كيف توظّف “جويش كرونيكل” تهمة معاداة السامية لإسكات التضامن مع فلسطين

بقلم نيف غوردون

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

تتزايد اليوم المقالات التي تربط بين النشاط المؤيد لفلسطين وكراهية اليهود، في انسجام تام مع الدعاية التي تتبنّاها دولة الاحتلال، والتي تعمل بشكل ممنهج على خلط المفاهيم واستخدام “معاداة السامية” كسلاح لإخماد كل صوت يناصر الحرية والعدالة للفلسطينيين.

في يوم عيد “يوم كيبور”، قُتل يهوديان بريطانيان داخل كنيس “هيتون بارك هِبرو كونغريغيشن” في مانشستر، في حادثة عنف مؤلمة ذات طابع معادٍ للسامية، قُتل أحدهما برصاص الشرطة عن طريق الخطأ.

وبعد أيام، وأثناء حديثنا العائلي عن تصاعد معاداة السامية، فتح ابني المراهق الذي يدرس في إحدى مدارس هاكني في لندن هاتفه ليعرض أمامنا عشرات المقاطع المنشورة على “إنستغرام”، تحمل في طياتها خطاباً ينضح بالكراهية.

كانت مقاطع كثيرة مصنوعة بالذكاء الاصطناعي تُظهر يهوداً متدينين في مشاهد مختلفة، يبدون فيها مهووسين بالمال، بينما عمدت مقاطع أخرى إلى إنكار الهولوكوست عبر تساؤلات ساخرة مثل: “كيف يمكن صناعة ستة ملايين بيتزا في عشرين فرناً؟”، والأسوأ أن بعض أصدقائه في المدرسة تفاعلوا مع هذه المقاطع باعتبارها “طريفة”.

لا شك أنّ معاداة السامية حقيقة قائمة في بريطانيا وأوروبا، ويجب مواجهتها بحزم وشجاعة، لكن، بدل التركيز على هذا الخطر الحقيقي، اختارت منظمات يهودية نافذة أن تتماهى مع خطاب دولة الاحتلال، مسخّرة تهمة “معاداة السامية” أداةً لإسكات الفلسطينيين ومناصريهم، وتشويه نضالهم المشروع من أجل التحرر وتقرير المصير، والمفارقة المؤلمة أنّ هذه الاستراتيجية تُضعف فعلياً النضال الحقيقي ضد معاداة السامية.

سردية مُصنّعة

من الأمثلة البارزة على ذلك صحيفة جويش كرونيكل، أقدم صحيفة يهودية في العالم التي نشرت في ديسمبر/كانون الأول 2024 مقالاً للكاتبة ميلاني فيليبس، جاء فيه: “الخوف المرضي من اليهود، والسعي لإبادتهم، هما عنوان القضية الفلسطينية”.

ومضت الكاتبة تقول: “الحكومات اليسارية في بريطانيا وأستراليا وكندا، التي تدعم فلسطين وتخضع لضغط قواعدها المسلمة، تعيد تدوير الأكاذيب ضد دولة الاحتلال”، وخلصت فيليبس إلى أن جميع المؤيدين للقضية الفلسطينية “يسهّلون صعود كراهية مختلة ومميتة لليهود”

وبعد ثلاثة أسابيع فقط نشرت الصحيفة مقالاً بعنوان هل أدى إيلون ماسك تحية نازية حقاً في تجمّع لترامب؟ ثم سارعت في العنوان الفرعي إلى طمأنة القرّاء بأن “الجمعيات اليهودية تنفي أن تكون للّفتة صلة بالنازية”، قبل أن تنقل عن رابطة مكافحة التشهير قولها إن إشارة ماسك “غير موفقة، لكنها ليست تحية نازية”.

هذا التناقض الصارخ بين التهويل في وصف النشاط المؤيد لفلسطين بأنه “كراهية قاتلة لليهود”، وبين التخفيف من خطورة إيماءة نازية صادرة عن واحد من أقوى رجال العالم، يكشف الكثير عن عالم الصحيفة وعن حملتها الشرسة ضد كل تعبير عن التضامن مع فلسطين.

لقد تحوّلت تهمة معاداة السامية لدى الصحيفة إلى قبة حديدية لغوية مخصصة لحماية دولة الاحتلال من النقد، حتى ولو جاء من اليهود أنفسهم، وبذلك تُلحق أذىً مباشراً باليهود الذين تزعم أنها تمثلهم وأنا من بينهم.

تفريغ المصطلح من معناه

غالباً ما تُجرَّد كلمة “معاداة السامية” من معناها الأصلي، أي التمييز ضد اليهود لكونهم يهوداً، لتُستخدم بدلاً من ذلك كدرع لغوي يحمي دولة الاحتلال من النقد. 

هذا ما دفعني إلى التعمّق في تحليل كيفية استخدام جويش كرونيكل للمصطلح عبر تاريخها، وهي دراسة بحثية نشرت نتائجها مؤخراً.

اعتمدتُ على تتبّع ظهور المصطلح في الصحيفة على مدى مئة عام، من 1925 حتى 2024، وتوقعتُ أن يكون استخدام الكلمة في ذروته خلال فترة الهولوكوست، عندما بلغت معاداة السامية أشد مستوياتها وانتهت بإبادة ستّة ملايين يهودي.

لكن النتائج جاءت صادمة، ففي عام 1938، وهي ذروة القمع النازي العلني لليهود في ألمانيا قبل تنفيذ “الحل النهائي” الذي أُحيط بالسرية ظهر مصطلح معاداة السامية في 352 مقالاً فقط.

ورغم أن هذا العدد كان أعلى من متوسط الاستخدام، فإنه كان أقل بكثير من ظهوره خلال حملة الانتخابات البريطانية لعام 2019 التي خاضها جيريمي كوربن، وأقل كذلك من تكراره خلال الحرب الأخيرة لدولة الاحتلال على غزة.

بمعنى آخر، وفق ما تعكسه صفحات الصحيفة، فإن الخطر الذي يهدد اليهود اليوم يُصوَّر بأنه أكبر مما كان عليه في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات.

صناعة الذعر

بين يناير/كانون الثاني 2023 ويونيو/حزيران 2024 أي تسعة أشهر قبل عملية 7 أكتوبر، وتسعة أشهر بعدها وردت كلمة “معاداة السامية” في ما يقرب من مقال واحد من كل خمسة مقالات، وغالباً ما كانت تستخدم لوصف معارضة الصهيونية أو انتقاد دولة الاحتلال.

هذا الاستخدام المكثّف يشير بوضوح إلى أن الصحيفة تُسخّر تعريفاً صهيونياً للمصطلح من أجل خلق ذعر أخلاقي لدى قرّائها، ذلك أن النشاط المؤيد لفلسطين، مهما كان سلمياً، يُعاد تأطيره باعتباره تهديداً وجودياً لليهود حول العالم.

ولكي تكتسب هذه الادعاءات مصداقية، يصبح من الضروري، في سردية الصحيفة المزج بين رفض الصهيونية وبين الخطر المباشر على اليهود كأفراد، وهكذا يُعاد تعريف النقد السياسي بوصفه تهديداً أمنيّاً.

ولتكريس هذا الرابط المصطنع، تلجأ الصحيفة إلى خلق خلط آخر بين الشعور بالانزعاج وبين الشعور بالتهديد.

ذلك أن التأكيد على أن دولة الاحتلال تمارس نظام فصل عنصري، أو أنها دولة استيطان كولونيالي، أو أنها ترتكب جرائم إبادة في غزة، قد يثير شعوراً بعدم الارتياح لدى بعض اليهود الذين يرتبطون عاطفياً بالمشروع الصهيوني. 

لكن جويش كرونيكل تقدّم هذا الانزعاج النفسي ذاته باعتباره “خطراً” أو “تهديداً”، بما يعني أن الكلام الناقد يشكل بحد ذاته اعتداءً.

وبذلك يصبح المصطلح أداة لصناعة الخوف، ولتضخيم أي نقد سياسي وتحويله إلى تحريض على القتل، وبالتالي تتحول “معاداة السامية” إلى أداة مضادة للانتفاضات الشعبية، هدفها إسكات الفلسطينيين والمتضامنين معهم، خصوصاً بعد الحرب الوحشية التي يشنها جيش الاحتلال على غزة.

إن استمرار هذا التلاعب بالمصطلح يهدد بإزاحة الانتباه عن الخطر الحقيقي لمعاداة السامية، وهو خطر لا يزال حاضراً ومؤلماً. 

ولكن الصحيفة، بدل التصدي لهذا الخطر، توظّف الكلمة للدفاع عن نظام عنصري وطمس فظائع تُرتكب على الأرض بحق شعب بأكمله.

وبذلك، فإن أقدم صحيفة يهودية في العالم تبدو مصمّمة للأسف على استخدام “معاداة السامية” لا لمحاربة العنصرية، بل لستر جرائم دولة الاحتلال وحرف النقاش عن المظالم التي يتعرض لها الفلسطينيون، إنها إساءة استخدام تضرّ باليهود أنفسهم، وأنا أحدهم.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة