الفدائي في كأس العرب: كرة قدم تُقاوم الإبادة وتستعيد الهوية

بقلم خالد الحروب

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

وسط مشاهد الإبادة وفي ذروة الألم الذي يعيشه الفلسطينيون، أطلقت انتصارات المنتخب الفلسطيني المتتالية في كأس العرب التي تقام حاليًا في قطر وميض أمل قل نظيره، وجاءت كأيقونة مقاومة توحّد ما فرّقته السياسة وتفتح نافذة تنفّس في جدار خانق من الحزن والدمار.

انطلقت هذه الفرحة من بين الخيام الغارقة تحت مطر ينهال فوق رؤوس العائلات المُهجّرة في غزة، لتمتد إلى مخيمات اللجوء في لبنان والأردن وسوريا، وصولاً إلى كامل الشتات الفلسطيني الموزع عبر القارات. 

ففي البطولة العربية، يقود المدرب إيهاب أبو جزر فريقه وقد دُمّر منزله في رفح، وأُجبرت والدته على اللجوء إلى خيمة في منطقة المواصي، ليصبح الرجل، فجأة، رمزًا حيًا يعبر عن قدرة الفلسطينيين على النهوض رغم كل الجراح.

وفي لحظة خاطفة، يقدّم فريقه انتصارًا جديدًا، ويتأهل إلى الدور التالي، ويهدي الفوز أولًا لغزة ثم لكل الفلسطينيين. 

يحمل منتخب فلسطين لقب “الفدائي”، ومن خلفه تظهر روح جماعية جديدة تتجاوز حدود الرياضة لتعبّر عن توق عميق لدى الفلسطينيين لاستعادة هوية غير مُجزأة، متحرّرة من قبضة الانقسام السياسي ومآسيه.

وتكشف الصور التي تلتقطها الكاميرات وتنتشر عبر وسائل التواصل عن المشهد الأكثر عمقاً، أعمار مختلفة، نساء ورجال وشباب وكبار سن، يهتفون بكل ما أوتوا من شغف في المدرجات والمقاهي وغرف الجلوس حول العالم.

قد تكون كرة القدم هوسًا عالميًا، لكنها بالنسبة للفلسطينيين اليوم تُحمّل بمعنى يتجاوز المتعة لتصبح فعل تحدٍ، فكل هدف هو انتفاضة رمزية في وجه حرب الإبادة على غزة، وإعلان على الملأ: نحن هنا، وما زلنا نقاوم، مثل طائر الفينيق الذي ينهض من تحت الرماد.

وبين أقدام اللاعبين، تجد محاولات دولة الاحتلال لشطب فلسطين من الخريطة جوابها، إنهم يركلون كل سردية تدّعي أن الشعب الفلسطيني غير موجود. 

وفي هذا الهامش الزمني القصير، يظهر اسم فلسطين خالصًا، بلا ألوان حزبية أو أثقال سياسية، يرتفع العلم وحده، كأنه يستعيد نضارته الأولى.

وهناك في الدوحة، وجد الفلسطينيون احتضاناً عربياً يعيد رسم الخريطة الشعورية التي تجسّد روح الفريق بكل تفاصيلها، من صمود غزة إلى مدن الضفة، ومن فلسطينيي الداخل المحتل عام 1948 إلى ملايين الشتات الممتد من مصر حتى أميركا اللاتينية. ثم يأتي الاحتضان العربي، الذي يحرّك وجدانًا عصيًّا على القمع، اللاعبون والجماهير من مختلف البلدان يهتفون للفدائي، موجة تضامن جارف تعيد للأذهان ملامح “العروبة الناعمة” التي برزت بقوة خلال كأس العالم في قطر.

وفي هذه اللوحة، كانت لقطة اللاعب التونسي الذي اندفع بعد تسجيله هدفاً في شباك فلسطين ليحتضن المدرب الفلسطيني وكأنه يعتذر لافتةً للغاية. 

