المسيحية الفلسطينية: الجذور التي تحاول الصهيونية الإنجيلية اقتلاعها من سردية فلسطين

بقلم سمية الغنوشي 

ترجمة وتحرير نجاح خاطر

لم تكن المسيحية في أي يوم مجرد هامش في فلسطين، ولا تفصيلًا عابرًا في تاريخها، لقد شكّلت، على مدى قرون، أحد أعمدة المخيال السياسي الفلسطيني، ومصدرًا مركزيًا في إنتاجه الثقافي، ومكوّنًا أصيلًا في لغته الأخلاقية. 

وهذه الحقيقة بالذات هي ما تسعى دولة الاحتلال، ومعها رعاتها من الصهاينة الإنجيليين، إلى طمسه وإخفائه.

فخلال الأسبوع الماضي، حطّ أكثر من ألف قسٍّ إنجيلي أمريكي و”مؤثر مسيحي” رحالهم في دولة الاحتلال، ضمن ما روّج له المنظمون بوصفه “حجًا تاريخيًا”، هو الأكبر من نوعه منذ تأسيس الدولة العبرية. 

وقد حظيت الرحلة التي نظمتها مبادرة “أصدقاء صهيون” بمباركة وزارة خارجية دولة الاحتلال، واستُقبل المشاركون فيها بمراسم رسمية رئاسية من قبل إسحق هرتسوغ، وسُوّقت على أنها صحوة روحية.

لكن ما جرى لم يكن سوى حملة سياسية، متلفعة بلغة الوحي والنبوة، فمن على منابر القدس، ترددت الترانيم ذاتها، حيث دعا السفير الأمريكي لدى دولة الاحتلال، مايك هاكابي، المشاركين إلى العودة إلى بلادهم وهم يحملون “نار الله في عظامهم”، ليكونوا “مع الكتاب المقدس” وبالتالي “مع إسرائيل”. 

أما مايك إيفانز، مؤسس متحف “أصدقاء صهيون”، والمقرّب من رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، والذي يقدّم نفسه بوصفه أحد صانعي فوز دونالد ترامب في ولايته الأولى، فقد حذّر من “التنازل عن أرض الكتاب المقدس لصالح الإسلام الراديكالي وكارهي اليهود”.

لقد كانت الرسالة واضحة لا لبس فيها: دولة الاحتلال تُقدَّم بوصفها تجسيدًا للحقيقة الكتابية، وخصمها يُختزل في “الإسلام الراديكالي”، بينما يُعاد تأطير الصراع كله على أنه مواجهة كونية بين فضيلة “يهودية-مسيحية” مزعومة وظلام “إسلامي”.

وهذه سردية قديمة، طالما أعاد نتنياهو وحلفاؤه تردادها, وردّدها الصهاينة المسيحيون بحماسة من يرون أنفسهم حرّاسًا لأرض مقدسة محاصرة.

لكن خلف هذا اليقين المسرحي، تكمن عملية محو مذهلة، فالعرض كله يقوم على خدعة كبرى: اختزال قصة فلسطين في صراع ثنائي بين اليهود والمسلمين، والادعاء بأن المسيحيين، بحكم الإيمان أو الهوية أو التاريخ، يقفون تلقائيًا في صف دولة الاحتلال، والواقع أن تشويهاً بهذا المستوى لا يمكن أن يصمد إلا بفعل الأيديولوجيا.

حضارة مشتركة

المسيحيون ليسوا غرباء في فلسطين، ليسوا زوّارًا ولا مراقبين ولا أقلية ديكورية، إنهم شعب أصيل، ضارب الجذور، جزء بنيوي من الهوية الفلسطينية، أقدم من الصهيونية، وأقدم من الدول القومية الأوروبية، وأقدم حتى من اللاهوتيات السياسية التي تُستدعى اليوم لتبرير مشروع دولة الاحتلال.

على مدى أكثر من أربعة عشر قرنًا، عاش المسلمون والمسيحيون في فلسطين، لا في تعايش متوجس، بل داخل حضارة مشتركة، نادرًا ما شهد التاريخ مثيلًا لعمقها واستمراريتها وتجذرها في الحياة اليومية.

تبدأ هذه القصة بلحظة يتجاهلها الحجاج الإنجيليون عمدًا، ففي عام 637 للميلاد، حين سلّم بطريرك القدس صفرونيوس مفاتيح المدينة، اشترط أن يتسلمها الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه، وقد جاء عمر من المدينة المنورة مع خادم واحد وجمل واحد، يتناوبان الركوب والسير.

وعندما اقتربا من القدس، كان الخادم هو الراكب، بينما كان عمر يقود الجمل، فظن أهل المدينة أن الخادم هو الخليفة، ودخل حاكم إمبراطورية مترامية الأطراف القدس بثياب خشنة، بلا موكب ولا استعراض، رافضًا أن تكون السلطة مرادفًا للمشهدية.

وقّع عمر “العهدة العمرية”، التي ضمنت للمسيحيين أرواحهم وكنائسهم وممتلكاتهم وحرية عبادتهم، ولم تُدمّر كنيسة واحدة، ولم يُجبر مسيحي واحد على تغيير دينه، لم تقع مذبحة، ولم يحدث نهب، على عكس ما ارتكبه الصليبيون لاحقًا عام 1099، حين ذبحوا المسلمين واليهود والمسيحيين الشرقيين معًا في واحدة من أكثر فصول العنف المقدّس دموية.

ثم جاءت لحظة فارقة في أخلاقيات السلطة، عندما حان وقت الصلاة، دعا البطريرك صفرونيوس الخليفة عمر إلى الصلاة داخل كنيسة القيامة، لكن عمر رفض، ولو صلى هناك، لأعطى ذريعة لأجيال لاحقة للاستيلاء على الكنيسة بحجة أن “عمر صلى هنا”.

لقد صلّى على درج الكنيسة، وأصدر قرارًا يمنع المسلمين من تحويلها إلى مسجد، ولم يكن ذلك مجرد تسامح، بل ضبطًا مبدئيًا للقوة، وفلسفة حكم تقوم على حماية الآخر.

حضور مسيحي راسخ

لم يكن ذلك النهج استثناءً عابرًا، بل تقليدًا مستمرًا، فعندما حرّر القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي القدس بعد قرون، لم يتم فرض نظام إدارة كنيسة القيامة على الطوائف المسيحية فرضاً، بل قُبل بوصفه حلًا يضمن الاستقرار.

ولتفادي الصراعات بين الطوائف المسيحية المتنافسة، أُوكلت مفاتيح الكنيسة إلى عائلتين مسلمتين مقدسيتين: جودة الحسيني ونسيبة، في ترتيب اعترف به المسيحيون أنفسهم بوصفه ضمانة للسلام.

وبعد نحو 850 عامًا، ما تزال هاتان العائلتان تفتحان أبواب الكنيسة فجرًا وتغلقانها ليلًا، ليس ذلك هيمنة، بل رعاية مشتركة، وطقس يومي من الحراسة المتبادلة للمقدّس.

هذا النسيج المشترك امتد إلى التاريخ الفلسطيني الحديث، فخلال الثورة الفلسطينية الكبرى بين عامي 1936 و1939، لم يكن المسيحيون على هامش النضال الوطني، بل في قلب قيادته. 

فقد شغل فؤاد صبا منصب سكرتير اللجنة العربية العليا قبل أن ينفيه البريطانيون إلى جزر سيشيل، إلى جانب قيادات وطنية أخرى، من بينها ألفرد روك، الفلسطيني المسيحي البارز من يافا.

وحملت راية الثورة الهلال والصليب متعانقين، في تعبير رمزي عن حركة وطنية صاغتها ديانتان معًا.

قيادات مسيحية في صلب القضية

لم يتوقف الحضور المسيحي الفلسطيني عند حدود التاريخ الوسيط أو الرمزية الوطنية، ففي القرن العشرين، أسهم المسيحيون الفلسطينيون في صياغة البنية الفكرية والسياسية للمقاومة الفلسطينية الحديثة، وأنتجوا أسماءً لا يمكن فصلها عن تطور القضية نفسها.

كان جورج حبش، مؤسس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحد أبرز مهندسي الفكر السياسي المقاوم، إلى جانب نايف حواتمة، الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، لم يكونا شخصيتين هامشيتين أو استثناءين طائفيين، بل جزءًا من تيار وطني عريض تجاوز الانتماءات الدينية لصالح مشروع تحرري جامع.

وفي الميدان الدبلوماسي، برزت حنان عشراوي كواحدة من أكثر الأصوات الفلسطينية بلاغة وتأثيرًا على الساحة الدولية، حاملةً الرواية الفلسطينية إلى المحافل العالمية بلغة أخلاقية وسياسية عميقة.

أما في الثقافة والفكر، فقد منح إميل حبيبي، الروائي والساخر والسياسي، شكلًا أدبيًا لعبثية الحياة الفلسطينية تحت الاستعمار الاستيطاني، فيما أعاد إدوارد سعيد، أحد أهم مفكري القرن العشرين، صياغة فهم العالم للاستعمار والمنفى والسلطة.

لم يكن سعيد مجرد أكاديمي فلسطيني، بل عقلًا عالميًا ظل متجذرًا في التجربة الفلسطينية، رافضًا اختزالها إلى “نزاع” عابر.

وقد واصل هذا الإرث مفكرون فلسطينيون مسيحيون في الجامعات العالمية، مثل وائل حلاق وجوزيف مسعد في جامعة كولومبيا، حيث يواصلون تفكيك السرديات الاستعمارية والدفاع عن الحقيقة التاريخية الفلسطينية.

وقبلهم بوقت طويل، وضع خليل السكاكيني، التربوي المقدسي المسيحي والمفكر الإصلاحي، أسس التربية الوطنية الفلسطينية الحديثة، داعيًا إلى الاعتزاز باللغة العربية والاستقلال الفكري ومناهضة الطائفية، في لحظة كانت فلسطين تُعاد صياغتها وفق خرائط استعمارية.

كما أسست عائلة ناصر المسيحية من بيرزيت ما أصبح لاحقًا جامعة بيرزيت، القلب الفكري للحياة الوطنية الفلسطينية، حيث بدأت المبادرة عام 1924 مدرسةً ابتدائية للبنات، شاركت في تأسيسها نبيهة ناصر، المربية والناشطة النسوية والسياسية، في تحدٍّ مباشر للبنى الاستعمارية والاجتماعية السائدة آنذاك.

الموسيقى والذاكرة والإنسان

في الفنون، لم يكن الحضور المسيحي أقل مركزية، فقد حمل الإخوة الثلاثة سمير ووسام وعدنان جبران آلة العود الفلسطينية عبر فرقة “الثلاثي جبران” إلى المسارح العالمية، مزاوجين موسيقاهم بكلمات محمود درويش، شاعر فلسطين الأكبر، المسلم الذي صار صوته جزءًا لا يتجزأ من نغمهم.

تُكثّف هذه الشراكة جوهر فلسطين نفسه، إنها مجتمع تداخل فيه المسلم والمسيحي فكريًا وفنيًا وإنسانيًا، قبل أن يأتي الاستعمار الاستيطاني لتمزيق هذا النسيج.

وقبل أسابيع، وخلال إحياء الذكرى العشرين لتعاون الثلاثي جبران مع درويش في لندن، استعاد سمير جبران قصة مقطوعة “الأشجار التي نرتديها”، التي كُتبت بوصفها أغنية حب خالصة، إصرارًا على حق الفلسطيني في أن يُرى ككائن رقيق، رومانسي، كامل الإنسانية.

في عرض رام الله عام 2019، حضرت شيرين أبو عاقلة الحفل، ووصفت القطعة بأنها المفضلة لديها، وبعد ثلاث سنوات، قُتلت شيرين، الصحفية الفلسطينية الأميركية المسيحية، برصاص جندي من جيش الاحتلال أثناء تغطيتها اقتحامًا عسكريًا في جنين.

وُجد جسدها قرب شجرة، في صورة استعادها سمير جبران بهدوء مؤلم، كأنها ارتدت تلك الشجرة، صدىً مأساويًا لعنوان المقطوعة. لاحقًا، أهدى الثلاثي العمل لذكراها.

وخلال جنازتها في القدس المحتلة، أصرّ المشيعون على حمل نعشها سيرًا على الأقدام، ووقف المسلمون والمسيحيون معًا لحمايته، بينما اعتدى جنود جيش الاحتلال على حاملي النعش، محولين الجنازة نفسها إلى فعل مقاومة.

طمس متعمّد

تكشف هذه السيرة الجماعية زيف السردية الصهيونية الإنجيلية، فالمسيحية الفلسطينية ليست بقايا تاريخية، ولا ظاهرة في طريقها إلى الاندثار بفعل “الزمن”.

