بقلم جوناثان كوك
بعد مرور أربعة أيام على الزلزال المروع في سوريا وتركيا، رضخت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وقررت واشنطن تغيير سياستها فرفعت العقوبات المفروضة على سوريا في نهاية المطاف، في مشهد بدا فيه أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمل تبعات الحظر في ظل مئات آلاف الضحايا والمنكوبين.
ولم تستطع الولايات المتحدة الظهور بمظهر الغريب الذي يواجه موجة عالمية من القلق على مصير المتضررين، أما بموجب الإعفاء الجديد، ستصبح الحكومة السورية قادرة على تلقي الإغاثة لستة أشهر قبل إعادة الحظر من جديد.
في الحقيقة، لا ينبغي لأحد أن ينخدع بهذا التغيير الشكلي، والذي يهدف إلى حفظ ماء وجه لواشنطن ليس إلا، تذكروا أن الولايات المتحدة قالت في السابق أنها تريد تحرير السوريين من الطاغية، ثم كانت على استعداد لتركهم يموتون من البرد والجوع، لأن الحقيقة أن ما يهم الغرب في سوريا ليس السوريين، إنما ميزان القوى فقط.
في أول رد فعل على الزلزال، كانت واشنطن مصرة على مضاعفة سياستها تجاه النظام السوري، حتى أن المتحدث باسم وزارة الخارجية، نيد برايس، رفض مجرد الحديث عن رفع العقوبات، باعتبار أنه “سيأتي رفع العقوبات بنتائج عكسية مع حكومة مارست الوحشية مع شعبها لأكثر من 10 سنوات حتى الآن”.
وفي الواقع، فإن نظام العقوبات الذي فرضته الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا وكندا وأستراليا كان سياسة إجرامية قبل الزلزال بزمن، غالإعفاء القصير أو الطويل بسبب ضغط دولي لا يغير الدافع الحقيقي، لطالما كانت المزاعم الغربية للتدخل بالشأن الإنساني بالشرق الأوسط الغني بالنفط كذبة، والهزة الأرضية جاءت لتزيد ذلك وضوحاً ليس إلا.
عقوبات جماعية
العقوبة الجماعية بطبيعتها تمتد آثارها على شرائح واسعة من السكان، فالغرب كان يعاقب السوريين على العيش في ظل حكومة لم ينتخبوها، حكومة تصمم الولايات المتحدة على إسقاطها بأي ثمن، فلقد فُرض الحظر الغربي على سوريا بالتزامن مع حرب أهلية سرعان ما حولها إلى حرب غربية بالوكالة، طالت كل سوريا، كما قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بتغذية الحرب وإشعالها، حتى أنها قدمت الرعاية لمجموعات الجهاديين المتمردين، الذين فشلوا في نهاية المطاف في الإطاحة بنظام الأسد.
الغرب كان يعاقب السوريين على العيش في ظل حكومة لم ينتخبوها، حكومة تصمم الولايات المتحدة على إسقاطها بأي ثمن
خلال الحرب، كانت تلك الجماعات الجهادية تتدفق من البلدان المجاورة إلى فراغ خلفته محاولات الإطاحة بالنظام السوري على أساس “الإنسانية الغربية” المصطنعة، حرب أجبرت ملايين السوريين على الفرار من ديارهم هرباً من دائرة القتال، مما أدى إلى انتشار الفقر وسوء التغذية بشكل كبير، واستمر الاقتصاد السوري بالانهيار، ليس فقط بسبب العقوبات الغربية، وإنما لأن الولايات المتحدة وغيرها استولت على حقول النفط السورية وأفضل أراضيها الزراعية.
كارثة الحرب التي صنعها الانسان سبقت الزلزال المدمر، وفاقمت من آثاره على السوريين المعوزين والجوعى والمعزولين بالفعل، تاركة إياهم لمواجهة المزيد من المصاعب.
المنطق المفترض!
كان المنطق المفترض لسياسة الغرب، التي استمرت منذ أكثر من 10 سنوات حتى الآن، والتي تم تشكيلها على النموذج الأمريكي لمواجهة الأعداء الرسميين، بسيطاً في البداية، حيث كان من المفترض أن يتم تحفيز السوريين اليائسين على الانتفاض ضد النظام تتدخل القوى الغربية لتقديم الدعم والاستحواذ على الموقف، لكن المشروع فشل، تماماً كما حدث في سيناريو كوبا وإيران في السابق، ومع ذلك ألبسه الغرب ثوب الإنسانية واستمروا به!
عندما حدث الزلزال، انقلب الطاولة على رأس واشنطن، فأصبح إصرارها على العقوبات من منطلق “إنساني”، سياسة قاتلة في ظاهرها، ولكن لا يجب التركيز على استجابة واشنطن ورفع العقوبات مؤقتاً، بل يجب أن ينصب التركيز على سبب وجودها في المقام الأول، فالمنطق الغربي انشغل بمعاني رفع العقوبات، فرفعها يعني الاعتراف بحكومة الأسد وبالتالي الاعتراف بهزيمة الإطاحة به، وبذلك فإن حماية صورة واشنطن وموقفها أهم من عذاب السوريين، حقيقة تكذب أي ادعاء غربي بالانسانية في سوريا!
في المقابل، على ما يبدو، لا يرى الغرب أنه ينبغي ادخار أي ثمن لإنقاذ الأوكرانيين “ذوي المظهر الأوروبي” من الغزو الروسي، حتى لو تطلب ذلك مواجهة نووية، بينما يسهل التخلي عن السوريين لأنه لا يمت لأوروبا بصلة بمجرد التوقف عن بث مشاهد المباني والأنقاض على شاشات التلفاز والقنوات الغربية.
صراع على السيادة
إذا أردت أن تفهم الغرائز الإنسانية المفترضة لدى الغرب، فعليك التعمق أكثر، أعمق بكثير، فمساعدة الأوكرانيين من خلال تسليحهم بالدبابات والطائرات مقابل حرمان السوريين من الضروريات، مواقف متناقضة لا يمكن اعتبارها معايير مزدوجة فقط، بالنسبة للغرب، تعمل كلتا السياستين على تحقيق الهدف نفسه، وهو هدف لا يتعلق لا برفاهية الأوكرانيين ولا وضع السوريين، الهدف هو تحقيق التفوق الغربي بفرض السيادة، وهو أمر يظهر في الخلفية بشكل أو بآخر في كلتا الحالتين لأن العدو الرسمي الذي يريد أن يراه الغرب “ضعيفاً” هو نفسه، روسيا طبعاً!
كانت الحكومة السورية من آخر الحكومات التي اصطفت في حلف روسيا في الشرق الأوسط، بما في ذلك منح البحرية الروسية إمكانية الوصول إلى البحر الأبيض المتوسط عبر ميناء طرطوس، هذا كان أحد أهم الأسباب التي جعلت الغرب حريصاً على رؤية حكومة الأسد محطمة، بالمقابل دعمت روسيا دمشق عسكرياً ضد المتمردين الذين دعمهم الغرب، وأحبط محاولاتهم للإطاحة بالنظام.
تزامناً مع ذلك، كانت اوكرانيا تتحول تدريجياً إلى قاعدة أمامية غير رسمية لحلف الناتو على أعتاب روسيا، ولهذا أرادت موسكو إخافة كييف، الأمر الذي استحث الدعم الأمريكي القوي لأوكرانيا عسكرياً.
استناداً إلى ما سبق، فإن الغرب لا يعتبر معاقبة سوريا سياسة خارجية تخضع للأخلاق، حيث يتم تبريرها بالنظر إلى العالم وشعوبه من خلال عدسة واحدة فقط، لا ترى إلا خدمة المصالح المجردة للقوى الغربية والولايات المتحدة في المقام الأول، وكما هو الحال دائماً، يلعب الغرب لعبته الاستعمارية الكبرى عبر مؤامرات لفرض القوة بترتيب قطع الشطرنج الجيوستراتيجية بأفضل ترتيب ممكن، ترتيب يشمل المصالح والهيمنة العسكرية العالمية والسيطرة على الموارد المالية الرئيسية مثل النفط.
الجريمة الكبرى
مع الزلزال الأخير، لم تفكر الولايات المتحدة وحلفاؤها بكيفية تخفيف معاناة السوريين، بل قررت أن تلعب لعبة التبديل والطعم، بدأت بإلقاء اللوم على دمشق لمنعها وصول المساعدات إلى المناطق الشمالية المتضررة و الخارجة عن سيطرتها، فقد اشتكى الرئيس السابق للشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة، مارك لوكوك، من ذلك بقوله “سيتطلب الأمر إذعان تركيا للحصول على المساعدة في تلك المناطق، فالحكومة السورية لن تفعل الكثير هناك”.
بعد أيام من الزلزال، وصلت أول شحنة مساعدات أممية عبر معبر من تركيا، ووافقت الحكومة السورية على إيصال المساعدات للمناطق الخارجة عن سيطرتها شمال غرب سوريا، فرد متحدث باسم “جماعة تحرير الشام” في إدلب عبر وكالة رويترز بقوله “لن نسمح بدخول المساعدات من المناطق التي يسيطر عليها النظام، لن نسمح للنظام باستغلال الوضع بهدف إظهار نفسه بمظهر الذي يقدم المساعدة”، وبعيداً عن رواية الغرب، فإن الإحجام عن فتح شمال سوريا أمام قوافل المساعدة ليس مجرد نتيجة للسياسة الدموية التي انتهجتها دمشق.
بعيداً عن رواية الغرب، فإن الإحجام عن فتح شمال سوريا أمام قوافل المساعدة ليس مجرد نتيجة للسياسة الدموية التي انتهجتها دمشق
صحيح أن الواقع اليوم، هو أن الحكومة السورية تسيطر على غالبية الأرض، لكنها فقدت السيادة على الأمة السورية، فالولايات المتحدة ساعدت في إنشاء زاوية شمالية شرقية كبيرة تتمتع بحكم ذاتي للأكراد، وأجزاء اخرى من الشمال في أيدي جماعات جهادية متطرفة، تهيمن عليها فروع تنظيم القاعدة وداعش ومقاتلين مدعومين من تركيا، هذا التشرذم يعد عقبة كبيرة في وجه جهود الإغاثة اليوم، أما الحكومات، فبحكم طبيعتها، ترغب دوماً في تأكيد سيادتها على الأرض كاملة.
أما حكومة الأسد تحديداً، فلديها سبب إضافي للقلق، حيث أنها ترى أن هناك مخاطر جسيمة وراء سماحها بحصول الجماعات المتمردة في الشمال على أي فضل في التعامل مع حالة الطوارئ، والحصول على مزيد من التأييد من قبل السوريين وربما المزيد من العرب، فدمشق تعتبر السماح للجماعات المعارضة بتولي عمليات الإغاثة بمثابة وصفة لتلاشي سلطتها مع قطاعات كبيرة من السوريين، ومقدمة لإعادة إحياء الحرب الأهلية في سوريا.
“شر متراكم يطال الجميع”
ليست الفكرة في أنه لا يمكن إلقاء اللوم على الأسد وحكومته، لأن اللوم حاصل بالتأكيد، لكن ما يستدعي الانتباه أنه بغض النظر عما تعلنه القوى الغربية اليمينية، فإن تدخل القوى الخارجية لإسقاط الحكومات لن يؤدي يوماً إلى نتائج إنسانية، حتى لو كان يمكن تحقيق عملية الإطاحة بالنظام بشكل أسرع، وهو ما لا ينطبق على سوريا بطبيعة الحال، ولهذا السبب يعيدنا التاريخ إلى إعلان محاكمات نورمبرغ للقادة النازيين بعد الحرب العالمية الثانية، أن العدوان على الأراضي ذات السيادة لدولة أخرى هو “جريمة دولية عظمى وشر متراكم يطال الجميع”.
تؤدي الهجمات على الدول ذات السيادة إلى فقدان الصمغ الذي يربط السكان ببعضهم البعض، وتنتج عنه عواقب لا يمكن التنبؤ بحجمها أحياناً، فقد أدى احتلال الغرب لأفغانستان على مدى 20 عاماً، إلى إنشاء دولة المحسوبيات، حيث سرق المسؤولون المحليون الفاسدون الأموال الأمريكية المخصصة لبناء الدولة، كما تحولوا إلى دمى بأيدي القوى الإقليمية، فوضى عنيفة تسببت بها واشنطن أدت إلى عودة طالبان.
وبعد غزو الولايات المتحدة وبريطانيا للعراق عام 2003، وحل الشرطة والجيش العراقيين، لم تحقق واشنطن أياً من وعودها “بالحرية والديمقراطية”، بل على العكس من ذلك، خلقت فراغاً في السلطة مزق البلاد وأدى إلى تنافس إيران والجماعات المتطرفة على السلطة.
كما أدت إطاحة الغرب بحكومة معمر القذافي في ليبيا عام 2011، إلى تحويل ليبيا إلى مكان أسواق العبيد، وملاذاً للمتطرفين وقناة لتهريب الأسلحة إلى مناطق الصراع الأخرى، مثل سوريا، التي نراها اليوم ضحية إرث “الإنسانية الغربية” مرة أخرى، فدمشق التي أضعفتها سنوات الحرب بالوكالة ونظام العقوبات الغربي، هشة للغاية وخائفة من المخاطرة بالتنازل عن أي جزء من سلطتها لصالح المعارضين.
وسط كل ذلك، يظل من يعاني مرة أخرى من الزلزال هذه المرة، ليست لا حكومات واشنطن زلا دمشق ولا عواصم أوروبية، سيعاني السوريون، نفس الأشخاص الذين يدعي الغرب أنه يريد إنقاذهم!
المصدر: ميدل إيست آي