وفي الملعب، يدوّر لاعب فلسطيني سارية العلم ممسكًا بالعلمين السوري والفلسطيني، بينما في مشهد حاكته الكوفية من طرفه إلى آخره.

في بعض البلدان العربية، يصبح الملعب الفضاء الوحيد المتاح لرفع العلم الفلسطيني أو الهتاف باسمه، حيث يُمنع ذلك في الساحات الأخرى.

ورغم ندرة الموارد، وعدم انتظام الدوري المحلي لسنوات، وتدمير دولة الاحتلال للملاعب والمنشآت الرياضية، يظهر المنتخب الفلسطيني بأداء لافت يفوق الإمكانات. 

لقد جُمعت عناصر الفريق بشق الأنفس، وجرى التدريب في ظروف تكاد تكون مستحيلة، ومع ذلك يحضر اللاعبون بروح مقاتلة تعوّض كل نقص فني.

هوية تُشحَذ من ذاكرة قرن من الصمود

هذه الموجة من الفخر لا تأتي من فراغ، إنها تستدعي ذاكرة جمعية صاغتها أكثر من مئة سنة من مقاومة الاستعمار والاحتلال، هناك، حيث الإرادة قد تفوق فائض القوة.

والفريق الحالي يعيد تذكير الفلسطينيين بجوهرهم، ذلك الذي كتب عنه محمود درويش يوم وصف الفلسطيني بأنه “حصان أُعِدّ لجبال الوعر”، يلمّح إلى أن خلف الطريق الصعبة وديانًا خضراء تنتظر.

ومع ذلك، يظل السؤال المدهش: كيف، بعد عامين من حرب إبادة ضارية تشارك فيها قوى عالمية فاشية متواطئة في محاولة سحق شعب كامل، ينهض هذا الفريق ليقدّم أداء يبدو وكأنه نتيجة سنوات من الإعداد؟

يبدو الجواب وحده كافياً للدلالة، فعلى مدى عقود، كتب عالم الاجتماع جميل هلال عن الدور الحيوي للثقافة في الحفاظ على هوية فلسطينية موحدة تتجاوز الأحزاب والانقسامات. 

ذلك أن الثقافة، بكل مكوناتها من الأدب والشعر والفن والدبكة والغناء والأزياء والحكايات والرموز، تُشكّل الطبقة المؤسسة للوعي الجمعي، هذه الطبقة يجب أن تبقى بمنأى عن الانقسام، فإذا انشقت، انشطر معها الوعي الوطني كله.

ركن جديد من الهوية: الرياضة كفضاء وطني جامع

ولأن هذه الطبقة حيوية إلى هذا الحد، تستهدفها دولة الاحتلال بقوة، كما تستهدف الأرض عبر الاستيطان والسرقة.

نحن نعرف محاولات الاستيلاء على التراث الفلسطيني، من التطريز إلى الأكلات الشعبية مثل الكنافة والفلافل، فحين تُنهب الثقافة، يتشتّت الناس، وتترنّح الهوية.

واليوم، يمكن إضافة بعد جديد إلى هذا الفضاء الثقافي: الرياضة الوطنية، باعتبارها ركنًا من أركان الوعي والهوية الفلسطينية، إنها مساحة يلتقي فيها الجميع، يخلعون أزياء السياسة ويلبسون قميص الوطن الواحد.

قد يرى البعض أن في الأمر مبالغة، لكن قسوة اللحظة السياسية الفلسطينية تتطلب تعزيز كل ركيزة يمكن أن تمنع الانهيار الكامل.

في مباريات المنتخب، لم يشاهد ملايين الفلسطينيين مجرد لاعبين، بل رأوا فدائيين، محمّلين بتاريخ وذاكرة وقضية، يتقدّمون إلى الملعب بعزيمة تشبه عزيمة المقاوم أكثر مما تشبه روح الرياضي.

اللاعبون، في مخيلة الجمهور، لم يكونوا ينافسون فقط على بطاقة التأهل، كانوا يحملون عبء شعب كامل يقاوم الموت ويحرس وجوده.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة