بقلم حميد دباشي
ترجمة وتحرير موقع بالعربية
في التاسع من ديسمبر/كانون الأول، أصدرت منظمة مراسلون بلا حدود تقريرها السنوي الذي وثّق مقتل 67 صحافياً حول العالم خلال عام 2025، نحو نصفهم كانوا قد استشهدوا في غزة.
وتقول المنظمة إن 43% من الصحافيين الذين قُتلوا هذا العام كانوا فلسطينيين، استهدفهم جيش الاحتلال في غزة، وهو رقم تصفه بأنه “غير مسبوق في التاريخ الحديث”.
ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، أزهقت دولة الاحتلال أرواح ما يقارب 220 صحافياً، ما دفع المنظمة إلى وصفها بأنها “أسوأ عدو للصحافيين”.
ورغم فداحة هذه الأرقام، لم تجد كبرى وسائل الإعلام الغربية، التي تدّعي الدفاع عن حرية الصحافة وحقوق الإنسان، مساحة تُذكر لتغطية أكثر الأعوام دموية في السجل الذي نشرته المنظمة، فضلاً عن الإشارة إلى أن الغالبية الساحقة من الضحايا كانوا شهداء فلسطينيين.
في أي سياق آخر، كان يمكن لهذا الصمت أن يكون مقلقاً، لكنه بعد أكثر من عامين على حرب إبادة، تحوّل إلى أحد أعمدة استمرار تلك الحرب، وفي الواقع فإن القليل من المؤسسات تجسد هذا الغضب الانتقائي بوضوح كما تفعل صحيفة نيويورك تايمز.
فقد تجرأت الصحيفة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على إدانة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسبب لقائه بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، مشيرة إلى الدور “شبه المؤكد” للأخير في اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي عام 2018.
غضب انتقائي
“لا، سيدي الرئيس، لا يمكننا أن نكتفي بذلك!”، كان هذا عنوان افتتاحية نشرتها نيويورك تايمز في 19 نوفمبر/تشرين الثاني، توبّخ فيها ترامب لأنه تجاهل تذكير أحد الصحافيين لابن سلمان بمسؤوليته عن اغتيال خاشقجي.
الصحيفة أعلنت أن “وقائع الجغرافيا السياسية طالما فرضت على الولايات المتحدة التحالف مع قادة أجانب يرتكبون أفعالاً فظيعة”، وقد تظن أنهم يقصدون رئيس حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، لكنك ستكون مخطئاً مرة أخرى، فقد كان المقصود حاكماً عربياً قتل صحافياً عربياً
وتابعت الافتتاحية: “الانتصار على التهديدات الخارجية غالباً ما يتطلب مساعدة دول لا ترقى إلى مستوى الديمقراطيات الليبرالية التي تحترم حقوق الإنسان”.
مرة أخرى، قد يخيل إليك أن الحديث عن دولة الاحتلال، التي تمارس عنفاً منهجياً ضد الفلسطينيين داخل الخط الأخضر وتحت نير الاحتلال، لكنك ستخطئ مجدداً.
كانت نيويورك تايمز غاضبة لأن ترامب “ترك” ابن سلمان يفلت من المحاسبة على قتل صحافي واحد، غير أن الصحيفة التي تحب أن تصف نفسها بـ “السجلّ” استنكرت تجاهل جريمة واحدة، وواصلت الصمت عن قتل مئات الصحافيين الفلسطينيين.
وأنا أعتقد أن هيئة تحرير نيويورك تايمز، بكل أعضائها الذين وقّعوا تلك الافتتاحية، تستحق أن تُعرض في متحف للتاريخ الطبيعي لإجراء فحص سيكولوجي أخلاقي معمّق، فهؤلاء يجتمعون ليكتبوا نصاً كاملاً يتظاهرون فيه بالحرص على صحفي عربي تم قتله، ثم يتوقعون أن يأخذهم العالم على محمل الجد، وهذا السلوك، في رأيي، عرض مرَضي لانحطاط أخلاقي.
وأكاد أفضّل الصراحة الفجّة لدعاة الدعاية الصهيونية السافرة، مثل باري فايس، التي تصف نفسها بـ “المتعصبة الصهيونية”، والتي تولت مؤخراً إدارة أخبار CBS، وقد تحولت فعلياً إلى وزارة دعاية صهيونية غير رسمية في نيويورك.
لا تدّعي فايس أبداً التعاطف مع أي عربي أو مسلم، ناهيك عن الصحفيين الفلسطينيين الذين يقتلهم أبناء عمومتها في جيش الاحتلال، أما هيئة تحرير نيويورك تايمز، فتظن نفسها شديدة الذكاء.
إن لها مكاتب فاخرة في خدمة جيش الاحتلال، تطل نوافذها على “الجانب الليبرالي” من الإمبراطورية التي تعتقد أنها تديرها.
تقول الصحيفة إن دفاع ترامب عن ابن سلمان كان مقلقاً لثلاثة أسباب، أولاً، لأنه جعل الحقيقة بلا قيمة، ثانياً، لأنه غسل انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وثالثاً، لأنه أظهر ازدراءً صارخاً لحرية الصحافة.
يالها من صياغة أنيقة حقاً، ولكن تعالوا لنحاكم نيويورك تايمز بهذه المعايير نفسها عندما يتعلق الأمر بدولة الاحتلال الاستيطانية، هل تقدّر الصحيفة الحقيقة عندما يُقتل الصحفيون الفلسطينيون؟ وهل توثّق الانتهاكات المنهجية لحقوقهم؟ وهل تكترث لحرية الصحافة الفلسطينية؟
ويا هل ترى، كم صحفياً فلسطينياً قتلهم جيش الاحتلال عمداً؟ وكم افتتاحية كتبتها الصحيفة عن شيرين أبو عاقلة، أو أنس الشريف، أو محمد قريقع، أو إبراهيم زاهر، أو محمد نوفل، ومئات غيرهم؟
بل والأسوأ من التجاهل، أن نيويورك تايمز تُموّه الجريمة ذاتها، تماماً كما حاولت السلطات السعودية تبرئة ابن سلمان من دم خاشقجي.
بلا أي سلطة أخلاقية
هل تلتفت نيويورك تايمز إلى قتل الصحفيين الفلسطينيين؟ نعم، ولكن فقط عندما يصبح الجرم مكشوفاً للعالم كله، عندها تتدخل لتشويه الأدلة، وتبرير آلة القتل، ومنع الحقيقة من الظهور، بذات الطريقة التي اتبعتها الأجهزة السعودية تحت ضغط الفضيحة.
بل إن تعامل نيويورك تايمز مع جرائم دولة الاحتلال أسوأ من محاولات التستر السعودية التي لا تدّعي النزاهة الصحفية أصلاً، أما الصحيفة الأميركية، فتفعل.
ما تفعله الصحيفة يتطابق تماماً مع ما شرحه إدوارد سعيد في كتابه الكلاسيكي “تغطية الإسلام: كيف تصنع وسائل الإعلام والخبراء صورة العالم الآخر”.
في كل مرة يُقتل فيها صحفي فلسطيني، تفتح نيويورك تايمز صفحاتها لدعاية دولة الاحتلال عبر النشر بأن الشهيد “كان عنصراً في حماس”، “حادث عرضي”، “الجيش سيحقق”.
يمكن للصحيفة أن تكتب كل شيء إلا الحقيقة البسيطة والتي مفادها أن جيش الاحتلال ونظامه السياسي وقاعدته الشعبية يشكلون منظومة قتل جماعي ذات طابع إبادي.
تكفير مطلوب
إذا أرادت نيويورك تايمز أي ادعاء أخلاقي، فعليها أن تبدأ بخطوات ملموسة عبر زيادة عدد الصحفيين والمحررين من أصول عربية ومسلمة، وخصوصاً فلسطينية، وإضافة كاتبين فلسطينيين على الأقل بانتظام بما يوازي مساحة أعمدة بريت ستيفنز وتوماس فريدمان، والتوقف عن تقديم نفسها كصوت “نيويورك”، بينما تمارس دور “تل أبيب تايمز”.
التحول السياسي والديمغرافي في مدينة نيويورك بات واضحاً، مع انتخاب عمدة جديد يعكس هذا التغيير، وإن أرادت الصحيفة أن تستحق اسم المدينة، فعليها أن تتوقف عن الترويج لإبادة الفلسطينيين.
وإلى أن يحدث ذلك، ستبقى نيويورك تايمز صحيفة بلا أي سلطة أخلاقية، تحتل اسم نيويورك كما تحتل دولة الاحتلال فلسطين.
للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)







