بيت لحم التي لا يريدها العالم: ميلاد تحت القهر والصمت

بقلم فارس إبراهيم

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

في بيت لحم، نشأتُ على طقسٍ بسيطٍ من طقوس زمن المجيء، في كل موسم عيد ميلاد، كنتُ أشعل شمعةً بيضاء داخل كنيسة المهد، إنها لهب صغير يرمز إلى الأمل والسلام، وإلى الانتظار الهادئ لميلاد المسيح، حتى في أكثر الأماكن قسوةً وألمًا.

لم تكن الشمعة مجرّد تقليد، كانت طريقتنا في القول أن الله لم يتخل عن بيت لحم رغم كل ما عانيناه، غير أن زمن المجيء هذا العام اصطدم بواقعٍ مختلف.

ففي مغارة المهد، أشعل طفلان فلسطينيان، لينا وجيفان، شمعةً حمراء بدلًا من الشمعة البيضاء المعتادة، مُطلقَين حملة “الشمعة الحمراء” كعمل تضامني مع العائلات المتألمة في بيت لحم وغزة، وفي عموم فلسطين.

كانت اللحظة وادعة، وتكاد تكون خفية، لكن رمزيتها كانت صارخة، فالعالم الذي يتغنّى ببيت لحم في كل ديسمبر/كانون الأول لا يرى دائمًا المكان الذي نعرفه نحن، فقد ذهب بعض القساوسة إلى حدّ إنكار الجغرافيا الحقيقية لقصتنا الكتابية.

إذ قال أحد القادة الإنجيليين المعروفين للملايين من أتباعه أن “يسوع هو الذي وُلد في بيت لحم، لا بيت لحم الضفة الغربية، لا، لا وجود لشيء من هذا القبيل”، وقد كانت رسالته واضحة ومفادها أن الاعتراف ببيت لحم الفلسطينية المعاصرة يُعدّ، في نظره، تشويهًا للسردية الإنجيلية.

العالم الذي يُنشد لبيت لحم كل شهر ديسمبر لا يرى دائمًا المكان الذي نعرفه، لكن بيت لحم ليست فكرة مجردة، إنها مكان حقيقي، تعيش فيه عائلات حقيقية، وتضم كنائس حقيقية، ويحمل تاريخًا مسيحيًا متواصلًا يمتد لألفي عام، هناك ما يزال أقاربي يعيشون، وهناك صلّت أجيال متعاقبة منذ القرون الأولى للإيمان

إن محو الهوية المعاصرة لبيت لحم ليس خطأً تاريخيًا فحسب، بل هو إهمال روحي أيضًا ومحاولة لحماية “أرض مقدسة” متخيّلة، عبر تجاهل البشر الذين يعيشون في واقعها اليوم، وهنا تتجلى الفجوة بين بيت لحم التي يتخيلها كثيرون، وبيت لحم التي نعرفها ونعيش فيها.

زمن مجيء ثقيل

يبدو هذا الموسم من الأعياد مثقلًا على نحوٍ خاص بالنسبة لي، فأنا مسيحي فلسطيني–أميركي، أقضي كل زمن المجيء متنقلًا بين كنائس الولايات المتحدة. 

أجل، أنا أقف أمام جماعات دافئة، وأنشد معهم تراتيل مثل “يا بلدة بيت لحم الصغيرة”، لكنني لا أستطيع أن أتجاهل حقيقة أن المجتمع المسيحي في تلك البلدة الصغيرة يُمحى شيئًا فشيئًا، عامًا بعد عام.

ترتبط جذوري ببيت لحم ارتباطًا عميقًا، حيث تعيش عائلتي الممتدة في أحياء تتداخل فيها أجراس الكنائس مع قلق تقلّص الأرض وتراجع الفرص، أما عائلة زوجتي ففي غزة، حيث نجا كثيرون من حربٍ تلو أخرى، ولم يبقَ لهم ما يُعاد بناؤه تقريبًا.

