرة السلطات الجديدة على تحقيق ما أخفقت فيه كل الأنظمة المتعاقبة والمتمثل في بناء دولة قانون، وكشف مصير مئات الآلاف من المفقودين، ومحاسبة مرتكبي الجرائم بحق السوريين.
لقد طوى السوريون صفحة مظلمة من تاريخهم، لكن الصفحة التالية لم تُكتب بعد، وما بين الفرصة المتاحة والانهيار المحتمل، يبقى مستقبل سوريا مرهونًا بإرادة شعبها وقدرة قيادتها الجديدة على تحويل عام التحرّر إلى بداية حقيقية لقيام دولة عادلة يعيش فيها جميع أبنائها بلا خوف، ولا استثناء، ولا ثأر.