لقد كانت، وما تزال، جزءًا محوريًا من الخيال السياسي الفلسطيني، ومن إنتاجه الثقافي ومؤسساته التعليمية ولغته الأخلاقية، وهذا بالضبط ما تسعى دولة الاحتلال، ومعها رعاتها من الصهاينة المسيحيين، إلى محوه.

ففي عام 1948، فجّرت عصابات صهيونية فندق سميراميس في القدس، ما أدى إلى مقتل 25 فلسطينيًا مسيحيًا، وفي العام نفسه، أعدمت قوات الاحتلال 12 مسيحيًا من قرية إيلبون.

هجّرت النكبة نحو 90 ألف مسيحي فلسطيني، وأغلقت قسرًا قرابة 30 كنيسة، مفرغةً مجتمعات عريقة من سكانها.

وخلال الإبادة الجماعية الجارية في غزة، لم تسلم الكنائس من القصف، فقد استُهدفت كنيسة القديس برفيريوس الأرثوذكسية، إحدى أقدم الكنائس في العالم، ما أدى إلى مقتل عائلات كانت تحتمي داخلها، كما طالت الضربات كنيسة العائلة المقدسة الكاثوليكية.

لم يكن ذلك سابقة، ففي عام 2002، فرض جيش الاحتلال حصارًا مسلحًا على كنيسة المهد في بيت لحم استمر 39 يومًا، في أول اعتداء من نوعه على الكنيسة منذ تأسيسها في القرن الرابع.

خارج غزة، تتعرض الحياة المسيحية الفلسطينية لضغوط ممنهجة: منازل وأديرة ومستشفيات ومدارس ومراكز ثقافية دمّرت أو تضررت، فيما هاجمت مجموعات استيطانية بلدة الطيبة المسيحية مرارًا، واعتدت على ممتلكاتها وهددت سكانها.

حماسة أيديولوجية

قبل النكبة، كان المسيحيون يشكلون نحو 12.5% من سكان فلسطين، أما اليوم فلا تتجاوز نسبتهم 1%، ويحذر رجال دين وقيادات مجتمعية، من بينهم القس منذر إسحق، من أن استمرار الظروف الحالية قد يؤدي إلى اختفاء الوجود المسيحي الأصيل في فلسطين بحلول عام 2050.

في القدس، يُبصق على الكهنة ويضايق الرهبان علنًا، فيما يصف وزير الأمن القومي في دولة الاحتلال، إيتمار بن غفير، هذه الممارسات بأنها “تقليد يهودي قديم”، أما الصهاينة الإنجيليون، الذين لا يتوقفون عن الحديث عن “القيم الكتابية”، فيلوذون بالصمت.

هذا الصمت ليس عارضًا، إنه امتداد لتاريخ طويل من تديين العنف، فالصليبيون، بدورهم، لفّوا أطماعهم بالكتاب المقدس، وباركوا المجازر باسم الإيمان، غير آبهين بحياة المسيحيين الشرقيين أنفسهم.

واليوم، يكرر الصهاينة المسيحيون النهج ذاته: حماسة بلا إيمان، أيديولوجيا متنكرة في ثوب ديني تُجرّد المسيحية واليهودية من عمقهما، وتُسخّران الدينين لخدمة مشروع استعماري يسحق المسيحيين الذين قدّس أسلافهم هذه الأرض أولًا.

يدافع هؤلاء عن دولة تقصف الكنائس، وتقتل المدنيين المسيحيين، وتهجّر العائلات من أرضها، بينما يعلنون عزمهم تدريب عشرات آلاف المبشرين لخدمة مشروع دولة الاحتلال، متجاهلين عن عمد محو أقدم المجتمعات المسيحية في العالم.

لكي تنجح هذه المسرحية، يجب شطب المسيحيين الفلسطينيين من الرواية، فوجودهم ينسف أسطورة “غرب يهودي-مسيحي” في مواجهة عدو مسلم متخيل.

لقد جاء القساوسة بحثًا عن النبوءة، فساروا بين شعب مسيحي حيّ ولم يروه، زعموا الدفاع عن المسيحية، بينما أداروا ظهورهم لأقدم جماعاتها، وفي جوهر الأمر، خلطوا الولاء السياسي بالإيمان، وعبدوا القوة باسم التقوى.

للاطلاع على المقال الأصلي من (هنا)

مقالات ذات صلة