بالنسبة لنا، ليس زمن المجيء مجرد موسم انتظار، بل هو موسم تناقض، نرنّم للسلام، بينما نصلّي أن ينجو أقاربنا من الليل، وفي هذا السياق، أشعل الطفلان الشمعة الحمراء، ومن تلك اللفتة الصغيرة، حدث أمر غير متوقّع.

فخلال ساعات، انضمّت إليهما كنائس في الولايات المتحدة وروما والقدس، وانتشرت حركةٌ كاملة، حين أدرك مسيحيون عاديون إلحاح اللحظة وثقلها.

حضور يتلاشى

تدعو مبادرة “الشمعة الحمراء” المسيحيين حول العالم إلى رؤية ما يتم التغافل عنه غالبًا وهو التراجع المتسارع للحضور المسيحي في الأرض التي انطلقت منها المسيحية.

فما تزال بيت لحم وبيت ساحور والقدس تضم عائلات مسيحية حافظت على إيمانها عبر قرون من الإمبراطوريات المتعاقبة، والاقتلاع، والاضطرابات السياسية.

غير أن فقدان الأرض، والضيق الاقتصادي، وصدمات الصراع باتت اليوم تهدد مستقبل هذه العائلات على نحوٍ لا يدركه كثيرون حول العالم.

وبالنسبة لمن نشأ وهو يشعل شمعةً بيضاء، فإن الشمعة الحمراء لا تُلغِي اللهب القديم، بل تُعمّقه.

فالشمعة البيضاء ترمز إلى الأمل، أما الشمعة الحمراء فتمثل الحقيقة، البيضاء تحتفي بوعد السلام، بينما تُسمّي الحمراء العنف الذي يعترض طريقه، البيضاء هي ما نصلّي من أجله، والحمراء هي ما نعيشه ونحتمله.

ما يمنح هذه المبادرة قوتها ليس رمزيتها، بل صدقها، فهي لا تدّعي أن إشعال شمعة يمكن أن يغيّر الوقائع السياسية، بل تؤكد أن على المسيحيين حول العالم ألا يظلوا شهودًا صامتين على المعاناة، لا سيما في المكان الذي يقولون إنه يتصدر جوهر إيمانهم، إنها تذكّرنا بأن التعاطف ليس موقفًا سياسيًا، بل التزامٌ أخلاقي.

شعلتان معًا

في كل عام، وأنا أتنقّل في خدمتي بين بيت لحم وكنائس الولايات المتحدة، أشعر بأن المسافة تتسع أكثر.

فبيت لحم التي تتغنّى بها التراتيل تكاد لا تشبه بيت لحم التي تعرفها عائلتي، حيث تُشكَّل الحياة بقيود يومية، وتقلّص متواصل للأرض، وخوف صامت من أن يأتي يوم تفقد فيه المدينة أبناءها الذين حملوا هويتها المسيحية على مدى ألفي عام.

بيت لحم ليست رمزًا فحسب، إنها بيتٌ هشّ لأناسٍ حقيقيين لا تزال حكاياتهم جديرة بأن تُروى

ومع ذلك، حين أرى مسيحيين حول العالم يشعلون الشموع الحمراء في زمن المجيء هذا، أشعر بشيء لم أشعر به منذ زمن طويل، لعل الكنيسة العالمية بدأت أخيرًا تُبصر الفجوة بين بيت لحم المتخيَّلة وبيت لحم التي نعيش فيها، تحت الاحتلال.

ما زلتُ أشعل شمعةً بيضاء مع عائلتي، إنه طقس من الأمل أرفض التخلي عنه، لكنني هذا العام أشعل أيضًا شمعةً حمراء من أجل بيت لحم، ومن أجل غزة، ومن أجل العائلات التي بقيت، وتلك التي لم يعد بوسعها البقاء.

اللهبان معًا يرويان حقيقةً أكثر اكتمالاً، أن الأمل حقيقي، كما أن المعاناة حقيقية، وأن الإيمان قادر على الصمود، لكن فقط إذا التفت العالم، وأن بيت لحم ليست مجرد رمز، بل وطنٌ هشّ لأناسٍ حقيقيين، ما زالت قصصهم تستحق أن تُرى، وفي هذا العام، تستحق هذه الحقيقة أن تُبصر.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة